post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

إن كتابة سيرة رجل كسيدي محمد العلوي السليماني لا تفي فيها الكلمات والجمل بالمراد، ذلك أن حياة الرجل الحقيقية ليست في الأحداث الكبيرة التي عاشها، والتي كان فيها جذعا، ولا في المواقف المشهودة التي سجلها له التاريخ، ولكن في تفاصيل حياته ودقائق معاملته لكل من يعرفه، ودعوته وحرصه ووطاءة كنفه، في دمعته الحانية وذبذبات صوته التي تخرق سمع الأذن وتنفذ إلى القلب.



سيرته هي كل هذه الانطباعات والذكريات التي خلفها في قلب كل واحد منا ومن الناس الذين خبروه عن قرب، وصورة جلسته في مجالس الذكر والقرآن في ليالي الرباطات والاعتكافات وصمته وتفكره. رحمه الله من رجل. «رجل وأي رجل!» بهذا وصفه الإمام عبد السلام ياسين رضي الله عنه.



هو الشريف المنيف الحسيب النسيب سيدي محمد العلوي السليماني، الأمير، كما كان يحب أن يداعبه الإمام، فنسبه يلتقي بالأسرة الحاكمة عند المولى سليمان، السلطان العلوي المعروف، لكنه رحمه الله اختار شرف الانتساب إلى المستضعفين الممنون عليهم بالإمامة والوراثة، الموعودين بالنصر والفتح والتمكين في الأرض.



رجل سريع الدمعة جميل البسمة ذو قلب كبير، كأن رخامة صوته وبحَّتَه ما خلقتا إلا للدعاء. وجهه رحمه الله مرآة تعكس نور الصحبة، عندما كنا ننظر إليه جالسا بجانب الإمام، يذكرك وجهه ببيت البوصيري رحمه الله:



فإنه شمس فضل هم كواكبها&nbsp;&nbsp;&nbsp;&nbsp;&nbsp;&nbsp;&nbsp;&nbsp;&nbsp;&nbsp;يظهرن أنوارها للناس في الظلم



كان يقول دائما استشعارا لحجم المسؤولية «كيف نديرو حتى نشكرو الله تعالى على هذا النعم؟». ويسأل دائما: «هل لنا حاجة مع الله تعالى؟»



ازداد الأستاذ محمد العلوي السليماني بمراكش سنة 1931. وهو أب لعشرة أبناء، خمسة ذكور وخمس إناث، وجد لأربعة وعشرين حفيدا. اشتغل مدرسا ثم مديرا لمدة تزيد عن أربعين سنة. وأُحيل على التقاعد سنة 1991 من إدارته لمدرسة الإمام الجزولي بمراكش، هذه المدرسة التي اشتهرت باسمه هو لا باسم الإمام الجزولي، ذلك أنه لبث فيها ثمانية وعشرين سنة.



هو ثاني الرجلين اللذين صحبا الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله في جميع مراحل مساره التربوي والدعوي والجهادي إلى جانب الأستاذ أحمد الملاخ&nbsp;رحمه الله. منذ كان سيدي عبد السلام في الزاوية مع شيخه الحاج العباس رحمه الله. عن مثله يقال: «رجل شهد المشاهد كلها».



عن هذه المرحلة يحكي سيدي محمد العلوي: «كنا أنا والأستاذ الطالبي في الزاوية نصحب، في الحقيقة والواقع، سيدي عبد السلام فقد كان يشملنا برعايته ورفقه ولطفه ويهتم بنا غاية الاهتمام. كان لا يني يذكرنا بقدر الشيخ الحاج العباس رحمه الله، وما آتاه الله من فضله، ويحدثنا عن السلوك إلى الله عز وجل وعن متطلبات هذا السلوك ومقاصده، يحرص على إيقاظنا، لنصلي معه صلاة الصبح، ويذكرنا بأن لب هذا الأمر إنما هو في الصلاة والقرآن، وأن بعض «أصحاب الأحوال» من فقراء الزاوية قد شغلتهم القشور عن اللباب».



قال عنه الإمام وعن رفيقه سيدي أحمد الملاخ: «كان لأخوي الكريمين سيدي «محمد العلوي» وسيدي «أحمد الملاخ» الفضل في طبع كتابي: «الإسلام أو الطوفان» ونشره، وقد أديا إثر ذلك على يد الشرطة ما قدر الله لهما من البلاء»<a href="applewebdata://A65E388C-DA80-4409-83E5-E58B56A4864F#_edn1">[1]</a>.



كَلَّفَتْهُ نصرته للإمام، إلى جانب رفيقه سيدي أحمد الملاخ، خمسة عشر شهرا في زنازين معتقل درب مولاي الشريف الرهيب بالبيضاء من غير محاكمة، ابتداء من عام 1974.



عن هذه الفترة يحكي رحمه الله يقول: «كيف أمكننا أن نتحمل تلك الحياة القاسية في تلك الظروف التي تطوقها البشاعة واللاإنسانية من كل النواحي، نوم في المراحيض واليدان مكبلتان، والحركة ممنوعة ليلا ونهارا وليس هناك إلا الجلوس في صمت والانتظار.&nbsp;



في يوم من الأيام، وبعد ستة أشهر تقريبا دخل الحارس وجرني من القيد الذي في يدي، وسار بي، فوقع في نفسي أنني سائر إلى الموت، وخاصة وأنا أسمع صراخ الذين يعذبون وصيحات الجلادين في ذلك المكان العامر بالظلم والإهانة وسحق الكرامة البشرية. في هذه اللحظة قلت لنفسي موبخا: «لقد تركت دارك وأولادك وسيارتك واخترت السير في هذا الطريق، ماذا كان ينقصك؟ أي شيء أدى بك إلى هذا الفضول؟» وفجأة عدت إلى نفسي وتذكرت أن الحاج العباس رحمه الله، كان إذا جاء إلى بيتي يكتب على الحائط قول الله تعالى:&nbsp;﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ فتمنيت لو أنني كتبتها في جدار الزنزانة قبل أن يخرجني السجان. وفي جلسة التحقيق معي، بدأ المحقق يسألني عن أشرطة القرآن التي أخذوها من بيتي لدى اعتقالي، وحينما شغل المسجلة لسماع أحد الأشرطة سمعنا بالتحديد قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادكَ إِلَى مَعَادٍ﴾. ولما فتح الشريط الثاني، سمعنا قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾. فلم أتمالك نفسي وأجهشت بالبكاء وخارت قواي».



استأنف سيدي محمد العلوي ورفيقه سيدي أحمد الملاخ العمل الدعوي، بعد السراح، مبشرين بالحركة الوليدة، داعين لغاياتها، مساهمين في بناء صرحها. قال عنهما الإمام رضي الله عنه: «لم يزرني بعد خروجي من المعتقل إلا قليل جدا من أصدقائي القدامى من المعارف، ولم يكن لي يومئذ إلا الملاخ والعلوي»<a href="applewebdata://A65E388C-DA80-4409-83E5-E58B56A4864F#_edn2">[2]</a>.



تأسست الجماعة وتوافد عليها الناس، وتوسعت بفضل الله وجهد هؤلاء الأفذاذ، ولم تتوقف المعاناة ولا هدأ التضييق على الجماعة، فما لبث أن سجن سيدي محمد العلوي لمدة سنتين رفقة أعضاء مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان سنة 1990.



وعن هذه المرحلة يقول سيدي عبد الله الشيباني، وكان رفيقهم في زنازين سجن لعلو بسلا على مدى عامين كاملين: «هناك (في السجن) خبَرْنا صبرَ شيخ أكبر منا سنا، مريض بشتى الأمراض، على قساوة برد مخافر الشرطة في مخفر سلا في شهر يناير 1990، حيث البرد القارس والقوت القليل لمدة 12 يوما. وبعد انتقالنا للسجن، خلال فترة «الضيافة»، خبَرْناه حيث الضيق والقلة في كل شيء؛ خبرناه في عفته وفي إيثاره لشاب آنذاك مثلي، بغطاء أو بيضة أو كسرة خبز أو مكان مريح. وجدنا فيه الصبر والاستبشار واليقين والثبات. كان الرجل رحمه الله يشكو من الربو، وكانت الزنزانة تزيده ضيقا، وكان يشكو من البرد في الساقين، وكانت أرض الزنزانة تضاعف برده أضعافا، فيضطر لمضاعفة السراويل والجوارب؛ فكان صبره بالنسبة لصبري مضاعفا أضعافا كثيرة. وفي تلكم الظروف كان يظهر ضعفي ولا يظهر ضعفه، وتبرز شكواي ولا تسمع شكواه».



رجل عرف بالبذل والعطاء فكانت حياته كلها لله، فتح بيته كما فتح قلبه للمؤمنين لذكر الله تعالى وتعلم القرآن الكريم والتربية على الأخلاق الحسنة.



يقول عنه الدكتور بويبري: «كان بيته قبلة للمؤمنين والمؤمنات ومنارة للعلم والتربية وصرحا من صروح الجهاد. وقد أرخ هذا البيت الكريم لمحطات بارزة من تاريخ دعوة العدل والإحسان وجهادها…&nbsp;كان حاله الدائم أفصح بكثير من مقاله وهو الذي كان طويل الصمت عميق العِبرة وسريع العَبرة. لقد كان همه الذي تفطر له قلبه وشاب له رأسه: إنقاذ الذمم وإيقاظ الهمم لطلب أعز ما يطلب: رضا الله جل وعلا. إذا رؤي ذُكر الله وإذا تكلم نصح في الله، وإذا صمت كان صمته حكمة ودمعته رحمة».



رجل ما بدل ولا غير ولا خاف في الله لومة لائم حتى لقي الله تعالى اليوم الثاني من شهر دجنبر 2008عام وهو عنه راض إن شاء سبحانه. ودفن بمراكش في موكب مهيب لجنازة قلما شهدت المدينة مثلها، وكلنا يذكر كلمة السيد الأمين العام على قبره وهو يوارى التراب: «عجبا لهذا القبر كيف يحوي جثمان جبل مثلك؟»



قال عنه الإمام في تأبينه: «رزئنا برجل أي رجل، كان رجلا أي رجل. رجلا يتحلى بالأخلاق الحسنة ويحبه كثير من الناس، وقد أخبر رسول الله ﷺ بأنه من شهد له أربعة دخل الجنة. وهذا رجل يشهد له أربعة وأربعة وأربعون وأربعة آلاف وأربعون ألفا وأكثر من ذلك، يحبه الجميع. نسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته وأن يلحقنا به مسلمين مقربين سابقين. نشهد أنه كان سباقا إلى الجماعة، إلى نصرة الحق يوم كان بعض الناس يخنسون ويترددون ويخشون من لا يخشى الله عز وجل. رجلا وجدناه أيام الحاجة إلى رجال أمثاله لا يخافون في الله لومة لائم. آزر هذه الجماعة منذ نشأتها بماله ونفسه وجهده كله. نسأل الله أن يتقبل منه، نسأل الله أن يجعله مع الرعيل الأول من الصحابة والتابعين الذين سبقت لهم عند الله عز وجل الحسنى».



وكان من آخر كلام بينه وبين الإمام وهو في شبه غيبوبة: «السلام عليك يا سيدي محمد العلوي، أودعك يا أخي، وأقول لك: لا إله إلا الله عليها نحيى وعليها نموت وفي سبيلها نجاهد وعليها نلقى الله، لا إله إلا الله محمد رسول الله، أنت الآن في ضيافة الرحمن، اثبت عند السؤال ولا يفتر لسانك عن ذكر الله».



أما رفيق دربه وصاحبه الأستاذ أحمد الملاخ فيستعرض بعض مناقبه: «جابر عثرات الكرام، لمست فيه هذا الجانب طوال معاشرتي له وهي طويلة وطويلة جدا، وعندما عاشرته في المحن إذ كنا نعيش في زنزانة طولها وعرضها متران (يقصد اعتقالهما في درب مولاي الشريف)، في هذه عرفني وعرفته وعرفت صبره وتجلده وحبه لله ولرسوله ﷺ. عرفته في زنزانة الاعتقال وعرفته في ساحة العمل الدؤوب المستمر وفي حرصه على إخوان وأخوات الجماعة».



ويقول عنه سيدي عبد الهادي ابن الخيلية : «الرجل الشريف المحب المحبوب الذي رؤيته تذكرك بالله وحاله ينهضك لتطلب مقامات القرب من الكريم المنان، كلما جالسته إلا و يذكرك بالله وبرحمة الله، وعفوه وفضله، ويرغبك في التجارة التي لن تبور؛ التجارة النافعة المنجية بين يدي الكريم سبحانه وتعالى، كان رحمه الله يعلمنا بصغير الأمر قبل كبيره، برفق ورحمة ولين ومحبة، وكان يغرس في سويداء قلوبنا محبة إمامنا ومرشدنا ويعلق همتنا بسيدنا رسول الله ﷺ محبة وتعظيما واتباعا وحملا لدعوته ورسالته ﷺ وتشوفا لشفاعته يوم القيامة. ويحثنا على تعظيم ما نحن عليه وما نحن إليه ويذكرنا بفضل الله علينا أذ كنا قليلا فكثرنا وخائفين فثبتنا».



أفضى هذا الجبل الشامخ إلى ربه ثابتا وفيا راضيا مرضيا، كانت تكفي جلسة صفاء في حضرته أن يتزود فيها المُجالس بما يغنيه عن مطالعة عشرات السير والمواعظ. حياته، سلوكه، نطقه، صمته، مواقفه كلها دروس حية في التأسي الحقيقي والصادق بمنهاج النبوة.



رحمه الله ورضي عنه وألحقنا به وبإمامنا وبمن سبقنا بالإيمان غير مبدلين ولا مغيرين.&nbsp;



والحمد لله رب العالمين.



<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity"/>



<a href="applewebdata://A65E388C-DA80-4409-83E5-E58B56A4864F#_ednref1">[1]</a>&nbsp;. حوار شامل مع الأستاذ المرشد، دار العدل والإحسان للنشر والتوزيع، أمريكا، 2014، ص: 15 <a href="applewebdata://A65E388C-DA80-4409-83E5-E58B56A4864F#_ednref2">[2]</a>&nbsp;. المصدر نفسه، ص: 29

التزكية والدعوة

سيرة الرجل المجاهد سيدي محمد العلوي السليماني

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

سيرة الرجل المجاهد سيدي محمد العلوي السليماني

الجرح الفلسطيني

كيف نحافظ على ميراث الصحبة والجماعة ونبلغه؟

روح المسجد

الفرح برسول الله ﷺ

محبة النبي الكريم ﷺ

مقالات ذات صلة