تأملات في مسار جماعة العدل والإحسان (1)
حينما تشكّلت “أسرة الجماعة” عام 1981م، كان مؤسّسها الأستاذ عبد السلام ياسين قد بلغ من العمر ثلاثا وخمسين عاما، وكان قد ضرب أشواطا في مسارٍ استثنائي انتهجَه وارتاده بشجاعة، زاوج فيه بين اختيارين في التّقدّم: التدرّجُ والقطائع؛ مسارٍ همَّ حياته الشخصية أولا، حيث عرفت انقلابا كلّيا، وانتقالا من عالَمٍ إلى ما يشبه نقيضه، كما همَّ رؤيته الفكرية والفلسفية لله والعالم والإنسان. كان في البداية مأخوذا ببهرج النجاحات المهنية التي نالها عن جدارة ، لكن “أمرا ما” تَبَرْعَمَ في نفسه، وقاده نحو أفق رحيب وسيع. لقد غدا صاحب مشروع تفسيري تغييري تجديدي؛ أحرقَه واقعُ الأمة والبشرية جمعاء فنهض ليُحرّك السّاكنَ، مُعتمدا التربيةَ والسياسة أساسين مُتكاملين أثناء حركيته البنائية.
قبل تأسيسه لهذا التنظيم الصغير كان الأستاذ قد جرّب محاولةَ توحيد العمل الإسلامي، لكن تقديرات المُتحاورِين اختلفت وتعارضت، وكانت التربية والسياسة: فَهما وممارسة ـ كما هما دائما ـ جوهر هذا التّباعد. وهنا طرح الأستاذ لأوّل مرة لاءاته الثلاث: لا للعنف، لا للسّريّة، لا للتعامل مع الخارج، وقد فهم بعضهم هذه اللاّءات ـ حينها ـ فهما فيه الكثير من سوء النّيّة.
من ذكاء الرّجل، أو لنقل من توفيق الله تعالى له، أنه أسبقَ التنظيمَ بالتنظير؛ حيث كان قد ألّف عددا من الكتب والرسائل التي اتخذت من “المنهاج النبوي لتغيير الإنسان” شعارا لها، مثل: “الإسلام بين الدعوة والدولة” و”الإسلام غدا” و”الإسلام أو الطوفان” و”المنهاج النبوي: تربية وتنظيما وزحفا”. وإذا كانت العناوين الثلاثة قد نُشرت قبل أن يظهر “التنظيم” ببضع سنوات، فإن الكتاب الرابع أُعِدّ ليكونَ مثابة الرؤية والتصوّر الذي انْبَنَتْ عليه “أسرة الجماعة” ومن بعدها “جماعة العدل والإحسان”. وبذلك يكون قد أنجى تنظيمَه الوَليدَ “التِّطْوافَ” الفكريَّ بين كلّ مُفكّر أو مثقّف ذي صوت إسلامي، هذا التّطواف الذي أضرّ بالعديد من الحركات الإسلامية، وبدت معه للعديد من المراقبين وكأنها “تتسوّل” الرؤية والتّصوّر.
قرّر “مجلسُ الإرشاد” التأسيسيُّ أن يكون الأستاذ ياسين “مرشدا” وليس زعيما أو قائدا أو رئيسا؛ أي أنه سيُعتبر مَصحوبا، قرّروا بخلفية التّلمذَة التي تعترف ـ في احتفاء ـ بأفضال “الشيخ” و”الأستاذ”، ثم انطلقوا يدبّرون لجماعتهم؛ وكانت الأولوية للتربية والتوسّع الدّعوي، فانتشروا في مدن المغرب وبواديه يَعرضون دعوتَهم، ويبشّرون بفَهْم وممارسة يعتقدون أنهما تجديديان يَنْسُجانِ ـ في كثير من أسسهما ـ على غير منوال.
لم يكن الأستاذ ياسين رئيسَ تنظيمٍ يُدبّرُ سَيْرَهُ، ويسهر على متابعة يومياته وحلّ أزماته، بل كان قبل ذلك وأثناءَه وبعدَه مُربّيا ومرشدا في مدرسة ترفع شعار التربية أولا والتربية دائما. من أجل ذلك لم تُطرح أبدا مسألة “انتخابه” أو إعادة انتخابه، فلا يمكن، ولا يستقيم، أن ينتخبَ الإنسان مُربّيَه ومرشدَه. وهذه مسألة ـ ضمن أخرى ـ تُؤاخذ الجماعة عليها من قبل مُنتقديها، لأنهم ينطلقون من مُسلّمة لا تراها هي كذلك.
سريعا توسّع ما بدأ “أسرةً” صغيرةً؛ تَمَّ “تأسيسُ العمل” في الكثير من المناطق البعيدة، وانْجَمَعَ الأعضاءُ الجددُ في أُسَرٍ وشُعَبٍ تنظيمية، نُصّبَ عليها نُقباءُ مسؤولون على التربية والدعوة والتّوعية والتواصل. وكان هذا الجهد الانتشاري التّوسعي يُرافقه ويوازيه ويغطّيه أمران اثنان: الأول عبارة عن جلسات ورباطات ولقاءات تُقام في سلا، حيث كان يحجّ الكثيرون من كلّ جهات المغرب للقاء الأستاذ في بيته والاستماع له والأخذ عنه. والثاني ذو طابع فكري، حيث اجتهدوا في الكتابة والنّشر في مجلة “الجماعة” وتوزيعها على أوسع نطاق بوسائل بدائية لإسماع صوتهم واقتراحاتهم.
بعد ستّ سنوات من ميلاد “أسرة الجماعة” ظهر أن “الفكرة” التي جمعت المؤمنين بها تحتاج إلى عنوان يُلخّص أهدافَها ومقاصدها وطرق اشتغالها، حينئذ رُفع شعار”العدل والإحسان” وتَسَمّتٍ الجماعة به وتزيّنت.
وقيل في تفسيره؛ أن هذا الشعار، المُستوحى من آية قرآنية كريمة، يُجمِلُ المطلب الدنيوي (العدل والشورى) والغاية الأخروية (وهي الإحسان بمعناه الروحاني، أي: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
بين التأسيس واختيار الشعار عرفت “الجماعة” وقائع وأحداث كثيرة ساهمت جميعُها في التعريف بها وانتشار صيتها؛ فقد اُوقِفَتْ مجلة الجماعة بسبب ما كتبه الأستاذ ياسين من ردّ على “رسالة القرن” الملكية في مقاله “قول وفعل“، واعتُقل في سجن العلو سَيّء السمعة، وأوقفت أيضا جريدتي الصبح والخطاب، وألّف الأستاذ كتابين ضخمين؛ الأول عنونه بـ “دولة القرآن”، والثاني وَسمه بـ”اقتحام العقبة”، وسينشرهما بعد ذلك بسنوات مفرّقين حسب فصولهما في عشرة كتب.
إلى حدود اللحظة، كان الجميع يُماهي بين الجماعة والأستاذ ياسين، فلم يكن يظهر لهم في الصورة أحد من مؤسسي الجماعة، ولكن الحقيقة أن رجالا حقيقيين في الفهم كما في الحركية كانوا منشغلين بصمت ببناء بيتهم الداخلي، وعندما قرّرت السلطات المغربية عام 1989م وضع الأستاذ ياسين في إقامة إجبارية ببيته، مُحاَوِلة “فصلَ” الرأس عن الجسد، ظهر أن الجماعة قد استوت وتغلغلت بما يستحيل معها تفكيكها أو اجتثاثها. لقد كان حصار الأستاذ ـ من وجهة نظر محترمة ـ خِدْمَةً جليلة قدمتها السلطات للجماعة من حيث أرادت إذايتَها.
أضف تعليقك (0 )