قال الله عز وجل في كتابه العزيز: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)[1]. يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله: الإيمان أمانة، والأمانة الإيمانية كنز ومعين في قلوب الأمناء، والعلماء هم أمناء الرسل كما جاء في الحديث. والقرآن أمانة تكليف عظيمة، ونور وهداية وبيان. نرى القلوب الخَرِبَةَ تقرأ القرآن باللسان العربي المبين لكن القلوب عجماء صماء لا أثر فيها لأمانة الإيمان، فهي أعجز عن تحمل أمانة القرآن. أوتي الأحباب الصحابة الإيمان قبل القرآن فكانوا رجالا. ولا يَنقَطع نسل تلك الرجولة إلى يوم القيامة، ولنتذكر شوق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى رؤية إخوانه من بعده.[2]
جعل الله تعالى هذه النفس البشرية تتأثر بتأمل الأمثال من جنسنا ما لا تتأثر بالوعظ المجرد، فعسى أن نقرأ سيرة رجل من الصالحين أو سيرة عالم من المجاهدين فنقول لأنفسنا نوبخها ونستنهضها: «فاتك الرجال يا خسيسة!» .
زخر تاريخ المسلمين، بظهور رجال تميزوا بعطاءاتهم الربانية الكثيرة، استفاد منها المسلمون وصححوا بها سلوك الفرد من الفتنة إلى الذكر، وعقول المجتمع من الجهل إلى العلم، وإرادة الشباب من الضعف إلى القوة، وحركة الأمة من التيه إلى القصد. والرجال في تاريخنا أكثر من أن يحدهم حساب، أو تستوعبهم صنافة مؤرخ. فالأمة خِصبة وَلودٌ والحمد لله. وقد صنف الإمام رحمه الله الرجال إلى أربعة أصناف، حسب ترتيبهم التـاريخي:
· الصحابة السابقون المقاومون للفتن.
· القائمون من آل البيت عليهم السلام.
· العلماء في بساط الملوك.
· العلماء المربون.
أكدت حركة التاريخ أن أمة الإسلام أنجبت رجال التجديد والبناء، رجال الدعوة والدولة، رجال القومة والإصلاح، رجال صنعوا التاريخ وصححوا مساره من أجل استشراف المستقبل حاملين مشكاة الهدى والنور، واضعين صوى على الطريق، مصداقا لقول الله عز وجل: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ (آل عمران: 110).
إن لمسيرة الإنسان في الأرض نواميس تحكم حركة المجتمع، ببواعث النفوس، وضرورات الاقتصاد، والتدافع السياسي… إنها سنة الله في التاريخ، ولن تجد لسنة الله تبديلا. ومهما كانت الوسائل المتاحة في العصر فإن حركية التاريخ لا تتغير لثبات الفطرة الإنسانية، وثبات الحاجـات الاقتصادية للإنسان، وثبات الدوافع الاجتماعية والسياسية التي تجمع الفئات العرقية والقبلية والحزبية المصلحية أو المبدئية في تكتلات.
انطلق تاريخ المسلمين ببناء حضارة كبيرة شع نورها على العالم بأسره زمن الرسالة والخلافة الراشدة. غير أنه وبعد ثلاثين سنة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء زمن الفتنة بإدبار الخلافة وحلول نظام الملك العاض ثم الجبري. وتعرض بذلك تاريخ المسلمين إلى انكسار، وعمل المستعمر فيما بعد على محاولات كسر شوكة الإسلام، على مر الزمان.
فتن مُدلَهِمَّة أصابت جسم الأمة، وظهر معها رجال الإصلاح الذين عملوا على جبر الكسور وعلاج الأدواء. فاستمرت حركة التاريخ بين المد والجزر، حاولوا خلالها تجديد الدين، يُذْكُونَ فيها جِذْوَةَ الإيمـان، ويُربون، ويُعلمون، ويُجددون ما بَليَ من عقيدة، وما فسَد من أخلاق، وما تبَلَّد من عقول، وما فَتَر من همم. أكابرهم ظهروا ويظهرون في فترات طويلة عيَّنَها الوحي بمائة سنة. وخلال كل قرنٍ رجال مجددون تابعون، يحافظون على ذكرى جهادٍ مضى، أو يهيئون جهادا مقبلا. أمر تنبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله: “إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا”[3]
فمن رجال القومة من أدرك أصل الداءِ، وهو فساد الحكم، فبادر لعلاجه. ومن رجال الإصلاح من تَنَازَعَهُ عاملا الخوف على شوكة الإسلام أن تنكسر، وواجبِ النهي عن المنكر وأطْرِ السلطان على الحق، فاكتفى بالوعظ، والمقاطعة، والتوجه إلى الأمة لتعليمها، وتربيتها، وتغذيتها بروح المقاومة.
ويشهد تاريخنا المعاصر على وجود رجال تجديد الدين، وهم امتداد لسلسلة الرجال القائمين بالقسط. إلا أن سنة الله في خلقه اقتضت رحيل جيل وبروز جيل جديد. على هذا الأخير حمل مشعل جيل التأسيس الذي أرسى قواعد التجديد والبناء. وإن من أوجب الواجبات على الجيل الجديد ألا ينسى جيل التأسيس، فالنسيان من الشيطان.
كيف للرضيع أن ينسى ثدي أمه؟ وهي التي ترضعه حليبا صافيا يقوي جسمه ويكسبه مَنَعَةً ضد الجراثيم والتعفنات؟
كيف لولد أن ينسى الوالد؟ وهو الذي رباه ورعاه ووفر له شروط العيش السعيد حتى اشتد عوده؟
كيف للصاحب أن ينسى مصحوبه؟ وهو الذي سلَّكه من درك الغفلة إلى معالي الإيمان؟
كيف لمتعلم أن ينسى معلمه؟ وهو الذي انتشله من ظلمات الجهل إلى نور العلم؟
لا يمكن لعاقل قلبُه، ومتوازن خلقُه، ألا يرجع الفضل لأهل الفضل؟
من أجل ذلك، لا بد من معرفة موكب النور الذي ينتمي إلى تلك الدوحة الشماء، دوحة الأنبياء والمرسلين. معرفة لا تتحقق إلا بصحبة صادقة، كما كان حال الصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن عبد الله بن عمر، وإن انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وغاب عنه شخص الرسول الكريم، بقيت سيرته ماثلة أمام عينيه وفي قلبه يعيش بها ولها، فتشربتها روحه الزكية، وكيف لا وهو المصاحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، حتى اشتهر بين الصحب الكرام أنه من أراد سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه في السفر فعليه بابن عمر.إذن فهي الصحبة، صحبة سفر وحضر، صحبة كانت سببا في تغيير ما بنفسه، فغير الله ما به، فأصبح التغيير الذي حصل له يقينا ومحبة في الله استمده من قلب المصحوب وتصديقا له صلى الله عليه وسلم.
إن سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ملأت سمعه وبصره، فكانت تظلل حياته، حتى لنجده رضي الله عنه يسافر بعد انتقال الحبيب المصطفى إلى الرفيق الأعلى إلى مكان قد مر عليه بصحبته، وتذكر أنهما جلسا تحت ظل شجرة فجلس رضي الله عنه تحت ظلها، بل حاول مرة أن يلزم ناقته أن تضع حوافرها في نفس الموضع الذي وضعت فيه ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حوافرها. إذن فهي صحبة ومحبة بها نبت الإيمان في قلب ابن عمر ونبت اليقين.
إن المحبة الثابتة في قلوب المتحابين في الله، جعلت صحبتهم في الدنيا ممتدة إلى الآخرة، تكسب من يأتي بعدهم قوة بانية وإرادة قوية تقاوم أيادي البطش والغدر. ويبقى المشروع هو المشروع والرجال هم الرجال. ولا يَنقَطع نسل تلك الرجولة إلى يوم القيامة، ولنتذكر شوق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى رؤية إخوانه من بعده.
والحمد لله رب العالمين.
[1] الأحزاب: 23.
[2] ياسين عبد السلام، الإحسان، الدار البيضاء، مطبوعات الأفق، 1989م، ج1، ص 114.
[3] رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في “المقاصد الحسنة” (149).
[4] ياسين، عبد السلام، قطوف، ج 2، ص 16.
أضف تعليقك (0 )