post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

أمنا حفصة..حافظة المصحف الشريف
رضي الله عنها
هي الكريمة بنت الكريم، شهد الزمان بمقامها فضلا ودينا وصيانة وورعا رضي الله عنها. افتتح أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله ترجمته لها بقوله : «الصوامة القوامة المزرية بنفسها اللوامة، وارثة الصحيفة الجامعة للكتاب»[1].
ووصفها الإمام الذهبي رحمه الله : «حفصة أم المؤمنين، الستر الرفيع بنت أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنها وعنه»[2].
تزوجت قبل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل خنيس بن حذافة بن قيس، وكان من أصحاب الهجرتين، شهد بدرا وأصيب في أحد، وما لبث أن لحق بربه من جراء جراحه.
تألم أمير المؤمنين لابنته التي ترملت وهي في الثامنة عشرة من عمرها، فعرضها أول الأمر على الصديق أبي بكر رضي الله عنه، لكن أبا بكر أمسك لا يجيب. فانصرف عمر واجدا حزينا لذلك. ثم بعد ذلك عرضها على ذي النورين عثمان رضي الله عنه، وكان قد فقد زوجه السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمهله الحيي عثمان رضي الله عنه أن أياما ثم جاءه بعدها فقال : ما أريد أن أتزوج اليوم.
فلم يحتمل الفاروق وانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو صاحبيه. فتلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم باشا ملاطفا وقال له : «يتزوج حفصةَ من هو خيرٌ من عثمان، ويتزوج عثمانُ من هي خير من حفصة»[3].
فتهلل وجه أمير المؤمنين وخرج ليزف بشرى الخطبة المباركة إلى حفصة وأبي بكر وعثمان، بل وإلى المدينة كلها.
وكان أول من لقيه الصديق رضي الله عنه فقال له : «لا تجد علي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر حفصة، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لتزوجتها».
وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه ابنته أم كلثوم بعد وفاة رقية رضي الله عنهما. يقول سعيد بن المسيب : «فخار الله لهم جميعا، كان رسول الله صلي الله عليه وسلم  لحفصة خيرا من عثمان، وكانت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا من حفصة رضي الله عنهما».
فانضافت السيدة حفصة بنت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلى بيت النبوة، بعد أمنا سودة وأمنا عائشة.
ولم تجد أمنا عائشة رضي عنها بدا من مداراة الوافدة الجديدة، فهي من هي شبابا وتقىً وعزةَ نسب، كما أن أمنا حفصة رضي الله عنها تدرك أن أمنا عائشة فد سبقتها إلى  بيت النبي وإلى قلبه صلى الله عليه وسلم ، فحصل بينهما قرب وتظاهر.
 وكان الفاروق رضي الله عنه يتوجس من مسايرتها للسيدة عائشة رضي الله عنها في مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم، ويردها ويحذرها بمثل قوله رضي الله عنه : «أين أنت من عائشة؟ وأين أبوك من أبيها؟»
سمع يوما من زوجه أن ابنته تراجع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان، فمضى إليها وزجرها قائلا : «تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله يا بنية، لا يغرنك هذه الذي أعجبها حسنها وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك ولولا أنا لطلقك !» [4]
خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بالسيدة مارية، في بيت حفصة وقد كانت في بيت أبيها، فلما انصرفت مارية رضي الله عنها دخلت حفصة حجرتها وقالت للمصطفى صلى الله عليه وسلم : لقد رأيت من كان عندك، والله لقد سببتني، وما كنت لتصنعها لولا هواني عليك! ثم استعبرت باكية. فأقبل عليها الرؤوف الرحيم يترضاها، بأن أسر إليها أن مارية حرام عليه، ثم أوصاها ألا تخبر أحدا بما كان. فرضيت أم المؤمنين، ولكنها لم تستطع أن تخفي الأمر عن السيدة عائشة، ولم تقدر عواقب ذلك. فكان ذلك سببا في نزول سورة التحريم وهو المتداول في كتب الفقه والتفسير. وفي الصحيحين أن السورة نزلت في تحريمه شرب العسل على نفسه في قصة المغافير.
  يروي ابن حجر من طرق شتى، أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق فعلا أم المؤمنين طلقة واحدة، ثم ارتجعها. وتحكي كتب السيرة أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حثا التراب على رأسه وقال : «ما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها»، فنزل الأمين جبريل عليه السلام من الغد فقال لرسول الله صلي الله عليه وسلم: «إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة بعمر».
وكان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك،  أن اعتزل نساءه وهجرهن  شهرا تربية لهن، فاغتم المسلمون لذلك وقالوا إن رسول الله طلق نساءه. إلا أن الفاروق رضي الله عنه  استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك عبرته وقال : «يا رسول الله، ما يشق عليك من النساء ؟ إن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك»، فابتسم النبي صلى الله عليه وسلم وطمأنه أنه لم يطلقهن وإنما هجرهن شهرا، فخرج عمر إلي الناس مبشرا، فانزاح الغم عن المسلمين.
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وتلى عليهم قوله تعالى :  يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ  قَدۡ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمۡ تَحِلَّةَ أَيۡمَٰنِكُمۡۚ وَٱللَّهُ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَهُوَ  ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ  وَإِذۡ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعۡضِ أَزۡوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتۡ بِهِۦ وَأَظۡهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ عَرَّفَ بَعۡضَهُۥ وَأَعۡرَضَ عَنۢ بَعۡضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتۡ مَنۡ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡخَبِيرُ  إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ  عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبۡدِلَهُۥٓ أَزۡوَٰجًا خَيۡرٗا مِّنكُنَّ مُسۡلِمَٰتٖ مُّؤۡمِنَٰتٖ قَٰنِتَٰتٖ تَٰٓئِبَٰتٍ عَٰبِدَٰتٖ سَٰٓئِحَٰتٖ ثَيِّبَٰتٖ وَأَبۡكَارٗا . [5]
ولم ير النبي صلي الله عليه وسلم من حفصة رضي الله عنها بعذ ذلك شيئا لا يسره حتى قبض. فاكتوت مع زمرة الأخيار الأبرار بفراقه وحزنت لذلك حزنا شديدا، رضي الله عنها.
ولما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه كانت حفصة هي التي اختيرت من بين أمهات المؤمنين جميعا لتحفظ المصحف الكريم. أودعه إياها الصديق رضي الله عنه.
وروت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستين حديثا، اتفق الشيخان لها على ثلاثة أو أربعة، وانفرد مسلم بستة.
وفي الحديث عند البخاري أن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما دخل على أمِّنا حفصة رضي الله عنها، أختِه بعد مبايعة يزيد، فقال لها: «قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيء، فقالت: اِلْحَقْ، (اخرج إلى الناس وبايع مع الناس) فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فُرقة، فلم تدعه حتى ذهب»[6]. فعلت ذلك رضي الله عنها خوف الفرقة وخشية تشتت أمر المسلمين.
وأقامت بالمدينة عاكفة على العبادة قوامة صوامة، إلى توفيت زمن معاوية رضي الله عنه، فشيعتها إلى مثواها بالبقيع أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
<hr />
[1]  حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصفهاني، الجزء الثاني، ص 50، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1996. [2]  سير أعلام النبلاء، الإمام الذهبي، الجزء الثالث، ص 482، دار الحديث، القاهرة 2006. [3]  الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، الجزء الثامن، ص 85، دار الكتب العلمية، بيروت 1990. [4]  من حديث طويل رواه الإمام مسلم في الصحيح، رقم الحديث 1479. [5]  سورة التحريم، الآيات 1-5 . [6]  صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب: غزوة الخندق، وهي الأحزاب، رقم الحديث 3870 .

أمنا حفصة..حافظة المصحف الشريف

الأطفال والشباب في سياق رقمي رؤية منهاجية

القوامة والحافظية

معالم السياق العام لقضية المرأة في نظرية المنهاج النبوي

المسؤولية التربوية في نظام الأسرة

الزواج بآدابه الإسلامية وحقوقه

الإحسان إلى الوالدين وذوي الرحم والصديق

المرأة والأسرة

أمنا حفصة..حافظة المصحف الشريف

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

محبة النبي الكريم ﷺ

الهداية إيمان بالغيب ويقين بالآخرة

نظرات في رسالة تذكير للإمام عبد السلام ياسين

الجرح الفلسطيني

قصيدة الهمزية «أم القرى» للإمام البوصيري رحمه الله

الأدب مع الله عز وجل

مقالات ذات صلة