post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

يقول الله عز وجل: ﴿يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمُ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ. ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾] الصف: 10-13[.



ينادي الله تعالى عباده المؤمنين ليَدُلّهم على تجارةٍ رابحةٍ مُربحةٍ، تجارةٍ مع الله هي خيرٌ من تجارة الدنيا وحدَها. فيها دلالَةٌ على مفاتيحَ الخيرِ كلّه، ينجينا الله تعالى بها من النار، ويدخلُنا بها جناته، ويهبُ لنا بها رضاه. تجارةٌ مع الله ركيزَتَيْها الإيمانُ بالله ورسوله والجهادُ في سبيله بالمالِ والأنفسِ. ننشر بها دعوة الله ونُعلي بها كلمته. وثمارُها اليانعة الفوزُ العظيمُ ونصرٌ من اللهِ وفتحٌ قريب. الفوز العظيم: بما هو مغفرةٌ لذنوبنا. ثم نسكنُ مساكنَ طيبةٍ في جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. وأخرى نحبها: نصرٌ من الله وفتحٌ قريب.



ألَسْنا نحبُّ مغفرةَ الله لذنوبنا والسكنَ بالجنان؟ بلى، ولكنَّنا نُحبُّ أكثر رؤيةَ نتائجَ أعمالنا رأي العين هنا في الدنيا، وهو سبحانه وتعالى خالقُنا ويعلمُ أصلَ معدننا وسرَّنا وعلانيتَنا ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ [الروم: 3].



معاني البذلِ: البذلُ هو إعطاءُ الشيء وإِنفاقُه مع احتقارِه واستصغارِهِ تقرُّبا إلى الله عز وجل. (وبذَلَ الشيءَ) جادَ به عن طيبِ نفسٍ. وهي عكس التضحية التي تخفي تحت ظلالها تباهيَ الفردِ وافتخارِه بما قدّم وأعطى. &#8220;نعرفُ صدقَ السالكِ من بذله للدنيا، أيْ من إعطائه ما في يده من جاهٍ ومالٍ ابتذالاً للدنيا واستهانةً بها في جَنبِ الآخرةِ ثم في جنبِ الله&#8221;<a id="_ednref1" href="#_edn1">[1]</a>. والبذل كلمة جامعةٌ لكل معاني العطاء والإنفاق والإيثار، بدءًا ببذل النفس والمال والعلم والجهد والوقت، ومانعةٌ لكل معاني الشح والبخل والمن والقعود والدعة والتواكل.



مقاصدُ البذلِ: البذلُ خَصلة من خصال المنهاج النبوي العشرة، وهي الخَصلة الرابعة بعد شروط التربية، فهي عُربون الصدقِ ودليلُ التّوجُّه إلى الله سبحانه وتعالى، لذلك جاءت تابعةً لخَصلة الصدق في ترتيب الخصال العشر. ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [الحديد: 10].



البذل نقيض البخل: و&#8221;ليس الكرَمُ الأصيلُ، كرمُ ذوي المروءات، كالتَّكرُّم (تكرَّمَ البخيلُ أيْ تكلّف الكَرَمَ) وليس البذلُ المنبعثُ عنِ الإيمانِ والإحسانِ كعطاء الشِّحيح النفسِ الحديثِ النعمةِ&#8221;<a id="_ednref2" href="#_edn2">[2]</a>. البذلُ خُلُقُ المحسنين الذين يحبهم الله تعالى، والبخلُ سبيلُ الهلاكِ: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 194].



المال عصب الدعوة: يقول الإمام المجدد رحمه الله: &#8220;المال والجهد عصب الدعوة، وبذلهما التزاماً بعهد، وتطوعاً بالخيرات، هو المصدرُ الأول والوسيلةُ الأولى لتربية العصبةِ الخيرة. والمالُ والجهدُ مستقبلُ الدولةِ أيضا&#8221;<a id="_ednref3" href="#_edn3">[3]</a>. فالجماعة لا تتلقى أي دعم من الدولة كجميع الأحزاب والجمعيات والهيئات، ولا تتلقى دعماً خارجيا عملاً بإحدى اللاءات الثلاث (لا للتعامل مع الخارج) فيبقى أهم مصدر مالي للجماعة هو مساهمة وتطوع أعضائها.



فالمومن إما أن يبذُلَ النفسَ في ساحة الجهاد دفعةً واحدةً لنيل الشهادة: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) <a href="http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura3-aya170.html">فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ</a>﴾ [آل عمران: 169-170] أو يبذُلَ النفسَ في رباط المجاهدة والتزكية، في الدعوة، وفي الجهاد لبناء&nbsp;الأمة، فينالَ المؤمن بذلك درجة الصديقية .



البذلُ برهانٌ: البذل برهان على صِدقِ&nbsp;الإيمان:&nbsp;قال الله تعالى في سورة&nbsp;آل عمران:&nbsp;﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ&#8230; الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ فصدقُ&nbsp;الإيمان&nbsp;برهانُه&nbsp;الإنفاقُ مما رزقنا الله عز&nbsp;وجل ومما نحب.



وصدق&nbsp;الاقتحام؛ فالاقتحام مرتبط بتجاوز عقبة الشح عبر إطعام الطعام&nbsp;لليتيم والمسكين. ﴿ <a href="http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura90-aya14.html" target="_blank" rel="noreferrer noopener">أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ</a>&nbsp;،&nbsp;<a href="http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura90-aya15.html" target="_blank" rel="noreferrer noopener">يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ</a>&nbsp;،أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾



وصدق المحبة؛&nbsp;قال الله تعالى في&nbsp;سورة الحشر:&nbsp;﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. اتصف الأنصار بخصلتين مدح الله في الآية اتصافهم بهما هما: المحبة والإيثار لإخوانهم المهاجرين، وعلى خطاهم ينبغي أن يسلك التابعون لهم بإحسان، فلا بذل ولا إيثار يرجى من المؤمن إذا افتقد المحبة، فهي المحفِّزُ على البذل والمخلِّصُ من الشُّح.



&nbsp;يقول الإمام رحمه الله: &#8220;فكانت المحبةُ حافزا&nbsp;للبذل &#8230;ولابد&nbsp;للإسلام&nbsp;المنبعثِ&nbsp;أن&nbsp;تكون له حرارةُ حياةٍ جديدةٍ وباعثُ محبةٍ جديدةٍ يفصل بين&nbsp;الإنسان&nbsp;والمال ليَبْتَذِل&nbsp;(يحتَقِر)&nbsp;ويَبْذُل). فـ&#8221;كانت المحبة حافزا للبذل وكانت صدورهم سليمة لا حسد فيها فلا مجال للتكاثر… ولا بد للإسلام المنبعث أن تكون له حرارة حياة جديدة وباعث محبة جديدة يفصل بين الإنسان والمال، ليُبتذل المال ويُبذل. وقد يلزم أن يتضافر وازعا السلطان والقرآن في تهييء وسط يبتذل فيه المال ويعظم فيه الإنسان&#8221;<a id="_ednref4" href="#_edn4">[4]</a>.



<h1 class="wp-block-heading">أنواع البذل</h1>



دائرةُ البذلِ تتسعُ لتشملَ كلَّ ما يبذله المؤمن من نفسٍ ومال ومن جهدٍ ووقتٍ وعلمٍ ووسائلَ تُساعد على نشر دعوة الله تعالى ورفع كلمته. ﴿إن اللَّهَ اشترى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾&nbsp;[التوبة: 111].



• بذل الوقت: ﴿فإذا&nbsp;فرغتَ فانصبْ﴾ [الشرح:7-8] إذا&nbsp;فرغت من دنياك فانصب وتفرغ لآخرتك استفرغ لها وقتا من&nbsp;وقتك، واغتنم فراغك قبل شغلك،&nbsp;أبذل وقتك في تعليم الناس الخير في هداية رجل على يديك، في رباط&nbsp;في سبيل الله، في حراسة جند الله، تبذل وقتك في المواساة والزيارات، في التواصل والدعوة بحسن الكلام والوجه الباش وحسن&nbsp;الإصغاء.



•&nbsp;بذل العلم: قال&nbsp;رسول&nbsp;الله&nbsp;صلى الله عليه وسلم: &#8220;خيركم من تعلم القرآن وعلمه&#8221;&nbsp;رواه الإمام البخاري رحمه الله عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.&nbsp;وقال أيضا&nbsp;صلى الله عليه وسلم:&nbsp;&#8220;إِن اللَّه وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ&#8221; رواه الترمذي رحمه الله.



فإذا&nbsp;كان بذل العلم فضيلة ينال بها العبد المؤمن الخيرية والصلوات فان البخلَ به ومنعَه مستحقّيه إثمٌ يعاقِب الله عليه صاحبَه: &#8221; منْ علّمَه اللهُ علماً فكتمَه ألجَمه اللهُ بلجامٍ من النارِ يوم القيامَةِ&#8221;&nbsp;والأمرُ&nbsp;النبويُّ في تبليغِ العلمِ وبذلِه واضحٌ (بلغوا عني ولو آية&#8221; صحيح البخاري.&nbsp;



•&nbsp;بذل الجهد أو&nbsp;الخدمة: فعندما نزل الوحي على النبي &#8211; صلى الله عليه وسلم &#8211; وجاء إلى زوجته خديجة &#8211; رضي الله عنها &#8211; وحكى لها ما حدث، قالت له: &#8220;كلا، والله لا يُخزيك الله أبدًا؛ إنك لتَصِل الرحم، وتحملُ الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق&#8221;&nbsp;أخرجه&nbsp;البخاري ومسلم رحمهما الله. يقول الإمام&nbsp;عبد السلام ياسين رحمه&nbsp;الله&nbsp;&#8220;وهكذا جندُ الله في كل&nbsp;عصرٍ يسارعون لخدمةِ&nbsp;الإسلامِ&nbsp;وخدمةِ مَن يخدمُ&nbsp;الإسلامَ. وقديماً قد أتى اللهُ&nbsp;النبوّةَ يوشعَ بعد&nbsp;أن&nbsp;شرّفهُ بخدمةِ رسولهِ موسى عليه السلام &#8220;<a id="_ednref5" href="#_edn5">[5]</a>. &nbsp;



• بذل الخُلق: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: &#8220;إِنَّكُمْ لا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ&#8221;.&nbsp;أخرجه البزار في&nbsp;مسنده.&nbsp; وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:&nbsp;&#8220;تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرُك بالمعروف ونهيُك عن المنكر صدقة، وإرشادُك الرَّجلَ في أرض الضَّلالِ لك صدقة، وبصرُك للرَّجل الرَّديء البصرِ لك صدقة، وإماطتُك الحجرَ والشَّوكةَ والعظمَ عن الطريق لك صدقة، وإفراغُك من دلوك في دلوِ أخيك لك صدقة&#8221;. أخرجه الترمذي رحمه الله، الرقم: 1956.



<h1 class="wp-block-heading">نموذج الصحابة الكرام</h1>



وحياة الصحابة رضي الله عنهم مرآة تعكس البيان القرآني والبلاغ النبوي في استعمال المال وبذْلِه الاستعمالَ الجامع. عن زيد بن أسلم عن أبيه، قال:&nbsp;&#8220;سمعت عمر بن الخطاب يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك عندي مالا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، قال:&nbsp;فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:&nbsp;ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال: يا أبا&nbsp;بكر ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه&nbsp;إلى&nbsp;شيء أبداً&#8221;.



<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity"/>



<a id="_edn1" href="#_ednref1">[1]</a> . ياسين، عبد السلام (2018) الإحسان، ج1، (ط. 2). بيروت: دار لبنان للطباعة والنشر. ص. 365.



<a id="_edn2" href="#_ednref2">[2]</a> . المصدر نفسه، ص: 386.



<a id="_edn3" href="#_ednref3">[3]</a> . ياسين، عبد السلام (2022) المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا (ط. 5). إستانبول: دار إقدام للطباعة والنشر. ص. 220.



<a id="_edn4" href="#_ednref4">[4]</a> . ياسين، عبد السلام (2023) الإسلام غداً (ط. 2). إستانبول: دار إقدام للطباعة والنشر. ص. 156.



<a id="_edn5" href="#_ednref5">[5]</a> . المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص. 217.

التزكية والدعوة

معاني البذل ومقاصده

أضف تعليقك (1 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الاعتكاف مفتاح مسيرة جديدة

معاني البذل ومقاصده

مقالات ذات صلة