بقلم:د. عمار حكمت فرحان محمود الحديثي، جامعة بغداد/ العراق
لقد كرم القرآن الكريم المرأة ورفع من شأنها الذي ابتُذل في الجاهلية. وموضوع اضطهاد المرأة معروف لدى القاصي والداني فقد ذكرت لنا كتب التاريخ أصنافا عديدة من ظلم المجتمعات و الحضارات الآفلة للمرأة، وهو ما لا حاجة لنا هنا أن نتطرق له، كما أن المجال لا يتسع؛ لذلك سنتكلم هنا عن حال المرأة في عصر النبوة وعن كيفية تعامل القرآن الكريم مع حرية المرأة ورسم حدود شخصيتها.
فالإسلام حرر المرأة: “وحدد القرآن معالم النموذج الإسلامي لتحريرها فسوًّى بينها وبين الرجل في الخلق والإنسانية والكرامة ومناط التكليف وملكاته والجزاء والحساب مع التمييز بين الأنوثة والذكورة حفظا لتميز وتكامل الفطرة التي فطر الله عليها النساء والرجال ليكون التكامل الدعوة الدائمة لتحقيق سعادة النوع الإنساني”[ref]عمارة، محمد، تحرير المرأة بين الغرب والإسلام، القاهرة، مكتبة الإمام البخاري للنشر والتوزيع، 2009م، 24.[/ref]
نعم لقد رسم القرآن الكريم كيانا جديدا للمرأة لم تكن عليه قبل الإسلام، فالقرآن الكريم نزل في وقت كانت المرأة فيه جزء من المتاع الذي يملكه الرجل حتى إذا ما مات اعتبرت جزء من الميراث، ولذلك وضع القرآن الكريم قوانين عدة للحفاظ على حقوق المرأة، وجعل لها شخصية مستقلة في عدد من الآيات القرآنية، قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا النساء: 124
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الحديد: 12
والملاحظ في هذه الآيات القرآنيةأنها ذكرت الأحكام الشرعية التي تشمل النساء والرجال، وهذا في كثير من آيات الاحكام إلا ما يقوم الدليل فيه على أن أحدها خاص بالرجل أو خاص بالمرأة؛ لأنه يكون ملائما لطبيعة كل منهما، وإن ذكر الإناث في الأحكام العامة فيه إشعار بكمال الإنسانية في المرأة، وأن لها حقوقا، وعليها واجبات اقتضاها التكليف فما من عبادة إلا طولبت بها المرأة كما طولب بها الرجل، وإن كان للرجل اختصاص في بعض العبادات كالجهاد، وسبب ذلك الرجولة ذاتها. والإعفاء من واجب شاق لَا يعد حرمانا، وفي الحقيقة إن المرأة تقوم بواجبات شاقة تنفرد بها أيضا، كالحمل والولادة، والقيام على شؤون الأولاد في المهد، والشرط الوحيد لقبول الأعمال هو صحة نية الفرد الذي قام بالعمل فالمرأة والرجل سواء في القيام بالأعمال الصالحة.[ref]ينظر: أبو زهرة، محمد بن أحمد، زهرة التفاسير، بيروت، دار الفكر العربي، ط 1، 4/ 1872.[/ref]
يقول الإمام المجدد رحمه الله تعالى: “مشاركة المؤمنات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركنٌ أساسي من أركان الدين. وحُرْمتُها في المجتمع المسلم حرمة عظيمة، تكون إذايتُها، ومنعُها من الحماية المادية والمعنوية، وخدشُ كرامتها، موجباتٍ للعنة الله، والعياذ بالله.”[ref]ياسين، عبدالسلام، العدل الإسلاميون والحكم، مطبوعات الأفق، ط/1، 2000م، 294.[/ref]
فبعد أن كان للرجل حرية التصرف بالمرأة كما يشاء يتزوج ويطلق ويظاهر بدون شرط أوقيد ويضرب ويعنف، جاءت هذه الآيات البينة لتقول إن للمرأة شخصية في المجتمع يجب أن تظهر وتحرر.
يقول الإمام رحمه الله: “رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام الأعظم، الزوج الراعي المعلم الذي يسن للأمة ويوصينا ربّنا عز وجل أن نتخذه أسوة حسنة، هاهو ذا تتكئ الزوج المصونة عائشة على منكبيه، وتتفرج على حبشة يلعبون. وأين؟ في المسجد. ثم لا تنتهي الفرجة بملل الزوج الرسول القدوة حتى تكون الزوج الحريصة على اللهو كما أخبرت عن نفسها في حديث البخاري هي التي تسأم. هكذا تُعامل أم المؤمنين وعليها ما ليس على النساء.”[ref]ياسين، عبدالسلام، تنوير المؤمنات، 1/ 60.[/ref]
لذلك على المجتمع وعلى المرأة بالخصوص فهم دور المرأة المسلمة، وإعطائها حقها، والبحث عن تحريرها التحرير الذي يصنع لها دورا في المجتمع الإنساني الذي تبني فيه نفسها الصالحة، ويجب التركيزعلى التحرير الجوهري لا التحرير بالمفهوم الضيق الذي يقول للمرأة اصنعي من نفسك ضداً للرجل واصنعي ما تشائي، بل هناك تكامل وتمايز يجب أن يُحترم:“وحين يتأمل الإنسان في نفسه. نفسه هذه التي لم يخلقها. والتي لا يعلم عن خلقها إلا ما يقصه الله عليه. وهي نفس واحدة. ذات طبيعة واحدة. وذات خصائص واحدة. خصائص تميزها عن بقية الخلائق، كما أنها تجمع كل أفرادها في إطار تلك الخصائص. فالنفس الإنسانية واحدة في جميع الملايين المنبثين في الأرض في جميع الأجيال وفي جميع البقاع. وزوجها كذلك منها. فالمرأة تلتقي مع الرجل في عموم الخصائص البشرية- رغم كل اختلاف في تفصيلات هذه الخصائص- مما يشي بوحدة التصميم الأساسي لهذا الكائن البشري.”[ref]قطب، سيد، في ظلال القرآن، دار الشروق – بيروت- القاهرة، ط7 – 1412هـ، 5/ 3039.[/ref]
والمتتبع للآيات القرآنية التي وضحت حال المرأة في عصر النبوة سيجد أن تلك الآيات تدل على أن المرأة شاركت الرجل في القيام بما أمرها الله تعالى به فهي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتهاجر في سبيل الله وتخرج من بيتها لمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما تشعر بالحيف والجور تخرج إلى الرسول الكريم لتسأله عن ظلم الزوج لها كما في مسألة الظهار.وفي هذا كله حرية فيها الكثير من معاني خدمة المجتمع وإقامة أوامر الله تعالى، فهي حرية مشروطة بالعمل الصالح الموافق لما أمر به الله تعالى.
وقدكانت المرأة في عصر النبوة واعية لشخصيتها التي حدد الإسلام معالمها، وانطلاقا من هذا الوعي استطاعت أن تمارس دورها الصحيح، فقد شاركت في الحياة الاجتماعية واستجابت لحاجات الحياة الجادة حالها كحال الرجل، ولم يقيد مشاركة المرأة للرجل غير مجموعة من الآداب الرفيعة التي تصون ولا تعطل. فقد شاركت في النشاط الاجتماعي والسياسي والعمل المهني حسب ظروف الحياة وحاجاتها في عصر الرسالة، ففي مجال النشاط الاجتماعي شاركت في عدة ميادين منها ميدان التثقيف والتعليم، وفي مجال النشاط السياسي حملت عقيدة تخالف عقيدة المجتمع والسلطة الحاكمة وواجهات الاضطهاد والتعذيب ثم هاجرت في سبيل عقيدتها، وفي مجال العمل المهني عملت في الرعي والزراعة والصناعات اليدوية والإدارة والعلاج والتمريض وأعمال النظافة والخدمة المنزلية.[ref]ينظر: أبو شقة، عبد الحليم، تحرير المرأة في عصر الرسالة، الكويت، دار القلم، ط 1، 1999م، 1/ 46_ 47.[/ref]
هذا كان حال المرأة في عصر النبوة، ففهمها للمهام الملقاة على عاتقها جعل منها امرأة واعية، تعرف أن لها هدفا ساميا في هذه الحياة، فكسبت ثقة نفسها وثقة الرجل، ثم انطلقت تبني مجتمعا ربانيا، خال من المنغصات.
ولعل موضوع الرق هو أكبر عقبة كانت تواجه المرأة في بداية الإسلام، وبالرغم من ذلك فهمت المرأة دورها في اقتحام هذه العقبة، واتبعت المنهج الإسلامي في معالجة هذا الأمر، هذا المنهج الذي جعل من ظاهرة الرق وسيلة للتغيير، قال الإمام رحمه الله: “الرِّق مدرسة لتخريج المؤمنين والمؤمنات. أسير الحرب وأسيرته لا يحشرون في معسكرات، بل يوكل شأن المرأة منهم والرجل للأسر المسلمة لتحسن إليهما، ولتؤلفهما بالإحسان، ولتحبب إليهما به الإيمان. «إخوانكم خولكم»[ref]البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، تحقيق محمد زهير الناصر، دار طوق النجاة، ط 1، 1422هـ، كتاب العتق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون»، رقم الحديث: 2545.[/ref] كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. «النساء وما ملكت أيمانكم»[ref]الهيثمي، أبو الحسن نور الدين بن أبي بكر، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تحقيق حسام الدين القدسي، القاهرة، مكتبة القدسي، 1994م، كتاب المناقب، باب وفاته صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث 14791.[/ref] آخر وصية له. وأمر صلى الله عليه وسلم من بيده عبد وأمة أن يلبسهما مما يلبس وأن يُطعمهما مما يَطْعَم. وأمر الله عز وجل أن تحرَّر الرقاب بمناسبات تتعدد في حياة المسلمين. فالفُرص لتخريج أفواج من المؤمنين والمؤمنات كثيرة. يرجع الرجل المحرر والمرأة إلى ديارهما وقومهما يحملان دعوة الإسلام وينشرانها بعد أن عاشا في الكنف الرحيم الذي عاملهما المعاملة الإنسانية الرحيمة وآواهما بعد قسوة الحرب إلى ظله الظليل.تدعو المرأة المحررة والرجل إلى دين أحباه ودخلا فيه لما أحبا أهله وعايشاهم ورأيا منهم من الخير وحسن المعاملة والإحسان ما عوضهما عن الأهل وأنساهما ماضيهما… فك الرقبة أول دليل على أن المؤمن والمؤمنة قد أخذا في اقتحام العقبة.“[ref]ياسين، عبدالسلام، تنوير المؤمنات، 1/ 26- 27.[/ref]
والمتتبع لسير النساء في عصر النبوة يجد أنهن قد ضربن للنساء أروع الأمثلة في تطبيق منهاج النبوة ومن هذه الأمثلة أمنا خديجة رضي الله عنها: “همة امرأة وثباتها وعطاؤها كانت الأساس الخلقي المعنوي الذي رُكِّزَ عليه لواء الإسلام.أمنا خديجة رضي الله عنها حاطت محمدا بعنايتها، وتزوجت، وأنفقت. وهي زوّدته لغار حراء يتبتل. وهي أول من آمن به وصدقه وثبته لما جاءها يرجُف من رؤية الملك الذي جاءه بالوحي. قالت له وقد بث إليها أنه خشي على نفسه: «كلا! أبشر! فوالله لا يخزيك الله أبدا! إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمِل الكَلَّ، وتكسِبُ المعدوم، وتَقْرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق»[ref]البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، رقم الحديث: 3.[/ref].”[ref]ياسين، عبدالسلام، تنوير المؤمنات، 1/ 77.[/ref]
مماسبق يتضح لنا أن حال المرأة في عصر النبوة كان في أعلى مراتب الازدهار والكمال، فالمرأة عرفت دورها، وعملت على تنقية نفسها من أدران الجاهلية، وطبقت المنهاج الذي يريده الله تعالى، ثم انطلقت مطبقة لوظيفتها التي أمرها الله عز وجل بها على كافة الجوانب، ابتداءً من البيت وانتهاءً بالمجتمع.
المصدر: موقع المرأة المسلمة من التغيير في نظرية المنهاج النبوي انطلاقا من كتاب تنوير المؤمنات، مؤتمر التغيير في نظرية المنهاج النبوي عند الإمام عبد السلام ياسين، مفهومه وإشكالاته وقضاياه، إسطنبول 16 ـ 17 يناير/ كانون الثاني 2016
أضف تعليقك (0 )