post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

في هذا المقال سنحاول، بمقدار ما، ملامسة أحد الإشكالات الكبرى التي يعالجها كتاب &#8220;القرآن والنبوة&#8221; للأستاذ عبد السلام ياسين، ورد في نهاية الفصل الأول حيث يقول: نبدأ إن شاء الله تعالى في الفصول التالية بتأمل البناء الأول كيف تم. ثم كيف انتقض عُروة عُروة. ونتأمل أسباب الانتقاض، ونلتمس منهاج النبوة لإعادته كما كان، وهو إشكال يختزن ضفيرة من الأفكار تشكل في بنائها التركيبي مفاتيح ضخمة لفهم واقعنا وقراءة تاريخنا واستشراف مستقبلنا. سنحاول ملامسة هذا الإشكال، رغم صعوبته، عبر الفصول الثلاثة الأخيرة للكتاب، أي حوالي ستين صفحة، مستحضرين مع الكاتب أن هذا الكتاب ليس كتاب تاريخ ووصف، إنما هو كتاب منهاج تكفي الإشارة فيه إلى مغزى مراحل السيرة النبوية، وهي النموذج في تربية الرجال في الميدان. وهذا ما سيجعل لبنات مقالنا تتمفصل على الشكل التالي: 1/البناء الأول 2/الانتقاض و أسبابه 3/منهاج النبوة لإعادة البناء لابد من الإشارة في البدء إلى فكرة أساسية ومحورية تدور حولها رحى الكتاب، وتبرز بشكل جلي عبر القراءة المتأنية، وهي أن الكنز الغالي الذي بين أيدينا اليوم هو السيرة المحمدية التي تعطينا المثال الحي لحركة جند الله منذ البدء إلى تأسيس دولة القران و اكتمال الدين.
<h2>البناء الأول</h2>
<h2>البناء التربوي:</h2>
تساءل العديد من المفكرين الإسلاميين، وعلى رأسهم الشهيد سيد قطب رحمه الله، عن &#8220;منهج&#8221; الرسول صلى الله عليه وسلم في تربية الجيل الأول، بيد أن الأستاذ عبد السلام ياسين انتبه إلى ظاهرة فاصلة وأساسية فتنت معاصري الرسول صلى الله عليه و سلم ولم يعطها المفكرون الإسلاميون حقها وهي ظاهرة الاهتداء المفاجئ والتحول الغريب الذي يطرأ على المرء بمجرد اتصاله بالرسول صلى الله عليه و سلم حتى قال الناس عنه &#8220;ساحر&#8221;. والأستاذ عبد السلام ياسين بهذا يؤسس لمحورية الصحبة في البناء الأول لذلك يرى أن نقطة البدء في حركة الإسلام الأولى هي لقاء الإنسان بنور الهداية في شخص حامل الهداية. كان الرجل يلتقي بالرسول صلى الله عليه وسلم فيسمع منه فإذا به يتحول، وكأنه خرج من دائرة ظلام إلى دائرة نور، فيقوى على مجابهة الناس ويعذب حتى الموت وهو متمسك بعقيدة التوحيد. لا إله إلا الله. والطاقة التي تحول الإنسان بهذا المقدار وبهذه السرعة لا تكمن في فصاحة الداعي إلى الله المرسل من عنده ولا في رغبة المدعو وحنينه إلى تغيير ما فيه من عقائد وأحوال، إنما تكمن في شخص الداعي إلى الله بإذنه الذي أنزل معه نور. وهذه الطاقة، وهذا النور، هذا المغناطيس الروحي للداعي إلى الله الأكبر عليه صلوات الله وسلامه كانت المحرك الأول للإسلام، قال الله تعالى: لقد مَنَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم ءاياته و يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. يعلق الأستاذ المرشد مِنَّةُ الله على أُمة الإسلام أن بعث فيها رسولا يزكي أي يربي ويطهر ويعلم الكتاب ومعه الحكمة&#8230;ومع النبي الأمي نور ورحمة وسكينة وتأييد ونصر.كل هذه معان غيبية تجسدت في المجتمع القرآني فكان ظهور الإسلام معجزة تاريخية. معجزة في تأليف أمة موحدة بين أعرق البشر في العصبية الجاهلية. معجزة عسكرية. معجزة أخلاقية. معجزة إيمانية. معجزة كلية جعلت من عرب أميين قادة النصر، وأئمة العلم، وهداة البشرية، ومحرري الشعوب. <a id="_ednref1" href="#_edn1">[1]</a> قال تعالى: محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود. يجمل الأستاذ عبد السلام ياسين شروط تربية جيل الصحابة رضوان الله عليهم انطلاقا من الآية قائلا: رحماء بينهم أشداء على الكفار. القرآن هدى ورحمة وبشرى للمحسنين. وحول محمد صلى الله عليه و سلم صحابة رحماء بنفس الرحمة، مهديون بنفس الهدى. قرآن يُتلى فيتجسد حقائق تسعى بين الناس. وحي يأتي به جبريل عليه السلام فلا يلبث أن يتحول التعليم القرآني حياة نابضة بالأخوة و القوة. الرُّكَّع السُّجَّد لا يبتغون سوى فضل الله ورضوانه. <a id="_ednref2" href="#_edn2">[2]</a> إذن بصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومجالسته ومخالطته تم تحويل جيل الصحابة، وبصدقهم في صحبته أصبحوا خلقا جديدا وبالقرآن ابتنيت نفوس مؤمنة، ومجتمع مؤمن، وحركة في العالم إيمانية.
<h2>البناء التنظيمي:</h2>
يعبر النطق النبوي عن البناء العضوي للجماعة المسلمة، فيشبهه بالجسد الواحد يشتكي كله باشتكاء عضو منه، وبالبناء المرصوص يشد بعضه بعضا، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أشداء على الكفار رحماء بينهم. يعلق الأستاذ ياسين: تلك الشدة توتر يستند إلى هذه الرحمة، وتستمد قوتها منها. يقاتلون حبا لله وفداء لرسول لله ورحمة بينهم. حبل الحب لله وفي الله ممتد قوي وثيق. لاجرم أن تنكسر على حده قوى العنف الجاهلي وعصبياته. <a id="_ednref3" href="#_edn3">[3]</a> بالحب في الله تخلص الصحابة رضوان الله عليهم من أنانيتهم المتحجرة المستعلية غيران تلاحم المحبة لا يكفي وحده لبناء صلب مرصوص لذلك كان رسول الله صلى الله عيه وسلم أول ما يطلب ممن آمن به أن يبايع على السمع و الطاعة. ولأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فالرسول يمضي الصفقة بالمعنى الحرفي للكلمة، أي انه يصافح المؤمن إيذانا بان البيع بين الله تعالى وعبده قد أمضى. ولا يخرج المؤمن من الجاهلية خروجا كاملا إلا بالمبايعة الجهادية لانه يرصد ماله ونفسه لاعلاء كلمة الله، فيصير إنسانا جديدا وحرا كحرية ربعي ابن عامر الذي قال على بساط رستم قولته الخالدة: الله ابتعثنا ليخرج بنا من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. قال تعالى: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فكانت مبايعة رسول الله مبايعة الله و يد الله فوق أيدي المبايعين، لذلك فإن المبايعة بهذا المعنى، حسب الأستاذ ياسين، هي ميلاد الفرد في الجماعة، بيد أن البناء الصلب القويم يقتضي ناظمة ثالثة، غير المحبة والطاعة، وهي ما عبر عنه القران بالتواصي بالصبر والحق والمرحمة وجمعه في لفظ قراني بليغ وهو النصيحة التي بدونها يخسر الإنسان وينهد البناء. قال تعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق و تواصوا بالصبر. يقول الكاتب: خرجت الرسالة العظيمة من صحراء العرب القاحلة بعد أن خصبت قلوب البدو الجفاة، فإذا هم بنعمة الله إخوانا. ثم انطلقوا يخصبون المجتمعات البشرية، يخرجون الناس من عبودية العباد لعبادة الله، يعلمون الإنسانية نمطا جديدا عاليا من الأخلاق والرحمة والعدل والسياسة. <a id="_ednref4" href="#_edn4">[4]</a>
<h2>البناء الجهادي:</h2>
بدأ الأنبياء والرسل عليهم السلام جهادهم في ظروف كانت الغلبة فيها للجاهلية، وما كان يتبعهم إلا المستضعفون. ما كان سر انتصارهم على الملإ المستكبرين بكثرة عدد ولا وفرة سلاح. ومن يتأمل البعثة المحمدية، وقلة المؤمنين في مكة أمام كثرة عدوهم، ثم يضع هذا الاعتبار في نطاق الجزيرة العربية وفي نطاق العالم لا يتصور أن حفنة من الرجال تستطيع ذلك الانتشار السريع الحاسم في ظرف خمسين سنة، يبلغ فيها سلطان الإسلام ودعوة الإسلام ذلك المبلغ. <a id="_ednref5" href="#_edn5">[5]</a> ويضيف في مكان آخر موضحا: لايمكن أن نفسر الانتصار العظيم الخاطف لجند الله بضعف الإمبراطورية الرومية، ولا بانحلال المملكة الفارسية، ولا بتفكك الدولة الفيزكوطية بإسبانيا.كانت هناك قوة معنوية،هي قوة الإيمان من وراء القوة العسكرية التي كان التفوق فيها للعدو أضعافا. <a id="_ednref6" href="#_edn6">[6]</a> وفي الفصل الثالث من الكتاب يركز الاستاذ ياسين على مدرسة الشدائد، التي كان لها اكبر الأثر في صياغة الشخصية الإسلامية المجاهدة، حيث تلقى الصحابة التربية على الهجرة و النصرة وهما معنيان خالدان. يقول الاستاذ المرشد: تآلفت الجماعة في مكة، وبرهنت بصمودها على أصناف الأذى وضروب البغي، بتماسكها، على انها مجتمع متميز، رغم بقاء المومنين في نطاق الأسرة و العشيرة. أدت التربية النبوية مهمتها في صياغة إنسان جديد، وربط علاقات جديدة متينة لا تنال منها المحن فأصبحت الجماعة قادرة على تحمل صدمات أقصى على درب الجهاد. واصبح قيام دولة القران ممكنا بوجود حملة للدولة و دعائم لبنائها.بيد أن عداء مكة وظروفها، وهيمنة الملا عليها، وعدم التوازن و التكافؤ الكبيرين بين القوة الناشئة والجاهلية المسيطرة لا تسمح بمحاولة القومة المباشرة.)كان لابد من أرض تحتضن دولة القرآن في ميلادها، وتحصنها من عدوان عالم الجاهلية، وهي لا تشكل عددا إلا نقطة في بحر. <a id="_ednref7" href="#_edn7">[7]</a> فكانت الهجرة إلى المدينة تحمل بذور دولة القران، وكانت النصرة أرضا ضرورية لبذرها وبيئة مناسبة لصلاحها. وهناك في المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فالتقت ثمار التربية بحكمة التنظيم. ثم ابتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فكان البناء الأول عملا اشترك فيه المهاجرون والأنصار. وأخذت الرابطة الجهادية تفتل. ثم عقد عليه السلام هدنة مع اليهود، فكان العقد بمثابة دستور مكتوب يتكامل مع المسجد المؤسسة المركزية، وعقد المؤاخاة. ثم بدأ يهيئ النفوس للتجنيد الدائم الذي كان ضروريا لبقاء عصبة الاسلام حية وسط محيط مناوئ. يرى الأستاذ ياسين أن كل هذه الإجراءات النبوية كانت خطوة حاسمة في الطريق إلى دولة القرآن، يقول في الفصل الأخير مشيرا إلى مراحل الزحف ودروسه: بدأ الجهاد مناوشات مع وثنيي العرب، ثم مواجهة مع الشرك والكفر والنفاق كافة في غزوة الخندق، ثم تفرغا لليهود، ثم يصعد الجهاد حتى يرتفع جند الله إلى قوة تقاتل القوى العالمية إذ ذاك في غزوتي مؤتة وتبوك. وتدرجت الصعاب من امتحان استعداد المؤمنين للقتال في غزوة بدر، فامتحانهم على الصبر في تحمل الهزيمة في أُحد، فامتحانهم على التوكل على الله ولو أجمع العالم كله على قتالهم في غزوة الخندق، ثم امتحانهم على الطاعة في صلح الحديبية، ثم امتحانهم على العفة عند المقدرة في فتح مكة، ثم امتحانهم على ألا تعجبهم كثرتهم في غزوة حنين، ثم الامتحان الأكبر في غزوة العسرة. <a id="_ednref8" href="#_edn8">[8]</a> وفي الختام ينبه الاستاذ عبد السلام ياسين: هكذا ألف رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة وهكذا تركها. بيضاء واضحة هي المحجة النبوية. لا إسلام الخمول والاستسلام، ولا الثورة و العنف، ولا الزهادة والانزواء، لكن القوة في خدمة الحق والعدل: اليقظة الإيمانية القلبية. <a id="_ednref9" href="#_edn9">[9]</a>
<a id="_edn1" href="#_ednref1">[1]</a>عبد السلام ياسين، القرآن والنبوة، ص 34 <a id="_edn2" href="#_ednref2">[2]</a>نفس المرجع، ص31 <a id="_edn3" href="#_ednref3">[3]</a>نفسه، ص61 <a id="_edn4" href="#_ednref4">[4]</a>نفسه، ص65 <a id="_edn5" href="#_ednref5">[5]</a>نفسه، ص44 <a id="_edn6" href="#_ednref6">[6]</a>نفسه، ص64 <a id="_edn7" href="#_ednref7">[7]</a>نفسه، ص78 <a id="_edn8" href="#_ednref8">[8]</a>نفسه، ص98 <a id="_edn9" href="#_ednref9">[9]</a>نفسه، ص101

في ظلال القرآن والنبوة..البناء الأول

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

قضايا فكرية

في ظلال القرآن والنبوة..البناء الأول

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الأمثلة في كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين

في ظلال القرآن والنبوة..البناء الأول

في ظلال القرآن والنبوة..الانتقاض وأسبابه

الشخصية المنهاجية ربعي بن عامر2/3

الشخصية المنهاجية: ربعي بن عامر 1/3

لمحات من حياة عظيمة

مقالات ذات صلة