post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشية الأسدية،  رضي الله عنها هي أولى أمهات المؤمنين، وأعظمهن شأوا وأعلاهن شأنا وفضلا.
كانت السيدة خديجة رضي الله عنها امرأة عالية الهمة واسعة الأفق، مفطورة على النقاء والطهر حتى عرفت بين أترابها من نساء قريش بالطاهرة، بعيدة عن الأهواء والنوازع والرغبات، ناهيك بكرم الأصل وشرف المحتد، فهي الحسيبة النسيبة ذات الشأو البالغ في الجاه والمال والشرف.
تزوجت قبل النبي صلى الله عليه وسلم من عتيق بن عائذ المخزومي  ثم من هند بن زرارة التميمي. وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها جميع أولاده سوى إبراهيم.
قال ابن سعد في الطبقات : «لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة قال له أبو طالب : أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وهذه عير قومك، وقد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيرها، فلو جئتها فعرضت نفسك عيها لأسرعت إليك. قال: ثم خرج إليها أبو طالب فقال لها : هل لك يا خديجة أن تستأجري محمدا؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببَكْرين[1]، ولسنا نرضى لمحمد دون أربع  بكار، قال : فقالت خديجة : لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألت لحبيب قريب؟!»[2]
فخرج رسول الله صلي الله عليه وسلم في تجارتها مع غلام لها اسمه ميسرة، ورأت من وراء ذلك الخير العميم والربح الوفير . ولدى عودتهما حدثها غلامها بما كان من عجيب أمر الصادق الأمين، وما رأى من دماثة خلقه، وكريم عنصره وحلمه واتزانه وحصافته.
روى ابن سعد، من طريق الواقدي، عن نفيسة بنت منية قالت : «كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة، جلدة شريفة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها وبذلوا لها الأموال. فأرسلتني دسيسا إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام. فقلت : يا محمد ما يمنعك أن تزوج ؟ فقال:  ما بيدي ما أتزوج به، قلت: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟  قال:  فمن هي؟  قلت: خديجة. قال: وكيف لي بذلك؟  قالت: قلت علي. قال: فأنا أفعل»[3].
فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة.
وقد خطب أبو طالب في ذلك اليوم فقال: «الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضِئْضِئ[4] معدّ، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته وسُوّاس حرمه، وجعله لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا حكّام الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يُوزن به رجل شرفاً ونبلاً وفضلاً، وإن كان في المال قُلّ، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مستردّة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصَّدَاقِ ما آجله وعاجله من مالي كذا»[5]. وعلى ذلك تم الأمر، فكان لها النبي صلى الله عليه وسلم خير بعل، لطيف المعشر، سابغ العطف، كرمه مثل حلمه، وحلمه مثل رحمته، ورحمته مثل مروءته. بأبي هو وأمي.
ووسع قلبه الشريف أهل بيتها وفاض على أبنائها ومواليها، ولا هي بخلت بحبها ومشاعرها ومالها، فكانت تكرم كل من يحبه الزوج النبي صلى الله عليه وسلم. زارته يوما مرضعه السيدة حليمة السعد، فهش لزيارتها وفرح بها أيما فرح ، وأسبغ عليها من كرمه، وزادتها الزوج المعطاء فوق ذلك أربعين رأسا من الغنم وبعيرا  يحمل الماء، وزودتها فوق حاجتها، إكراما للنبي وصلة لمن يحب.
وقد أوتيت السيدة خديجة من الفراسة والإلهام ورباطة الجأش ما به كانت لسيدنا النبي سندا، فكانت له وزير صدق، وعماد نصر، وركن عون، آمنت به وصدقته حين كذبه الناس، ونالت بذلك شرف السبق على العالمين.
قال الإمام الذهبي رحمه الله : «ومناقبها جمة، وهي ممن كمل من النساء، كانت عاقلة جليلة دينة مصونة كريمة، من أهل الجنة، وكان يثني عليها، ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها»[6].
كانت رضي الله عنها  نسيج وحدها، تبوأت سدة الفضائل، حتى قال عنها الحبيب صلى الله عليه وسلم : «خير نسائها خديجة بنت خويلد، وخير نسائها مريم بنت عمران»[7]. فكان من خواصها أنها لم تسؤه قط، ولم تغاضبه، ولم ينلها منه إيلاء ولا عتب ولا هجر، رضي الله عنها.
لما فجأ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الوحيُ أخذ منه الفزع والفرق كل مأخذ، فانطلق تُرعد فرائصُه،  ودخل عليها وهو يقول : زمّلوني زمّلوني! لقد خشيت على نفسي، فضمته إلى صدرها تهدئ من روعه وقالت : «الله يرعانا يا أبا القاسم، أبشر يا ابن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الامة، والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»[8].  
وهُرعت إلي ابن عمها ورقة بن نوفل وحدثته بالذي كان، فانتفض يقول وكان هرم وأنهكه المرض : «قدوس، قدوس، والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت».
أتى جبريل النبي صلى الله عيه وسلم فقال : «يا رسول الله، هذه خديجة أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فأقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت من قصب، لا صخب فيه، ولا نصب»[9].
وإن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتاه جبريل عليه السلام وهو  بأعلى مكة، فتوضأ ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ليريَه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته.
ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة فتوضأ لها ليريَها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل، ، وصلى بها رسول الله صلي الله عليه وسلم، فصلت بصلاته. فكانت الطاهرة رضي الله عنها أول امرأة تقيم الصلاة.
وظلت وراء النبي صلى الله عليه وسلم  تعضده وتؤازره، حتى دخلت معه رضي الله عنها حصار الشعب، فشاركته المحنة وواسته بنفسها ومالها، إلى أن خرج من تلك المحنة منصورا عزيزا.
فما لبثت بعد ذلك غير يسير حتى وافتها المنية رضي الله عنها وأرضاها، قبل الهجرة بثلاث سنين ، على الأصح، ودفنت في الحجون ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قبرها.
ما جاوزت عائشة رضي الله عنها الحق حين قالت: « ما غِرْتُ على أَحَدٍ من أَزْوَاجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ما غِرْتُ على خديجةَ وما بي أنْ أَكُونَ أَدْرَكْتُها وما ذلكَ إلَّا لِكَثْرَةِ ذكرِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لها»[10].
كان صلى الله عليه وسلم يقول :  «إني قد رزقت حبها. والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورزقت منها الولد وحرمتموه مني».
وبعد موتها، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبر صدائقها، وإذا أتى بالشيء يقول: «اذهبوا إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة».
وعندما انتصر المسلمون  في بدر، طفق رسول الله صلى الله عليه وسلم  يتلقى فداء الأسرى من قريش، فلم يكد يلمح قلادة لخديجة، بعثت بها ابنتها  زينب في فداء زوجها الأسير أبي العاص بن الربيع، حتى رق قلبه الشريف لذكرى زوجه الغالية، فسأل أصحابه في أن يردوا على زينب  قلادتها ويفكوا أسيرها، ففعلوا رضي الله عنهم.
ومنَّ الله على السيدة خديجة وعلى المسلمين، بأن حفظ في نسل الزهراء ابنتها ذرية نبيه وعترته الطاهرة، نورا متصلا إلى يوم القيامة، فهي رضي الله عنها أم آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
رضي الله عن أمنا خديجة  وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، والحمد لله رب العالمين.
[1]  البَكر، بالفتح: الفَتِيُّ من الإِبل بمنزلة الغلام من الناس، والأُنثى بَكْرَةٌ. [2] الطبقات الكبرى، لابن سعد، ج 1، ص 104، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990. [3]  المصدر نفسه، ص 105. [4]  الضِّئْضِئُ: الأصل، وقيل: كثرة النَّسْل وبَرَكَتُه [5]  المواهب اللدنية، الإمام القسطلاني، ج 1، ص 117، المكتبة التوفيقية، القاهرة. [6]  سير أعلام النبلاء، الإمام الذهبي، ج 3، ص 408، دار الحديث، القاهرة، 2006. [7]  حديث حسن صحيح، رواه الترمذي في سننه. [8]  رواه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله. [9]  رواه البخاري في الصحيح، رقم الحديث 3280. [10]  رواه البخاري ومسلم والترمذي في سننه واللفظ له، رقم الحديث 2017.

أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها

الأطفال والشباب في سياق رقمي رؤية منهاجية

القوامة والحافظية

معالم السياق العام لقضية المرأة في نظرية المنهاج النبوي

المسؤولية التربوية في نظام الأسرة

الزواج بآدابه الإسلامية وحقوقه

الإحسان إلى الوالدين وذوي الرحم والصديق

المرأة والأسرة

أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

محبة النبي الكريم ﷺ

الهداية إيمان بالغيب ويقين بالآخرة

نظرات في رسالة تذكير للإمام عبد السلام ياسين

الجرح الفلسطيني

قصيدة الهمزية «أم القرى» للإمام البوصيري رحمه الله

الأدب مع الله عز وجل

مقالات ذات صلة