post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين


<h1 class="wp-block-heading">ـ في معاني الاعتكاف:</h1>



<p>الِاعْتِكَاف لغة هُوَ الْإِقَامَة، يُقَال اعْتكف فلَان بمَكَان كَذَا إِذا أَقَامَ بِهِ وَلم يخرج عَنهُ، وَعَكَفَ فلَان على فلَان إِذا أَقَامَ عَلَيْهِ وَمِنْه قَول الله جلّ وَعز (وَانْظُر إِلَى إلهك الَّذِي ظلت عَلَيْهِ عاكفا) (طه: 97)<a href="#_ftn1" id="_ftnref1">[1]</a>.</p>



<p>والاعتكافُ اصطلاحًا: هو الإقامةُ في المسجِدِ بِنِيَّةِ التقرُّبِ إلى الله عَزَّ وجلَّ، ليلًا كان أو نهاراً، وهو سُنَّة مشروعة، فعلها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وفعلها أزواجه من بعده، وحافظ عليها بعض صحابته الكرام. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: &#8220;كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يعْتَكِفْ عَامًا، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ&#8221;<a href="#_ftn2" id="_ftnref2">[2]</a>.</p>



<p>وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا»<a href="#_ftn3" id="_ftnref3">[3]</a>.</p>



<p>وكان من هديه عليه الصلاة والسلام الاعتكاف في رمضان، فقد صح عنه أنه اعتكف العشر الأوائل منه، ثم العشر الأواسط، ثم داوم على اعتكاف العشر الأواخر، التماساً لليلة القدر. وفي العام الذي قُبِضَ فيه اعتكف العشر الأواسط والأواخر معا،كما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في غير رمضان، فكان ذلك تشريعاً منه لجواز الاعتكاف في كل زمان.</p>



<p>وحاصل القول، فإن من معاني الاعتكاف:</p>



<p>ـ عُكوفُ القَلبِ على باب الله تعالى، ذكراً لله تعالى، وتلاوةً للقرآن الكريم.</p>



<p>ـ انجماعُ القلْبِ على الله تعالى، بتجنُّب الحديث في أمور الدنيا ما أمكن.</p>



<p>ـ الخلوةُ بالله سبحانه بتفريغِ القَلبِ مِن أمورِ الدُّنيا وشهواتها، وبالاشتغالِ به وَحدَه سبحانه.</p>



<p>بذلك يكون الاعتكاف مائدةٌ ربانيةٌ تتنزل فيها السكينةُ والرحماتُ على المؤمن الاغتراف منها كل موسم بنية المحتاج ليتنقّى درن القلب بفضل من الله تعالى ويترقى في معارج القرب منه سبحانه من أجل خدمة أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم والسعي الحثيث في حسن عمارة الأرض وإصلاحها صحبة جماعة المؤمنين الذين يرجون لقاء الله تعالى.</p>



<h1 class="wp-block-heading">ـ من آداب الاعتكاف:</h1>



<p>من آداب الاعتكاف الاشتغال بذكر الله تعالى ودعائه، وتلاوة القرآن، والإكثار من النوافل، <a>وتجنب ما أمكن الحديث في أمور الدنيا،</a> ولا بأس بشيء من الحديث المباح مع الأهل وغيرهم لمصلحة، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى&nbsp;البخاري ومسلم&nbsp;في صحيحَيْهِما عن&nbsp;صفيةَ&nbsp;بنت حُيَيٍّ رضي الله عنها، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ، ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي &#8211; وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ &#8211; فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: &#8220;عَلَى رِسْلِكُمَا ، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ &#8220;. فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: &#8221; إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا سُوءًا &#8220;، أَوْ قَالَ: &#8221; شَيْئًا&#8221;.<a href="#_ftn4" id="_ftnref4">[4]</a></p>



<p>فدل الحديث أنه يجوز للمعتكف أن يكلم أهله ويتحدث معهم، ولو كانوا في المسجد، قال&nbsp;ابن قدامة:&nbsp;&#8220;ولا بأس بالكلام لحاجته &#8211; أي حاجة المعتكف &#8211; ومحادثة غيره&#8221;<a href="#_ftn5" id="_ftnref5">[5]</a>.</p>



<h1 class="wp-block-heading">ـ بأي نيةٍ أعتكفُ؟</h1>



<p>إن الداعي إلى خلوتي بربي هو اضطراري إليه سبحانه ليطبِّبني، فأنا مريضٌ في حاجة لدواءِ عِللي، وتائهٌ محتاج لمن يُمسك بيدي، فأين أُسند رأسي حين تضيق بيَ السبلُ وأكون مضطرًّا؟ ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ&nbsp; مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ (النمل: 64). وأين أفرُّ حين تحيط بي الملمات؟ وتضيق بي السبل؟ ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ&nbsp; إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ (الذاريات: 50). فقُبيل الدخول إلى الاعتكاف يكون القلبُ قاسياً مُحمّلاً بثقل الغفلات، ويجد الإنسانُ في نفسه تردُّدا وتثاقلاً عن الاستجابة لنداء الجماعة للحضور للاعتكاف. والمُوفَّقُ من اقتحم عقبةَ التّردُّد وعزمَ عزمةً ثمَّ اعتكف.</p>



<p>وبعد الدخول في الاعتكاف والاغتراف من موائد الإيمان، يرتاح القلب يوماً بعد يومٍ صحبةَ المؤمنين، تكتنفُه عنايةُ الله تعالى ويوفقه سبحانه لقضاء كل وقته في الطاعات صياماً وقياما وذكراً ومذاكرةً، فيشعر المؤمن حينها بروحه قد نشِطت واستقرت كما تجد السمكة ذاتها وسعادتها وسط الماء. فتنقمعَ النفسُ الأمّارة بالسّوء وتجدَ الروحُ مجالاً فسيحاً لتَسبح في رحمات الله وتُسبّح بحمد الله.</p>



<h1 class="wp-block-heading">ـ أهميةُ الاعتكافِ في سلوكِ الفردِ والجماعة:</h1>



<p>في الاعتكاف يعيش المؤمنون حالة الاستغراق الدائم في الذكر، ذكرِ القلبِ المقرونِ باللسان والجوارح، يترقى فيها المومن من ذكر اللسان إلى ذكر القلب واللسان، ومن الذكر في أوقات معينة إلى الاستغراق فيه كل الوقت.</p>



<p>في الاعتكاف يجعل المؤمنون القرآن جليس خلواتهم وأنيس وحدتهم وبابهم إلى الكريم المنان. يجتهدون في خدمته حفظا وتعلما، مدارسة ومذاكرة، سماعا و تدبرا. ومن فوائد الاعتكاف تطهير النفس وتزكيتها والتمرن على فضائل الأعمال، فإذا خرج الإنسان من الاعتكاف وجد نفسه قد تدرب على القيام والصيام والنوافل وقراءة القرآن، ويكفي المعتكف فخرا وشرفا أن يوافق ليلة القدر و أن يكون جليسا لله وملائكته. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: &#8220;والاعتكاف فرصة ومناسبة لكي نتعمق في أنفسنا، لكي ننظر في قلوبنا أي شيء فيها، فقلما تتاح للناس فرص، خاصة في هذا الزمان الشاغل المشغول، لكي يجلسوا إلى أنفسهم فيفتشوا باطنها وداخلها فيسائلوها: إلى أين أنت ذاهبة ومن أين جئت؟&#8221;<a href="#_ftn6" id="_ftnref6">[6]</a>.</p>



<p>ويبين الإمام ياسين رحمه الله&nbsp; أهمية الاعتكاف وجدواه والقصد منه، فيقول: &#8220;لكي يكون اعتكافنا هذا له ما بعده ينبغي أن يكون خطوة نحو الاكتمال؛ الاكتمال الأخلاقي والاكتمال النفسي والاكتمال الروحي والاكتمال الإحساني درجة بعد درجة، يكون مطلوبنا الله عز وجل &#8220;<a href="#_ftn7" id="_ftnref7">[7]</a>.</p>



<h1 class="wp-block-heading">ـ نعمُ الله وعطاياه في الاعتكاف:</h1>



<p>يفرحُ الله تعالى بمن تاب إليه، وأوى إلى حضرته، وحلّ ضيفاً عليه في بيته، وتركَ هموم الدنيا وراءه، يرجو رحمتَه ويخافُ عذابَه، فيمُنّ عليه بنعمه.</p>



<p>من نعم الله تعالى أن وفّقك للجلوس بين يديه، تشكو إليه عِللك، تتضرع إليه ليأخذ بتلابيب قلبك إلى شاطئ التوبة والإنابة،</p>



<p>ومن نعم الله تعالى أن جعلك تشعر بالفقر إليه، وجعلك تتلو آياته بتدبُّر جديدٍ، وتقف عند أمره ونهيه بنَفَسِ التائب المتمرِّغ ببابه،</p>



<p>ومنها أن وفقك لقراءة القرآن، رسالةِ الله إليك وإلى العالمين، وختمِه وإعادةِ النظر في أوامره ونواهيه في أجواء ربانية والروح شفّافةٌ والدمع في العين سائحٌ. ومن فضل الله وكرمِه عليك أن حرّك لسانك لذكره وأشعر قلبك بقربه. وهذه كلها نعمٌ تستوجب شكر الله تعالى ﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ (سورة إبراهيم 36)</p>



<h1 class="wp-block-heading">ـ هل الاعتكاف دروشةٌ وهروبٌ من الواقع؟</h1>



<p>لا، بل هو استراحةُ محاربٍ يغيّر اللهُ به ما بنفسِ المؤمنِ ليتمكّن من تغيير ما بالقوم. فالصحابة الكرام الذين تربوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتفوا بحلاوة الإيمان وبلذة مناجاة الله تعالى في جوف الليل فقط، ولم يَخلُدوا إلى الاستكانة والدروشة، بل شمّروا ساعد الجدّ وجالوا في البلدان والأمصار لينشروا دين الله تعالى وليلبُّوا داعيَ الله بالجهاد. وكانوا رضي الله عنهم نموذجاً في الأخلاق العالية والشجاعة والثبات على الحق. جعلنا الله تعالى على طريقتهم وعلى نهجهم. قال الإمام المجدد في المنهاج النبوي ص: 73 &#8220;رجال ذاكرون رجال مجاهدون، قوم غافلون قوم قاعدون&#8221;<a href="#_ftn8" id="_ftnref8">[8]</a>. وحُقّ لمن عرف طريق الخير والهداية أن يأخذ بيد غيره من الحيارى والشاردين، ولا يكتفي بخويصة نفسه.</p>



<h1 class="wp-block-heading">ـ ما بعد الاعتكاف:</h1>



<p>حين تتخفف الروح مما يُثقلها ويشدُّها إلى الأرض، بنورانية الذكر وصحبة الذاكرين، تنفتح لها نوافذ الرحمة ونفحاتُ الهداية الربانية، فيندم الإنسانُ على تقصيره في سابق الأيام والشهور والسنين، فيعزم، وهو لا يزال محاطاً بأجواء الخير والبركات، ألاّ يعود لزمن الغفلات والتقصير في حق الله وفي حق دعوة الله، فيخطّ لنفسه برنامجاً يساعده على اقتحام العقبة ذكراً ومواظبة على الطاعاتِ، وتواصلاً ودعوة للناس بالحكمة والرحمة.</p>



<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity"/>



<p><a href="#_ftnref1" id="_ftn1">[1]</a> &nbsp;ـ ابن قتيبة، غريب الحديث، تحقيق عبد الله الجبوري، مطبعة العاني، بغداد، الطبعة الأولى، 1397ه، 1/217</p>



<p><a href="#_ftnref2" id="_ftn2">[2]</a> &nbsp;ـ الإمام أحمد، المسند، مسند المكثرين من الصحابة، رقم: 8435</p>



<p><a href="#_ftnref3" id="_ftn3">[3]</a> &nbsp;ـ الإمام أحمد، المسند، مسند الأنصار، رقم: 21277</p>



<p><a href="#_ftnref4" id="_ftn4">[4]</a> &nbsp;ـ الإمام البخاري، الجامع الصحيح،&nbsp; أبواب الاعتكاف، باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد، رقم: 2035- الإمام مسلم، الجامع الصحيح، كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة وكانت زوجته أو محرما له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به، رقم: 2175.</p>



<p><a href="#_ftnref5" id="_ftn5">[5]</a> &nbsp;ـ ابن قدامة، المغني، تحقيق الدكتور عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، الرياض &#8211; المملكة العربية السعودية، الطبعة الثالثة 1997م، 4/480</p>



<p><a href="#_ftnref6" id="_ftn6">[6]</a> &nbsp;ـ&nbsp; ينظر: الاعتكاف منطلق مسيرة جديدة https://www.youtube.com/watch?v=F-SXK4P-eLA</p>



<p><a href="#_ftnref7" id="_ftn7">[7]</a> &nbsp;ـ ينظر: الاعتكاف منطلق مسيرة جديدة https://www.youtube.com/watch?v=F-SXK4P-eLA</p>



<p><a href="#_ftnref8" id="_ftn8">[8]</a> &nbsp;ـ عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع، إستانبول، الطبعة الخامسة 2022م، ص: 73</p>



<p></p>


التزكية والدعوة

الاعتكاف مفتاح مسيرة جديدة

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الاعتكاف مفتاح مسيرة جديدة

معاني البذل ومقاصده

مقالات ذات صلة