الإمام عبد السلام ياسين..من التجربة الشخصية إلى تأسيس مشروع أمة..(12)
لقاءات تاريخية
تعتبر الفترة الممتدة من 1979 إلى 1981، قترة البيان والتواصل وجمع الجهود. كان قصد الإمام رحمه الله خلال هذه الفترة، ضم جهوده وجهود من معه إلى جهود الذين سبقوه للميدان لتأسيس عمل إسلامي مشترك من أجل صالح الدعوة ومستقبل جماعة المسلمين.
بعد العدد الأول من مجلة “الجماعة” يعترف الإمام بفضل من سبقه إلى الجهاد بالكلمة وينوه بصحيفة “النصيحة” لعلي الريسوني بشفشاون[1]، و”النور” لإسماعيل الخطيب بتطوان[2].
فتح الإمام بابا في مجلة الجماعة بعد العدد الافتتاحي، أسماه:”لقاء”، نظرا لأهمية ما كان يصل من رسائل عبر البريد من جهة[3]، ومن تزايد عدد الزوار على بيته المفتوح لكل راغب في الحوار والتعرف على مشروع الإمام.
فمجلة “الجماعة” أصبحت منبر اللقاء مع الأغيار من المغاربة: دعاة ومفكرين وذوي المروءة من رجال السياسة والثقافة والإعلام. كان قلب الإمام رحمه الله يتسع للشباب ويستمع لهمومهم واقتراحاتهم ويرشدهم بتوجيهاته النيرة حتى يكونوا مبشرين لا منفرين، دعاة لا قضاة، ميسرين لا معسرين… وليكونوا قرآنا يمشي بين الناس، فاتحين الأبواب السمحة للإسلام بالترغيب وليس بالترهيب، باللين وليس بالعنف، بفتح أبواب الحوار وليس بالانغلاق، ويدعو الجميع لاكتساب قنوات التواصل القلبية والعقلية واللغوية، وذلك بالانفتاح على الموروث الإنساني بجميع ألوانه دون الانفصال عن جذور الغيب.
حدد الإمام قواعد التواصل ومد جسور الحوار في زمن الفتنة الذي هيمنت فيه معاني هجينة في التواصل على قاعدة المجتمعات الاستهلاكية وسيادة العلاقات المقطوعة عن الله، واللقاءات الصالونية والفئوية … نجد غيابا مطبقا لمعاني التواصل القلبي، بدعوى كون مجاله زاوية من الأرض أو ورقة صفراء في رف من الرفوف !!
في باب “لقاء” من مجلة الجماعة حرص الإمام أن يبرز قيمة التواصل في عمقه الروحي الإيماني بما هو قاعدة العلاقات ضمن حركية المشروع والمجتمع الإسلاميين. إنها خاصية ميزت شخصية الإمام في المكتوب والمنطوق والملحوظ، ألا وهي الربط القوي المتين بين الغيب بما هو حقيقة والشهادة بما هي شريعة.
لقاءات منها ما كتب الله لها الظهور على صفحات المجلة، ومنها ما هو مازال مبثوثا في الصدور[4].
حسب ما استطعت تدوينه في مذكراتي، أو ما بلغني من مصدر موثوق، أستطيع أن أصنف هذه اللقاءات المرتبطة بالتأسيس إلى: لقاءات دعوة مباشرة لبناء مشروع العدل والإحسان، وأخرى لقاءات تعاون على الدعوة، وأخرى استفسارية من طرف أساتذة عملوا في الحركة اليسارية كانوا يظنون أن الحوار مستحيل بين الإسلاميين واليساريين، إلا أنهم وجدوه ممكنا مع الإمام.
نوع من هذه اللقاءات التاريخية والمهمة نشر مضمونه على صفحات المجلة، بينما النوع الآخر مازال ينتظر وجب إخراجه للناس، حتى يعرف أهل المغرب ما اكتشفه مؤخرا أهل المشرق في مِؤتمر استانبول[5].
1. اللقاءات المنشورة في المجلة
اللقاء الأول:
قدر الله أول لقاء مع الحاج إبراهيم الشرقاوي المعتصم، عافاه الله[6]، الذي كان يرجع له الفضل بعد الله تعالى في نشر المجلة وطباعة الكتب الأولى للمرشد، فكان “نعم الرفيق” حسب وصف الإمام له.

الحاج إبراهيم الشرقاوي وفد على الإمام من عالم المال، وعبر للإمام عن رغبته القوية في إخراج المشروع المحاصر إلى الناس، علما أن جل مطابع المغرب لم تستطع طباعة ورقة للإمام بعد رسالة الإسلام أو الطوفان، بسبب التخويف والتهديد المخزني.
الإمام ياسين، على الرغم من حاجته لمن يمول هذا المشروع الإعلامي الدعوي الناشئ، اشترط على السيد الشرقاوي أن لا يكون له تدخل في الخط التحريري للمجلة، إذ كان يرفض أن تخضع المجلة، وهي لمّا تولد، لسلطان المال وما يكون مع المال من أهواء وميولات، ولذلك فقد قالها الإمام صريحة للسيد إبراهيم الشرقاوي: “…إذا أردت أن تساعد على إخراج هذه المجلة فمرحبا بك، لكننا، قبل ذلك، نشترط عليك أن تكتب رسالة تبين فيها نيتك وعزمك، وتعطينا عهدا على أن يكون تمويلك خالصا لوجه الله دون أن يكون لك أي غرض شخصي وراء ذلك[7].
اللقاء الثاني
[8] : عبر منبر المجلة كان مع الأستاذ محمد عبادي، الأمين العام الحالي لجماعة العدل والإحسان، وهو العالم الجليل التقي الخفي كما وصفه الإمام في العدد الرابع من “الجماعة”، بأن للرجل ماض وحاضر ومستقبل في عمارة المسجد بالوعظ وتعزيز صف الدعوة إلى الله. رجل ميزه الله بالصمت الناطق قوة، إذا تحدث صدق، وإذا قٍرأ القرآن سمعت له أزيزا، وإذا دعا الله تعالى بكى وأبكى[9]…عرف حقيقته المتربصون لذلك جعلوا بيته أسيرا وصوته مكتوما.
اللقاء الثالث:
كان مع الأستاذ محمد بشيري رحمه الله، وهو الرجل الذي ميزه الله بالجرأة في الجهر بالحق، وبالدعوة واعظا في المسجد مؤثرا في المجالس.
الأستاذ بشيري رحمه الله، تحدث عن هذا اللقاء المميز، الذي تم صيف 1979 بقوله: “”… وأقبل علي الأخ عبد السلام ياسين هاشا محييا بتحية الإسلام، وعانقني عناقا حارا ينضح صدقا وإخلاصا، وإذا بالحقيقة الماثلة أمام عيني أكبر من تصوراتي…”. ثم يقول عن أثر ترحيب الأستاذ ياسين به:”وترددت كلمات الترحيب في قلبي وضميري قبل أن تتردد في سمعي، ورحت أقارن بين عذوبة الابتسامة وصفاء النظرة وبين صدق الحديث عند الرجل فازداد قربا مني أو بالأحرى ازددت قربا منه، وكأني أعرفه منذ زمن ضارب في القدم…”. ويقول عن بداية توطد العلاقة وما كان بينهما من مناقشات وحوارات…”: وأخذت أتردد على منزل الأخ عبد السلام نتجاذب أطراف الحديث ومحور أحاديثنا الدعوة والدعاة. ولم يخطر ببالي مطلقا أن أتخذ منه شيخا أو مرشدا، وما هو بالحريص على التشبه بالشيوخ ولا بالمرشدين، إلا ما كان من حرصه على لمّ الشعت ورأب الصدع…” إلى أن يقول: “…ولم يشف الأخ عبد السلام غليلي لأول وهلة، وطفق يفتح بصيرتي وبصري على ما كنت أجهله من حقيقة الصوفية النقية الطاهرة موضحا أن الأتباع من ذوي الضمائر المتعفنة قد أساؤوا إلى الصوفية أبلغ إساءة، وخاض أصحاب الأغراض الوضيعة في الماء العكر، ورسخ في أذهان المتطرفين أن الصوفي مثار كل الخرافات والخزعبلات التي نسجتها مخيلات محمومة تستلهم ضلالها من توجيه الشيخ وبإيعاز منه…ولم يكن ما أسرّ إليّ به من حديث استدراجا لتغيير موقفي بقدر ما كان محاولة لإخراجي من ضيق الأفق الفكري إلى سعته…”. ثم يقول عن اطمئنانه للأستاذ ياسين: “…وشعرت بألمعية رجل التعليم الخبير بفنون التربية ومناهجها تسيطر على لبي ووجداني، وبدأت الوحشة تزول تدريجيا، وبزوالها بدأت غيوم الخلفيات والترهات الباطلة تنقشع، ولم أر من الأخ عبد السلام ولم أسمع منه ما يندرج تحت وصف “الصوفي المخرف” التي ألصقت به بغير وجه حق.” ويقول عن العهد الذي قطعه على نفسه: “…ليس في عنقي بيعة لأحد إلا العهد الذي قطعته على نفسي لأحملها على إخلاص النية لله. ولست سنيا تصوف كما يخطر بأذهان البعض، كما أني لست صوفيا نبذ الصوفية ليتمسك بالسنة، وليس بين السني والصوفي أي فارق إلا ما كان من ذلك الركام من الأوهام والأضاليل…”. [10]
اللقاء الرابع
[11]:توصل بريد المجلة برسالة من الأخ مصطفى الرميد- وزير العدل حاليا- حينها كان طالبا بجامعة الرباط. نشرت الرسالة في منبر الحوار- العدد السادس من “الجماعة”- مضمونها غيرة وحرقة لما يتعرض له الإسلام من أنواع مختلفة من الهجمات المادية منها والفكرية[12]. بعد المراسلة تم اللقاء مع هذا الطالب الغيور، كان هذا اللقاء مناسبة لتنظيم أسبوع ثقافي بالبيضاء خلال الأسبوع الثاني من شهر أبريل سنة 1980، من طرف الطلبة الإسلاميين بالمدينة[13] .ومن أهم الأسباب التي حتمت تنظيم هذا النشاط الثقافي:إقبال الطلبة الكبير على معرفة منهاج الإسلام في التربية والأخلاق والسياسة والاجتماع والثقافة ومختلف فروع المعرفة فوجدوا في مجلة “الجماعة “ملاذا من خلال محاضرات الأستاذ الملاخ حول”الإسلام والتيارات المعاصرة” والأستاذ محمد بشيري حول” العدالة الاجتماعي في الإسلام” والأستاذ محمد الدكالي الذي شارك بدوره في الندوة المسائية حول قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية مختلفة، مع الأستاذين الملاخ وبشيري رحمهما الله [14].يتبع…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]. الأستاذ علي الريسوني من مواليد 1943 بشفشاون مفكر وفقيه ومتصوف و داعية إسلامي ، باحث مهتم بالعلاقات المغربية الإسبانية و التاريخ الأندلس. أصدر أول جريدة ذات توجه إصلاحي بشفشاون هي جريدة “النصيحة” في السبعينات ثم أصدر في التسعينات جريدة “شفشاون”.
[2]. الأستاذ إسماعيل الخطيب من مواليد 1942 بتطوان، من بين الدعاة الذين بدؤوا مبكرا في بث اليقظة الدينية في تطوان من خلال مجالس التذكير ودروس الوعظ والإرشاد، كما كان من الأوائل الذين دخلوا إلى الواجهة الإعلامية عبر جريدة ”النور” 1974.
[3]. شرفني الإمام رحمه الله بنقل البريد إليه وقراءته عليه يوميا- وأنا ابن 15 سنة-، إذ ائتمنني على مفتاح صندوق البريد (ص.ب 765- كليز، مراكش) حيث كانت تصل الرسائل.
. أحث كل من عاش هذه التجربة أن يكتب عنها وينشرها بين الناس لتعم الفائدة لمن لم يوافق زمنه زمن الإمام رحمه الله.[4]
[5]. المؤتـمر العلمي الدولي الأول في موضوع: “مركزية القرآن الكريم في نظرية المنهاج النبوي عند الأستاذ عبد السلام ياسين”، المنظم من طرف المركز الدولي للأبحاث والدراسات التربوية والعلمية، والمعهد الأوربي للعلوم الإسلامية، بتنسيق مع مركز وقف دراسات العلوم الإسلامية، يومي السبت والأحد 17 و18 محرم 1434 هـ الموافق لــ 1 و2 دجنبر 2012 بإستانبول بتركيا.
. إبراهيم الشرقاوي في فراش المرض منذ سنوات، حديثه اليوم يتمحور فقط على فضائل الإمام عليه.[6]
. انظر نص الرسالة في العدد الثاني من مجلة الجماعة،ص 60 .[7]
. تابع نص الحوار في العدد الرابع من مجلة الجماعة،ص70.محرم1400ه، نونبر1979[8]
. جالسته يوم اللقاء الأول مع الإمام، فرح الإمام بقدوم هذا الرجل التقي الخفي، واعتبر هذا اللقاء فتحا كبيرا لأسرة “مجلة الجماعة”.[9]
. تابع نص الحوار في العدد الخامس من مجلة الجماعة،ص98. ربيع الأول1400، يناير1980.[10]
. تابع حوار في العدد السادس من مجلة الجماعة، ص122. 25 جمادى الأولى1400، 10 أبريل 1980.[11]
. انظر نص الحوار في العدد السادس من مجلة الجماعة، ص 122.[12]
[13] .فترة تميزت بسيطرة اليساريين على هياكل الاتحاد الوطني للمغرب، ونشاط الإسلاميين كان خارج هذا الإطار.
انظر مضامين المحاضرتين في العدد السابع من مجلة الجماعة، ص 57[14]
أضف تعليقك (0 )