مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

محطات من سيرة الإمام

الإقامة الإجبارية

0
الإقامة الإجبارية

ضاق الحاكمون بدعوة العدل والإحسان التي ازداد توسعها وانتشارها في ربوع البلاد، فقرروا تضييق الخناق على حركة الإمام ونشاطه الدعوي والعلمي والسياسي، من خلال نشر قوات أمنية علنية وسرية في جنبات بيته العامر، ليلا ونهارا، ظلت تمنع يوميا عشرات الزائرين من مختلف مدن المغرب وقراه، بل من خارج المغرب أيضا.
استمرت مدة الإقامة الإجبارية أزيد من عشر سنوات صام الإمام رحمه الله نهارها، وقام ليلها، وعمر أيامها بالذكر والدعاء والتأليف، فكان من ثمار هذه المرحلة كتاب “العدل، الإسلاميون والحكم” وكتاب “تنوير المؤمنات” والكتب الحوارية (حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، الشورى والديمقراطية، حوار الماضي والمستقبل، حوار مع صديق أمازيغي) ورسائل منها “الرسالة العلمية”.
كما حرص الإمام عبد السلام ياسين على إبطال الهدف المقصود من الحصار الدائم، وتوثيق الصلة مع قيادة جماعة العدل والإحسان وأعضائها عبر ثلاث قنوات:
أولاها؛الدعاء بظهر الغيب، فهو الحبل الممدود بين العباد وربهم السميع العليم سبحانه.

ثانيتها جهود أسرة الإمام وأصهاره الذين تجشموا الأثقال واقتحموا العقبات لضمان التواصل المستمر بين الإمام رحمه الله ومسئولي الجماعة وأعضائها، وتيسير سبل دخول بعضهم خلسة لزيارته.

ثالثتها الرسائل التي كان يتلقاها الإمام رحمه الله من مسئولي الجماعة وبعض أعضائها، ومن الشخصيات العلمية والدعوية والسياسية من المغرب وخارجه.

في مرحلة الإقامة الإجبارية، ازداد إقبال آلاف من المغاربة – وخاصة الشباب– على دعوة العدل والإحسان، لما تميزت به من صدق وصبر ووضوح هدف، فتفاقم مكر السلطة السياسية وتعمق حقدها. ولنضرب أمثلة ناصعة في هذا الباب:

اعتقال ومحاكمة أعضاء مجلس الإرشاد (1990-1992):

لم تكتف السلطة الحاكمة بفرض الحصار الظالم على الإمام ياسين رحمه الله، بل بادرت إلى اعتقال أعضاء مجلس الإرشاد وصهر الإمام الأستاذ عبد الله الشيباني وتقديمهم للمحاكمة. وهي الخطوة الظالمة التي عدها الإمام محاولة لفصل الرأس عن الجسد، وتشتيت صفوف الدعوة الفتية.

وفي 8 ماي 1990 حج الآلاف من أعضاء جماعة العدل والإحسان من مدن شتى إلى مدينة الرباط لمتابعة أطوار المحاكمة الاستئنافية التي أثبتت الحكم الابتدائي بسنتين سجنا نافذا.

ولا يخفى ما ميز مرحلة السجن من معاناة خفف من وطأتها قوة الاندماج العاطفي والإيماني بين الإمام المرشد وأعضاء مجلس الإرشاد وبين عامة مسؤولي الجماعة وأعضائها، على أساس راسخ لمعاني الولاية الإيمانية الجامعة للقلوب والأرواح المتحابة المتآلفة. لله الحمد والمنة.  

ومع ازدياد قوة العدوان السياسي على الجماعة وحقها في الوجود القانوني والمشاركة في الشأن العام، تجلت أنوار الرفق والتؤدة والصبر ومعاني القوة والعزة في توجيهات الإمام المرشد لعموم أبناء الجماعة لتجاوز المحن والابتلاءات المتتالية، وكان موقف 3غشت 1990 شاهدا بينا على التمسك الصارم بتلك المعاني المستمدة من المنهاج النبوي، إذ أعلن الإمام بمسجد بنسعيد بسلا، بعد صلاة الجمعة، عن فتح واجهة جديدة في مواجهة ظلم الحاكمين، واجهة اللجوء إلى الله بالدعاء والقنوت على الظالمين في شهر صفر 1411، إن هم تمادوا في غيهم وظلمهم. وقد استمر اعتصام آلاف من المؤمنين بالمسجد إلى ما بعد صلاة العصر من ذلك اليوم المشهود.

ولما أعيت السلطات الحاكمة الحيلة، دعت قيادة الجماعة إلى “تفاوض غير معلن” في شهر يوليوز 1991 سعيا إلى تغيير مواقفها القوية المتمسكة بحقها في الوجود القانوني والواقعي وحقها في التعبير عن الاختيارات الفكرية والسياسية المناسبة لمصالح المغاربة العاجلة والآجلة.ولهذا نُقل الإمام عبد السلام ياسين إلى المركب السجني بسلا للتشاور مع أعضاء مجلس الإرشاد المعتقلين بشأن مقترحات السلطة. لكن نتيجة التشاور كانت مخيبة لآمالها ومطامعها.

المعتقلون الاثنا عشر في كنف رعاية الإمام المرشد والجماعة:

نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، انتشرت دعوة الإمام المجدد في أوساط الشباب المغربي وخاصة طلبة الجامعات، فكان أن تألف مكون طلابي نشيط وفاعل من أبناء العدل والإحسان ظل يدافع عن حقوق الطلاب ومكانة الجامعة، وهو ما أثار سخط السلطة الحاكمة ليزداد توجسها من فاعلية غير معهودة، ويزداد إصرارها على الكيد والمكر.

هكذا اعتقلت الأجهزة الأمنية مساء يوم الجمعة 1 نونبر 1991 بمدينة وجدة ستة وسبعين عضوا من أبناء الجماعة من المسؤولين التنظيميين والطلبة صدرت في حقهم أحكام متفاوتة، وحوكم اثنا عشر من الطلبة بتهمة مزورة هي قتل طالب يساري, وكان الحكم هو عشرون سنة نافذة، وتم الإفراج عنهم يوم الأحد 1-11-2009.

وطيلة مرحلة السجن، تجلت عناية الإمام رحمه الله بالمعتقلين وأسرهم تفقدا ومراسلة وتوجيها ودعاء. من أمثلة ذلك:

القرآن القرآن: لم يقتصر المرشد على توصيتهم بالصبر وإنما رفع همتهم للفهم عن الله تعالى واعتبار مدة الاعتقال منحة ربانية وجب استغلالها في طاعة الله تعالى خاصة الاهتمام بكتاب الله تعالى. قال رحمه الله في إحدى رسائله إليهم بعد كلام: “عليكم أحبتي بكتاب الله تعالى حفظا وفهما وعملا “.

المراسلات بين الإمام والمعتقلين: كان رحمه الله يسارع إلى الإجابة عن رسائلهم بعناية واهتمام كبيرين، ويسأل عن توصلهم بها، ويُضمن رسائله توجيهات تربوية وعلمية دقيقة. كما حرص على تمتين المحبة بين المعتقلين إذ قال في إحدى رسائله: “لا يحسبن أحدكم أن يرضي ربه دون أن يشرح صدره بالمحبة الصادقة لإخوانه”.

الإكرام: كان الإمام المرشد يهديهم نسخا من مؤلفاته مباشرة بعد إصدارها.

ولما رفعت الإقامة الإجبارية عن الإمام المرشد سارع إلى زيارتهم بالسجن المركزي بمدينة القنيطرة،ترسيخا لمعاني الحب والتقدير. وبعد خروجهم من السجن سنة 2009، طلب الإمام المرشد منهم أن يعفوا عمن ظلمهم واعتقلهم، ترسيخا لمعاني الإحسان إلى الخلق، وأهداهم أثناء استقبالهم ببيته العامر بالرباط نسخا من المصحف المفهرس تأكيدا على ضرورة الاستمرار في الاهتمام بكتاب الله العزيز.

استثناء المعتقلين الإسلاميين من العفو الملكي (1994):

أعلن الملك الحسن الثاني في خطابه يوم9  يوليوز 1994 عزمه إغلاق ملف المعتقلين السياسيين بالمغرب، وفوض للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان اقتراح الأسماء المرشحة للاستفادة من عفو ملكي شامل. غير أن هذا العفو استثنى معتقلي العدل والإحسان وبعض الإسلاميين، فبعث الإمام عبد السلام ياسين إليهم رسالة مواساة ونصح وتوجيه، كما أرسل برقية استفسار إلى رئيس المجلس الاستشاري.  وبالموازاة مع هذا، نظمت الجماعة أيام 21 و22 و23 يوليوز 1994 اعتصامات رمزية بباب بيت الإمام المرشد تنديدا بالحصار الظالم والعفو الشامل الهامل.

كتب الإمام في رسالة مواساة معتقلي العدل والإحسان والمعتقلين الإسلاميين الآخرين قائلا:

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وإخوانه وحزبه

إلى الأعزة المثبتين في سجن القنيطرة وسجن وجدة، سرح المعتقلون السياسيون ومعتقلو “الأحداث المؤلمة” كما عبر الناطق الرسمي وخلفوا هم، وتركوا هم. 

أخص بالسلام أعضاء جماعة العدل والإحسان، وأعم كل مؤمن أبي انتزعت منه حريته صولة وبطشا بغير حق.
أخص الأحبة : محمد بهادي، محمد الزاوي، محمد الغزالي، علي الحيداوي، المتوكل بلخضير، يحيى العبدلاوي، محمد اللياوي، أحمد التاج، بلقاسم الزقاقي، مصطفى حسيني، نور الدين التاج، بلقاسم التنوري، ثم الأحبة موسى خليلي، عبد الحفيظ حاجي، الكبير الكبيري، ومصطفى مختاري.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أيها الأعزة :
تبودلت بين السلطة الحاكمة والهيآت المستفيدة من “العفو الشامل” في زعمه الهامل المائل في فعله، منح وهدايا على شكل وعود بحكومة ائتلاف ينعم فيه الجميع بالراحة والنيل، وعلى شكل عطايا سخية لصحافة تزغرد صفحاتها ابتهاجا بالحدث الفخم الضخم.
نرتاح وإياكم أيها الأعزاء أن استعاد حريته معتقلون عانوا ما بلوتموه من عناء السجون المغربية الكئيبة ونترك للهيآت المتناغمة مع السلطة أحلامها، معرضين –ونحن يمضنا الحيف- عما بين الفريقين من تجارة بضاعتها الزيف.
وما للهيآت المستفيدة لا تبتهج ولا تزغرد ما دام ضحايا “الحوادث المؤلمة” يسبقهم إلى نور الحرية آخر ماركسي يحمل براءة من الإسلام!
تمتع الماركسي البريء من تهمة التدين بنعمة العفو الشامل الهامل، ذلك الذي عاركتموه في ساحة الجامعة غيرة على دينكم، دنسوا مصحفا أنتم تقدسونه، ولوثوا مسجدا أنتم تسجدون لله فيه، وسبوا الله ورسوله وأنتم بالله ورسوله مؤمنون. فلفقت لكم التهم، وصنعت لكم الأحكام، وكيف عليكم القانون المقبور –زعموا- قانون “كل ما من شأنه”. ذلك القانون الذي أغدق عليكم – على اثني عشر منكم- عشرين سنة، وعلى الأربعة الباقين ثلاث سنوات.
لما لم يكن مع “العدل والاحسان” عوض سياسي عن المنح العفوية الشاملة الهاملة، سرحوا ستة عشر من معتقلينا كانت حصة أكثرهم من بركات “ما من شأنه” ستنتهي بعد ثلاثة أشهر على كل حال. ذلك ليتأتى للناطق الرسمي في ندوته الصحفية أن يصرح أن ملف “العدل والإحسان” لم يعد شائكا على حد تعبيره، بعد أن أطلق سراح أعضائه.
أشواك يا من يموهون ويزورون!
ملف واحد هو ملف وجدة، زورت فيه محاضر ضد طلبة وجدة لتكون ورقة ضغط أثناء المساومات التي تعرضنا لترهيبها وترغيبها منذ ثلاث سنوات. فلما يئس اليائسون أن يركع “العدل والإحسان” لغير الله سقط الحكم المصنوع عليكم معشر الإخوة الأعزة كما يسقط سيف الظلمة الغشمة على رقاب الأبرياء.
فهنيئا لكم بالاستثناء من عطايا الانفراج وهداياه. هنيئا لكم أن كنتم الحجة والدليل على أن الهرج والتهويل وزغردات المدللين ما هي إلا مسرحية وسينما.
﴿ والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾
لا تنسوا، أحبتي، أن موكبكم واحد مع شهداء فلسطين وأبطال البوسنة والهرسك، والمجاهدين من المؤمنين والمؤمنات في أطراف دار الإسلام.
اعكفوا أحبتي على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حفظا وفهما وعملا. اعمروا أوقاتكم بذكر الله وتحصيل العلم النافع استعدادا لصبح الإسلام القريب بحول الله، تعرضا لما وعد الله ورسوله الصابرين الصادقين ببشرى الحياة الدنيا والآخرة.
﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة﴾
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
سلا، فجر السبت 13 صفر 1415.
ولا تنسوا من دعائكم أخاكم: عبد السلام ياسين. “

رفع الحصار .. لم يرفع الحصار:

وفي منتصف مرحلة “الإقامة الإجبارية”، كانت مسألة رفع الحصار عن الإمام حدثا سياسيا وإعلاميا بارزا؛ ذلك أنه خرج يوم 22 رجب 1416 الموافق لـ 15 دجنبر 1995 – بعد أن أخبر رسميا أن الحصار قد رفع- لحضور صلاة الجمعة في مسجد ابن سعيد بسلا، لكن وقبل الصلاة أخبره أحد مسؤولي الأمن بأنه ممنوع من الخروج وعليه العودة إلى بيته. وبعد انتهاء صلاة الجمعة، ألقى الإمام رحمه الله في جموع المصلين الكلمة البليغة التالية:

“اللهم اعتمادا عليك واستمطارا بك، ولجوءا إليك.
إخواني الكرام، هذه الكلمة سأبدأها باعتذار لرواد هذا المسجد الذين اعتادوا الصلاة فيه، الفريضة وصلاة الجمعة. في هذا اليوم الماطر احتللنا المسجد وقدم الناس من آفاق متعددة، نعتذر إليهم كذلك، ونطلب المولى الكريم أن يتقبل منهم مشقة السفر. كما نعتذر للإمام خطيب الجمعة، منعناهم أن يصلوا الجمعة كما اعتادوا أن يصلوها. السبب هو أن الناس عندما يكونون في ضيق والعدو يحاصرهم لابد لهم من ملجأ. ونحن لجأنا إلى بيت الله وحللنا ضيوفا على عمار بيت الله.
إخوتي الكرام، جاء الناس من آفاق متعددة، منهم إخوتنا من العدل والإحسان ومنهم إخواننا في الدين من صحافيين وغيرهم جاءوا ليسمعوا أول كلمة سنقولها.
سنتذكر إن شاء الله وستنفع الذكرى أننا اعتصمنا في هذا المسجد منذ نيف وأربع سنوات. رحم الله من بناه وتطوع لبنائه وهيأ للمسلمين مكانا للاجتماع ولسماع كلمة الله، كما سمعنا في هذه الخطبة المباركة منذ حين. منذ نيف وأربع سنوات اجتمعنا في هذا المسجد وكنا يومئذ مضيقا علينا، محاطا بنا ومهددين، وزُج ببعضنا في السجون ولا يزال جماعة من إخوانكم مسجونين ولا نلجأ إلى أحد إلا الله.
أيها الإخوان، كلمتنا إن كنا حقيقة مؤمنين أوحي إلينا بها –لا أقصد الوحي كما يوحى للأنبياء- ولكن لُقّـِنَّاها، لو كنا نسمع ونتدبر كلام الله فيما سمعنا وقرأنا من آيات بينات قبل الصلاة. قرأنا أول ما قرأنا سورة النجم. يقول الله عز وجل فيها مقسما : “والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى” صاحبنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توشك ذكرى معراجه عليه السلام أن تحل بنا. نسأل الله عز وجل أن يجعلها مناسبة لمغفرة ذنوبنا ورفع درجاتنا والعفو عن هذه الأمة مما تتخبط فيه وتعانيه من بلاء. “ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى”. ما ضل والله بل اهتدى، ما خسر والله، بل أفلح من تمسك بأذيال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
وقد شفى غلتنا خطيب الجمعة جزاه الله عنا خيرا عندما ذكرنا بمسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه وما رأى من بينات وما أوحي إليه من هدى، ثم قرأنا بعد هذه البشارة العظمى، بشارة الهداية بخاتم النبوة صلى الله عليه وسلم. قرأنا سورة القمر التي كلها تذكرة وتبصرة لمن خاف مقام الله، وكلها وعيد لمن لم يخف عقاب الله.
إخوتي، لا نريد أن نُدل على الله ولكن نشكره ونحمده. فعندما اجتمعنا منذ نيف وأربع سنوات في هذا المسجد وكنا مضطهدين، فتحنا واجهة الدعاء على من ظلمنا، هذه سُنَّة. فلبثنا أربع سنوات ونيف، يُستجاب لنا عندما يريد الله عز وجل. وها هي الأزمة تخنق الأمة وتخنق الحكام والمحكومين في هذا البلد وفي كل البلاد، لا نريد أن نتشفى ونقول استجيب لنا فيمن ظلمنا، لكن نحمد الله عز وجل على أن كشف عنا الغمة.
أيها الإخوة لقد جاءنا الخبر ونحن في المسجد بأن الحصار لم يرفع. إنما كانت هذه فلتة من فلتات الإدارة المغربية التي تعلمون ما ينخر في أحشائها من أوبئة ومن فساد. أرادوا أن يخرجوا من ورطة الحصار فما عرفوا كيف، فجاءت الأوامر مضطربة متناقضة: رفع الحصار! لم يرفع الحصار! “
لم يرفع الحصار إذاً، واستمر فرض الإقامة الإجبارية بقيودها الأمنية والاستخبارية، ثم كان أبرز حدث في نهاية هذه المرحلة الإعلان عن “مذكرة إلى من يهمه الأمر”[1] الرسالة المفتوحة التي كتبها الإمام عبد السلام ياسين باللغة الفرنسية،[2] ناصحاً الملك محمد السادس – وهو حديث عهد بالسلطة – داعياً إياه إلى تقوى الله عز وجل، وإلى رد المظالم والحقوق التي انتهكت طوال حكم والده، وإعادة مال الأمة للأمة، والخروج من بيعة الإكراه إلى تعاقد بين الحاكم والمحكوم،ومباشرة تطهير أجهزة الإدارة من براثن الفساد لإعادة الثقة إلى الشعب.كما جدد له نصيحة “الإسلام أو الطوفان”، نصيحة الاقتداء بالنموذج العادل الخالد سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
كتب الإمام رحمه الله قائلا: “خلف الملك الراحل، عفا الله عنه، ثروة خيالية، ترِكة مسمومة لمحمد السادس وإخوته. فهل يستجيب الورثة المسلمون، حفدة النبي صلى الله عليه وسلم لداعي الحرص فيتمسك كل واحد منهم بحصته من الغنيمة التي نعرف كيف تم تجميعها ؟
هل سيسائل الملك الشاب والأمراء والأميرات، هل يستطيعون مساءلة ضميرهم عن الهوة الهائلة القائمة بين شعب غارق في أوحال البؤس الأسود وبين ورثةٍ تهاطلت عليهم فجأة سيول من ذهب وفضة.”[3]

بعد الإقامة الإجبارية:

أواسط شهر مايو من سنة 2000 أنهت السلطة السياسية بالمغرب الإقامة الإجبارية المفروضة على الإمام ياسين، بعد تصريح لوزير الداخلية أمام أعضاء مجلس النواب يوم الأربعاء 6 صفر 1421 الموافق لـ 10 مايو 2000 ورد فيه أن “المعني بالأمر حر يذهب حيث شاء ويستقبل في بيته من شاء”. ثم أعلن الأستاذ المرشد يوم الاثنين 11 صفر 1421 الموافق لـ 15 ماي 2000  في بلاغ موجه لوسائل الإعلام أنه قرر كسر الحصار الظالم بالخروج لأداء صلاة الجمعة بمسجد الحي. ويوم الثلاثاء 12 صفر 1421ـ الموافق لـ 16 ماي 2000 غادر عناصر الشرطة مواقع حراستهم بباب إقامته.
خرج الإمام رحمه الله من بيته يوم 14 صفر 1421 الموافق لـ 19 ماي 2000 لأداء صلاة الجمعة بمسجد بنسعيد في حي السلام بمدينة سلا. وبعدها توجه رفقة أعضاء مجلس إرشاد الجماعة إلى السجن المركزي بمدينة القنيطرة لزيارة الطلبة المعتقلين الاثني عشر المحكوم عليهم بعشرين سنة نافذة، تعبيراً عن الوفاء والمحبة والمواساة. لكن إدارة السجن منعته من الدخول والالتقاء بإخوانه المعتقلين، امتثالاً لتعليمات وأوامر صادرة من “جهات عليا”.
وفي اليوم الموالي، السبت 15 صفر 1421، عقد الإمام عبد السلام ياسين بمقر الجماعة بمدينة سلا ندوة صحافية تميزت بحضور متنوع لوسائل الإعلام الوطنية والدولية، وتواصل خلالها مع الصحافيين باللغتين العربية والفرنسية.
وقد استهل الإمام رحمه الله تواصله مع الحاضرين بحمد الله والثناء عليه، وشكر المنظمات الحقوقية التي ساندت دعوة العدل والإحسان المحاصرة. وأوضح أن مسلسل الحصار لم يتوقف بخروجه من الإقامة الإجبارية التي دامت عشر سنوات، وأعاد التذكير بالموقف الثابت المتمثل في نبذ العنف بكافة صيغه وأشكاله،كما أكد على إيمانه بالتعددية ورفضه للإقصاء.
وأكد أيضا على أن الجماعة صاحبة مشروع مجتمعي قوامه تربية الإنسان والسمو بروحانيته، وسبيله الحوار المفضي إلى ميثاق إسلامي يتم التعاقد عليه على مرأى ومسمع من الشعب.
وخلال الأسابيع الموالية تلقى الإمام عبد السلام ياسين زيارات ورسائل من قبل شخصيات بارزة من رجال الفكر والعلم والسياسة وقياديي الحركات الإسلامية، من داخل المغرب وخارجه. كما جاءت من مختلف مدن المغرب، وعلى مر أيام متتاليات، وفود تعد بالآلاف من شباب جماعة العدل والإحسان وشوابها ورجالها ونسائها ومن عموم الشعب المغربي.
ثم قام بزيارات شملت مختلف مدن المغرب شمالا وجنوبا شرقا وغربا استمرت أسابيع استطاع أثناءها أن يلتقي بأعضاء جماعة العدل والإحسان في جهاتهم وأقاليمهم، وأن يتواصل بشكل مفتوح مع شرائح مختلفة من الشعب المغربي. وهي نفس الرحلة التي أعيدت بعد أقل من سنة من تاريخ رفع الإقامة الإجبارية.
وبقي حضور الإمام ياسين قويا ومؤثرا من خلال المجالس التي كانت تعقد كل يوم أحد وتبث مباشرة على شبكة الأنترنت، وعبر المتابعة الحكيمة والمصاحبة الرفيقة لجهود المؤمنين والمؤمنات في سائر المجالات التربوية والدعوية والتواصلية والسياسية والعلمية.


[1] تم توزيع “مذكرة إلى من يهمه الأمر”، في حفل الذكرى العاشرة لفرض الإقامة الإجبارية يوم 28 يناير 2000م.
[2] بدأ كتابتها في 11 ليلا من ليلة الاثنين 22 رجب 1420 الموافق لـ: 2/11/1999 وانتهى من كتابتها ليلة الأحد 5 شعبان 1420 الساعة الثانية وخمس وأربعين دقيقة ليلا الموافق لـ: 14/11/1999.
[3] مذكرة إلى من يهمه الأمر، 1999، ص: 25.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد