مقدمة
أقبل علينا رمضان؛ شهرٌ مبارك يتلقاه المؤمنون بلهفة وشوق، وبكثير من التعظيم والتوقير، شهر البركة والفتح والنصر المبين، أولّه رحمةٌ وأوسطه مغفرةٌ وآخره عتقٌ من النار.
قد يشكّل هذا الشهر العظيم بتوفيق الله نقطة تحول إيجابيةٍ في سلوكنا إلى الله تعالى إذا اتخذناه فرصةَ العمر السّنوية للتقرب إلى الله تعالى، ومناسبةً نستغلها لتجديدِ التوبةِ إلى الله، وعقدِ نية الصلحِ مع الله بالإكثار من العمل الصالحِ الخالص في بحرِ النهارِ صوماً وذكراً لله وتلاوةً للقرآن، وزُلَفاً من الليل قياما بين يديه تبتلاً وتضرعاً ودعاءً.
كتب الله تعالى صيامه على كل المؤمنين وجعله لهم مفتاحَ رجاء لنيل تقوى الله، حين قال تعالى ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة:183)
في مقاصد الشهر المبارك
ألمع الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى إلى جملة من المقاصد النفيسة المتعلقة برمضان المبارك، مقاصد عظيمة يتوخّى تحقيقها كلُّ من يرجو اللهَ واليوم الآخرَ وذكرَ الله كثيراً، ويطمحُ في تزكية نفسه وسمو روحه، قال رحمه الله: “شهر رمضان شهر البركات والخيرات والتوبة وتجديد الصلح مع الله وطلب غفرانه وإحسانه وعِتْق رِقابنا من النار. شهرٌ يفطِم الجسمَ عن طبعه من شهوة الطعام، وحاجة الشراب، ولذة الجسد، لتعرف المسلمة الجوع والعطش ولتتعلم ضبط نفسها وإلجامَ هواها. ولتتحكم في أوصافها الحيوانية لتسمُوَ الروح وتتطهر، ولتتدرب المؤمنة على تغليب الأوصاف الملائكية مستقلة عن جاذبية الطين”[1].
رمضان وقراءة القرآن
يقترن في رمضان خيران عظيمان لا يفترقان: الصيام والقرآن، كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نموذجاً يُقتدى وسراجاً يُهتدى، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المرسلة”[2].
قال الحافظ ابن رجب رحمه االله تعالى دلّ الحديث على “استحباب دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك وعرض القرآن على من هو أحفظ له، وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان”[3].
تعامل سلفنا الصالح مع القرآن في رمضان
كان أهل العلم ممن قبلنا يغتنمون فرصة شهر رمضان لتلاوة القرآن الكريم، كانت سيدتنا عائشة رضي االله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت. وكانَ الزُّهْرِيُّ إذا دَخَلَ رمضانُ قالَ: إنَّما هوَ تلاوةُ القرآنِ وإطعامُ الطَّعامِ. وقالَ ابنُ عَبْدِ الحَكَمِ: كانَ مالِكٌ إذا دَخَلَ رمضانُ؛ نَفَرَ مِن قراءةِ الحديثِ ومجالسةِ أهلِ العلمِ، وأقْبَلَ على تلاوةِ القرآنِ مِن المصحفِ. وقال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على تلاوة القرآن[4].
فليجتهد كل منا في قراءة ختمات من القرآن الكريم، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يختم القرآن في أقل من ثلاث»، قال ابن رجب في اللطائف: وأنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث، على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات الفضيلة كشهر رمضان خصوصا الليالي التي تطلب فيها ليلة القدر وفي الأماكن الفاضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناما للزمان والمكان، وهو قول أحمد، وإسحاق وغيرهما[5].
ولقد كان الإمام ياسين رحمه الله يوصي بالاعتصام بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويحث على التشبث بكلام الله حفظا وفهما وتدبرا وتخلقا، قال رحمه الله: “القرآنَ! القرآنَ! القرآنَ! ما أروع أن يَشُدَّ المؤمن والمؤمنة معاقد العزم ليحفظ القرآن ويجمعه ويحافظ عليه. ما أحسن أن يبسُط المرء ساعد الجِد والإرادة إلى كسل نفسه وغفلة حسه يخاطبها ويؤنبها ويدفع بها: «هذه السَّنَةُ سَنَةُ القرآن».! فعل ذلك فلان من الجماعة وفلان، أفراد ونحن نريد من أولي العزم في الحفظ والفهم والعلم والعمل جماعات. وليصبرْ على الهوان والضَّعَة والضياع من لا يحرك همتَهُ قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتّل كما كنت ترتّل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها””[6].
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لحفظ كتابه العظيم والعمل به وتلاوته أناء الليل وأطراف النهار في هذا الشهر الفضيل وفي سائر أيامنا، آمين، والحمد لله رب العاملين.
[1] ـ عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الرابعة، 2018م، 1/295
[2] ـ صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ الناس بالخير من الريح المرسلة، رقم: 2308
[3] ـ ابن رجب الحنبلي، لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، دار ابن حزم للطباعة والنشر، الطبعة: الأولى، 2004 م، ص:169
[4] ـ ينظر عبد الرزاق البدر، فقه الأدعية والأذكار، الطبعة الثانية، 2003م، 1/72
[5] ـ ابن رجب الحنبلي، لطائف المعارف، ص: 171
[6] ـ عبد السلام ياسين، الرسالة العلمية، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع، إستانبول، الطبعة الثانية، 2022م، ص:13
أضف تعليقك (0 )