مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

كيف ندوم على التوبة والإنابة بعد رمضان؟  

0
كيف ندوم على التوبة والإنابة بعد رمضان؟  

      شهر رمضان من أعظم نفحات الدهر، فيه تتنزل الرحمات، وتضاعف الحسنات، ويجزل المولى عز وجل فيه العطايا والهدايا والمكرمات، كما بشرنا رسول الله ﷺ إن أقبل باغي الخير، وأقصر باغي الشر[1]، بالمسارعة للتوبة والصلح مع الله، والتحرر من دواعي النفس الأمارة بالسوء، ومن الغواية الشيطانية، والإقبال على الطاعات من صيام وقيام وتلاوة للقرآن وجميع القربات، فالمحروم من انسلخ الشهر الفضيل وقد حرم من بركاته استئهالا لرحمة الله ومغفرته بكرمه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: “رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه فلم يدخلاه الجنة” (أخرجه مسلم). ويبقى السؤال الجوهري هو كيف ننتقل من التوبة إلى الأوبة والإنابة والحضور الدائم مع الله تعالى في رمضان وبعده؟

1ـ التوبة والإنابة مقام النبوة والصديقية:

      النفس البشرية مجبولة على الخطأ والنسيان وارتكاب الذنوب، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ولنا الأسوة الحسنة في القصة الخالدة لأبينا آدم وأمنا حواء حين وسوس لهما الشيطان فأكلا من الشجرة المحرمة، فوقعا في معصية الله وطردا من الجنة، لكن سرعان ما بادرا للتوبة والإنابة وطلب العفو والمغفرة، عكس إبليس الذي أصر على المعصية وعدم التوبة فاستحق اللعنة والطرد من رحمة الله.

     كما لنا الأسوة الحسنة في سيرة الأنبياء والرسل عليهم السلام في لزوم باب التوبة والاستغفار والشواهد على ذلك كثيرة، وقد كان الرسول الخاتم ﷺ، لا يفتر حاله عن ذكر الله تعالى والاستغفار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: “والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه أكثر من سبعين مرة” (أخرجه البخاري)، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: “إن كنا لنعدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم” (أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة).

      وقد يتساءل قارئ عن القصد من ملازمة رسول الله ﷺ الاستغفار وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيجيبنا في الحديث الذي رواه الأغر المزني يقول: “إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِر اللَّه فِي الْيَوْم مِائَة مَرَّة” (أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود)، قَالَ أَهْل اللُّغَة: (الْغَيْن) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة، وَالْغَيْم بِمَعْنًى، وَالْمُرَاد هُنَا مَا يَتَغَشَّى الْقَلْب، قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: الْمُرَاد الْفَتَرَات وَالْغَفَلَات عَنْ الذِّكْر الَّذِي كَانَ شَأْنه الدَّوَام عَلَيْهِ، فَإِذَا أَفْتَرَ عَنْهُ أَوْ غَفَلَ عَدَّ ذَلِكَ ذَنْبًا، وَاسْتَغْفَرَ مِنْهُ، قَالَ: وَقِيلَ هُوَ هَمّه بِسَبَبِ أُمَّته، وَمَا اِطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالهَا بَعْده، فَيَسْتَغْفِر لَهُمْ، وَقِيلَ : سَبَبه اِشْتِغَاله بِالنَّظَرِ فِي مَصَالِح أُمَّته وَأُمُورهمْ، وَمُحَارَبَة الْعَدُوّ وَمُدَارَاته، وَتَأْلِيف الْمُؤَلَّفَة، وَنَحْو ذَلِكَ فَيَشْتَغِل بِذَلِكَ مِنْ عَظِيم مَقَامه، فَيَرَاهُ ذَنْبًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظِيم مَنْزِلَته، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُور مِنْ أَعْظَم الطَّاعَات، وَأَفْضَل الْأَعْمَال، فَهِيَ نُزُول عَنْ عَالِي دَرَجَته، وَرَفِيع مَقَامه مِنْ حُضُوره مَعَ اللَّه تَعَالَى، وَمُشَاهَدَته وَمُرَاقَبَته وَفَرَاغه مِمَّا سِوَاهُ، فَيَسْتَغْفِر لِذَلِكَ، وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنَّ هَذَا الْغَيْن هُوَ السَّكِينَة الَّتِي تَغْشَى قَلْبه” لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْزَلَ السَّكِينَة عَلَيْهِ} وَيَكُون اِسْتِغْفَاره إِظْهَارًا لِلْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَار، وَمُلَازَمَة الْخُشُوع، وَشُكْرًا لِمَا أَوْلَاهُ”[2].

      هكذا نفهم أن التوبة والإنابة إلى الله مسلك الأنبياء تبعهم فيه الأولياء والأصفياء من الخلق، وهي عبادة تلازم العبد في سلوكه إلى الله عز وجل لتذلل له العقبات، وتنجيه من المهلكات، كما قال ابن القيم رحمه الله: “أول المنازل، وأوسطها، وآخرها، فلا يفارقه العبد السالك، ولا يزال فيه إلى الممات، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به، واستصحبه معه ونزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وحاجته إليها في النهاية ضرورية، كما أن حاجته إليها في البداية كذلك، وقد قال الله تعالى: ﴿وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، وهذه الآية مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه، بعد إيمانهم وصبرهم، وهجرتهم وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه، وآتى بأداة لعل المشعرة بالترجي، إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون، جعلنا الله منهم”[3].

      فالتوبة تكون فردية بأداء الفروض العينية من عبادات ومعاملات، كما تكون جماعية كما أمرنا الله بها في الآية السالفة الذكر، كتوبة أبوينا آدم وحواء، وتوبة بني إسرائيل من عبادة العجل، وقوم يونس، وكذلك توبة الأنصار بعد غزوة حنين، يقول العلامة محمد عبادي في هذا السياق: “ومعظم الناس ينسون أو يتناسون التوبة الجماعية من معصية عدم أداء الفروض الكفائية التي تؤدى جماعيا: من قبيل إقامة دولة الإسلام، فريضة التكافل الجماعي، المواساة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إقامة حدود الله تعالى وغيرها كثير…”[4]. نسأل الله أن يتوب علينا جميعا، ويقبل عذرنا في تقصيرنا في حقوق الله تعالى، خاصة نصرة أهلنا في فلسطين من العدوان الغاشم الإسرائيلي، ومن الهجمة الشرسة للاستكبار العالمي الامبريالي.

2ـ كيف ننتقل من مقام التوبة إلى مقام الإنابة والحضور الدائم مع الله؟

     التوبة شعبة من شعب الإيمان بفضلها ينتقل العبد من المعصية إلى الطاعة، ومن سخط الله إلى رضوانه، ومن ضيق النفس وانقباضها إلى سعة رحمة الله وجميل عفوه، شرط أن تكون توبة نصوحا بشروطها الأربعة كما فصلها العلماء، وهي العقد مع الله أننا رجعنا إليه نادمين، والإقلاع عما كنا فيه من الفواحش والعصيان مرتكبين، وترك الإصرار بعد رد المظالم إلى أهلها منصفين.

     ورمضان فرصة عظيمة للتوبة والإنابة، فالصيام عبادة يستشعر العبد فيه مراقبة الله ومعيته له، ولقدسيته يختص المولى عز وجل ثواب الصائم، يقول الله تبارك وتعالى فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺقال: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به” (متفق عليه). لكن كيف نثبث على التوبة بعد رمضان؟ وكيف نرتقي من مقامها إلى مقام الإنابة والحضور الدائم مع الله في جلواتنا وخلواتنا، في حركاتنا وسكناتنا، في رمضان وبعده؟ 

      إن الحفاظ على الفطرة السليمة وتعهدها بتشرب معاني الإيمان والتربية على مكارم الأخلاق مسؤولية الوالدين، لكن قد تنقطع هذه السلسلة النورانية في ظل إسلام موروث أصابته أدران الفتنة، آنذاك علينا اتباع العلماء الصادقين المنيبين، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “وصية الله تعالى للإنسان إن لم يجد الأب الحكيم، ولم ينشأ في المحضن الفطري السليم، أن يتبع سبيل من أناب إلى الله. والإنابة درجة من درجات التوبة. قال تعالى عن عبده لقمان الذي آتاه الله الحكمة: ﴿وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم. ثم جاء القرآن بالوصية الإلهية جملة اعتراضية بين وصايا لقمان لابنه، قال الله تعالى: ﴿ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي (لقمان: 14-15).

     إن غابت السلسلة الفطرية، سلسلة الأبوين، فاتبع خُطى «من» أناب. ابحث عن هذا «المن» لعل أنامِلَ روحانيته تمتد إلى قلبك بلمسات المحبة ونسمات الشوق إلى ربك والحنين إليه. ولعل التوبة واليقظة الروحية، وهي أعمال قلبية، تُؤصِّلُ لكَ دينا أوسع أفقا وأعلى مرتقى من مجرد «الالتزام» الذي لا يبدأ بك سلوك الطريق إلى الله، لأن سُلَّم الإسلام فالإيمان فالإحسان مفهوم غريب عن الوقت”[5]، ويضيف رحمه الله عن تقوية الأصل الإيماني: “إن وُجد أصل إيماني في القلوب، وهذا الأصل لا إمكان لاكتسابه إلا بالتربية وهي إيقاظ الفطرة وتقويمها، يفعل الأبوان في ذلك والمصحوب والجماعة الفعل الأول بعد هداية الله تعالى وشرحه صدر من شاء للإسلام، فإن بالإمكان تقوية ذلك الأصل وتزكيته وترقيته في معارج العقبة الإحسانية إلى أن يبلغ العبد المرتبة التي سبقت له بها الحسنى عند الله عز وجل”[6].

      وفي فقرة “التوبة واليقظة” من موسوعته التربوية “الإحسان” يستشهد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله بكلام أولياء الله العارفين، أطباء القلوب وأرباب العقول في فقه التربية لرفع الحجب عن هذه المعاني الإيمانية الإحسانية، فيورد قول سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله: “التوبة صفة المؤمنين (…) والإنابة صفة الأولياء قال الله تعالى: ﴿وجاء بقلب منيب وأما الأوبة فهي صفة الأنبياء والمرسلين، حتى قال: “فشتان بين التائب من الزلات، وبين التائب من الغفلات، وبين التائب من رؤية الحسنات”، ويسوق كلام الإمام عبد القادر الجيلاني عن التوبة الكبرى، قال: “توبوا بقلوبكم ثم بألسنتكم. التوبة قلب دولة. تقلب دولة نفسك وهواك وشيطانك وأقرانك السوء”، وقال: “تزيل العادة وتترك مكانها العبادة، تزيل المعصية وتترك مكانها الطاعة، (…) فحينئذ يكون ظاهرك محفوظا وباطنك بربك مشغولا. فإذا تم لك هذا فلو جاءت إليك الدنيا بحذافيرها ومكنتك منها وتبعك الخلق بأجمعهم من تقدم منهم ومن تأخر لم يضرك ذلك ولم يغيرك عن باب مولاك عز وجل”.

قلت: هذه التوبة الكبرى هي يقظة القلب وتحفز الإرادة إلى استكمال الإيمان وقرع أبواب الإحسان. اللهم تب علينا لنتوب إليك”[7].

      التوبة والإنابة والأوبة مقام المحبوبية والاصطفاء والاجتباء، قال رسول الله ﷺ فيما رواه عنه أنس بن مالك رضي الله عنه: “لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية (قاحلة) مهلكة، معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة. فاستيقظ وقد ذهبت راحلته. فطلبها، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش ـ أو ما شاء الله ـ قال: أرجع مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت. فوضع رأسه على ساعده ليموت. فاستيقظ، فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه. فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده” (أخرجه مسلم).

        فلنبادر للتوبة قبل فوات الأوان ومحاسبة الديان، ولنلزم بابها بعد رمضان، فهي طوق نجاة المذنبين، وسلوك العابدين المنيبين، وسنة الأوابين الصديقين، ولنصحب أرباب القلوب لتثبيث أقدامنا في أرض التوبة، ولنتضرع للمولى الحنان المنان أن يرزقنا توبة نصوحا لا نزيغ بعدها أبدا، ويمن على الأمة الإسلامية بتوبة جماعية تفرج هم إخواننا في فلسطين المستباحة دماؤهم وأعراضهم ومقدساتهم، ويعيد للأمة مجدها وعزتها ووحدتها وقوتها ومنعتها.


[1]. قال ﷺ فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله: “إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة” (أخرجه الترمذي).

[2]. أبو زكرياء النووي، شرح النووي على مسلم، ج 17، ص 190. 

[3]. ابن قيم الجوزية، مدارح السالكين، ج 1، ص: 197.  

[4]. كيف نعيش رمضان؟ سفر رمضاني مع الأستاذ عبادي، نشر على قناة الشاهد بتاريخ 28 يونيو 2014.

[5]. ياسين، عبد السلام. الإحسان، ج 1، ص: 99-100.

[6]. المرجع نفسه، ج 1، ص: 97.

[7]. ياسين، عبد السلام. تنوير المؤمنات ج 1، ص: 271-272.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد