المسؤولية التربوية في نظام الأسرة
مقدمة:
لنظام الأسرة في الإسلام خصوصيته تبعا لوظائفه ومسؤولياته التي حددها التشريع الإسلامي في القرآن الكريم والسنة النبوية، وهذا ما اجتهد في إبرازه كثير من العلماء والمفكرين قديما وحديثا، حسب تحديات الواقع الاجتماعي ومتطلبات مستقبل الأمة، من هؤلاء المجتهدين لزمانهم ومستقبل أمتهم الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، فما هو مفهوم الأسرة؟ وما هي معالمها التربوية؟ وما أهميتها ووظيفتها المركزية في المجتمع؟ وكيف ينظر إلى مسؤولية الأسرة التربوية حاضرا ومستقبلا من خلال واقع المجتمع الإسلامي؟
الأسرة وتربية الأجيال:
كلمةُ “أسرة” مشتقة في أصلها من الأَسْرِ، والأَسْر لغة يعني القَيْد والربط، إلا أنه قيد اختياري يسعى إليه الإنسان، لأنه يجد فيه الدرع الحصينة، ويتحقق له من خلاله الصالح المشترك الذي لا يتحقق للإنسان بمفرده. فالأسرة نظام اجتماعي أساسي ودائم، وهي المحضن التربوي لحفظ الفطرة، وأساس وجود المجتمع، وهي مصدر الأخلاق، والدعامة الأولى لضبط السلوك، والإطار الذي يتلقى فيه الإنسان أول دروس الحياة الاجتماعية.
أما عن أهمية الأسرة في النظام الإسلامي الاجتماعي العام، فيكفي ما وضعه الشرع الإسلامي من أحكام وقواعد تنظم علاقاتها وتحصنها مما يهددها ويزعزع تماسكها وقوتها، لذا نجد تشريعات كثيرة جاءت في القرآن والسنة تهتم بموضوع الأسرة، ومنها الحث على الزواج، والتأكيد على أخذ رأي المخطوبة قبيل زواجها، وتنظيم أحكام الطلاق والرجعة والإرث والرضاعة والنفقة إلى غير ذلك من أحكام جمعت تحت ما يسمى بأحكام الأحوال الشخصية، كل هذا لأن الإسلام يعتبر الأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع فبدون استقامتها يقع الخلل في النظام العام.
إن محور اهتمام العمل الإسلامي الجماعي يجب أن يكون هو الأسرة فتعطى لها الأولوية ضمن البرامج الحكومية والخيرية والدعوية، وإلا أخطأت الهدف والغاية، لأن “الأسرة لبنة الأساس في الأمة”، [ref]. عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1996م، 1/231.[/ref] والطفل والمرأة مركز العناية الاجتماعية، وما دامت حماية الطفولة في الإسلام ملازمة لحماية المرأة الأم وهي راعية الأسرة، فإنه “يجب أن تكون وضعية المرأة والأسرة أولوية الأولويات”. [ref]. عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، دار الآفاق، الدار البيضاء، ط1، 1998، ص 206.[/ref] و“تكون الأم نموذجا صالحا للطفل، ويكون الطفل غرسة مباركة، ليكون مسجدا أُسس عل التقوى من أول يوم”.[ref]. عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، دار الآفاق، لبنان، ط3، 2001 م. ص: 70.[/ref]
الوظيفة الأولى للأسرة:
التربية السليمة للأطفال هي الوظيفة الأولى للأسرة، وظيفة الأب والأم، تربية على القيم والأخلاق الإسلامية الرصينة، قيم الصدق والوفاء وحب الآخرين والتوكل على الله والاعتماد على النفس، والشجاعة والجد والاجتهاد … تربية متوازنة ومستقبلية تنظر بعينين عين تنظر إلى صناعة أجيال المستقبل، وعين تنظر إلى التيار الذي يستهدف هذه التربية، فتصبح تربية الأولاد مسؤولية ومغالبة للفساد، “غالبوهم على تربية الأجيال الجديدة، وغالبوا التيار بعزم العزائم، وثقة الموعود بنصر الله”.[ref]. عبد السلام ياسين، الرسالة العلمية، مطبوعات الهلال، وجدة، ط1، 2001م ص: 82.[/ref]
ولا تقوم الأسرة بهذه المهمة العظيمة إلا إن وفرت جو الأمن والطمأنينة داخل محيطها وبين مكوناتها وأفرادها، خصوصا بين الزوجين، وبين الأطفال فيما بينهم، وبين الأبوين، جواً يقوم على الصراحة والصدق والرحمة والمحاورة والتعاون، جواً عنوانه ودعائمه الصحبة في الأسرة، فالهدف الأول من التربية هو تخريج جيل مؤمن له تربية قرآنية، يحمل في خطابه وسلوكه وعمله أخلاق القرآن، ورسالة القرآن إلى العالم. تبدأ هذه التربية بالتغذية الإيمانية للأطفال إبان المهد والصغر وإلا فات موسم الحرث والغرس التربوي، وحصد الأبوان ما لم يخطر لهما على البال إما تقاعسا أو إهمالا، “فإذا لم تُرضع الأم طفلها الإيمان مع الألبان، ولم يَقُدْ الأب خطى أبنائه الأولى إلى المسجد، ولم تُلَقِّن الأسرة كلمة التوحيد للصبي أوّلَ ما يلْهَجُ بالنطق، ولم تتعهده بالوصية الإيمانية، فقد فاته إبَّان الحرث.” [ref]. عبد السلام ياسين، العدل، مرجع سابق، ص: 454. [/ref]ومسؤولية كهذه تدخل في الأمر العام، التعاون على البر والتقوى في شؤون الحياة الدنيا والآخرة. إن صلاح المجتمع لا يتحقق إلا بصلاح أجيال المستقبل، وبتربية سليمة تخرج أفواج الصلاح والإصلاح، “وذلك المجتمع لا يرتجل، ولا تمطره السماء بمجرد إعلان الحكم الإسلامي. إنما يُبنَى لَبِنَةً لَبِنَةً، ويتألف عضوا عُضوا، وينشَأ جيلا أفضل من جيل”.[ref]. عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، مرجع سابق، ص: 2/62.[/ref]
مسؤولية الأبوين:
يعتبر الإسلام الأولاد نعمة عظيمة يجب شكر الله تعالى عليها، كما اعتبرهم القرآن الكريم قرة عين للأبوين إن سلكوا طريق الصلاح والاستقامة، فقال تعالى: “والذين يقولون ربنا هَب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما” (الفرقان: 74)، ونموذج هذه الذرية لا تتحقق بالدعاء فقط، وإنما لابد أن يواكب الدعاء التربية والسهر والعمل على تخريج هذا النموذج.
التربية الحسنة مسؤولية، وهي التربية على مجموع المبادئ والقيم الشاملة للإسلام والتي يتم إكسابها للمربي عن طريق الاحتكاك والتوجيه وهي أنواع عديدة، تربية إيمانية، وتربية خلقية، وتربية عقلية، وتربية جسمية، وتربية نفسية، وتربية اجتماعية، [ref]. عبد الله علوان، تربية الأولاد في الإسلام، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1976م. فقد فصل الكاتب رحمه الله تعالى في هذه الأنواع وأعطاها ما تستحقها فأفاد وأجاد. [/ref]وقد ركز الإمام ياسين على التربية الإيمانية أولا وأعطى لها الأولوية على غيرها، لأنها هي الحصن الحصين لحفظ الفطرة التي فطر الله الناس عليها، “فإذا تأيدت الفطرة بالتربية الإيمانية الإحسانية تصون النشء من كل شيطنة حتى تصبح النبوة سراجا منيرا في القلوب ويصبح الوحي هو الكلمة وهو الحق، فلا ضير أن نتعامل مع الآفاق الفكرية العلمية ننشد الحكمة ضالتنا الأبدية على أساس متين من الثقة بالله ورسوله ودينه والمعاد إليه.” [ref]. عبد السلام ياسين، سنة الله، مرجع سابق، ص: 287.[/ref] ولا يعني هذا إغفال الأنواع الأخرى، إنما المطلوب التوازن التربوي، فهي تربية متوازنة حتى تخرج نشئاً متكاملا، لأن هدفها “تربية نشء جديد لا يَفْصِل بين التربية الإيمانية القلبية وبين الدراية الفكرية، ولا بين المسجد وساحة القتال، ولا بين العبادة والسياسة، ولا بين التبتل وترويض الأجسام.”[ref]. عبد السلام ياسين، رجال القومة والإصلاح، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 2001م، ص: 115. [/ref]
ولا تتم هذه التربية إلا بالنموذج الصالح للأب والأم في البيت وخارجه، فإن كان النموذجان صالحين كانت الذرية صالحة بإذن ربها، وصلاح نموذج الأبوين ينفع الأولاد حتى عند غيابهما، وهذا ما أشار إليه تعالى في قصة موسى عليه السلام مع الخضر “وكان أبوهما صالحا” (الكهف: 82) وذكر ابن كثير أن الآية دليل على أن الرجل الصالح يـُحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، وإن تتبعنا تاريخ المسلمين نجد هذا الأثر البالغ لغياب النموذج الصالح، “وإن للفجوة الواسعة العميقة التي تركها فناء الصحابة في حروب الفتنة أبلغ الأثر في نقص تربية الأجيال اللاحقة.”[ref]. عبد السلام ياسين، سنة الله، مرجع سابق، ص: 40.[/ref]
التربية رحمة بالمربى، وقد فطر الله تعالى الإنسان على الرحمة بالأولاد، والرأفة بهم والعطف عليهم، وما دام الأبوان يتصرفان تلقائيا مع أولادهم وجب الحفاظ على هذه الفطرة النبيلة، والرحمة بالأولاد “وبثِّ كلمة الحق في الطفل في الوقت المناسب، بالبساطة المناسبة، من القلب للقلب.” [ref]. عبد السلام ياسين العدل، مرجع سابق، ص: 305.[/ref] وقد أعطى صلى الله عليه وسلم القدوة في ذلك، ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال “قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالس فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ثم قال: من لا يَرحم لا يُرحم.” . [ref]محمد بن عيسى الترمذي، سنن الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر- مصطفى البابي، كتاب البر والصلة، باب في رحمة الولد، القاهرة، 1938م. 4/321، حديث: 1911.[/ref] ولا فرق في هذا بين الأولاد ذكورا وإناثا، قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك “من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن، وسقاهن وكساهن من جدته (أي ماله) كن له حجابا من النار.”[ref]. محمد بن اسماعيل البخاري، صحيح البخاري، تحقيق أبو صهيب الكرمي، كتاب الأدب، باب الوالد والإحسان إلى البنات، بيت الأفكار الدولية للنشر، الرياض، 1998م. حديث: 3669.[/ref]
التربية حضور فعلي في الأسرة، ففي غالب الأحيان يغيب الأثر التربوي للأب ولو كان حاضرا، فللأب مسؤولية جسيمة عن السير بالأسرة نحو الأمان والبعد عن الأخطار وما أكثرها في واقعنا المتردي اجتماعيا وأخلاقيا، يتجلى هذا الدور في احتضان الأبناء ومصاحبتهم وتوجيههم ومراقبتهم دون غلظة ولا عنف، أما في حالة غياب هذا الدور الأساسي للأب فإنها “تتشكل غيتوهات حول الأسرة الغائب أبوها.” [ref]. عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، مرجع سابق، ص: 221. [/ref]كما أن التربية اعتناء الأب بأهل بيته، بالنفقة وتحمل المعاش نفقة متوازنة تراعي الواقع الاجتماعي والمالي للأسرة، وتدبير شؤونها وتلبية حاجاتها التعليمية والاجتماعية، والأم مدرسة إن غابت غاب دورها التربوي والتعليمي، لذا كان لها الدور الأساسي في الأسرة واحتضانها، أما إن كانت الأمهات مشغولات عن الاهتمام بالبيت والأسرة “فلا يبقى لهن ما يكفي من الوقت لتحمل مسؤولياتهن في البيت، وليعتنينَ بشؤونه الداخلية، ولينشئن أطفالهن، وليُشِعْنَ جوا طيبا في الأسرة.” [ref]. عبد السلام ياسين، العدل، مرجع سابق، ص: 318.[/ref] فإن حصل ذلك فسلام على الأسرة، لأن “مكان المرأة المؤمنة، أما وبنتا وأختا، هو مكان الصدارة، صلاحها في نفسها وتأثيرها في الوسط الاجتماعي ابتداء من بيتها هو صلاح الأمة، المرأة الصالحة هي عماد الأمة، ليس في هذا أية مبالغة، لأنها حافظة الغيب، حافظة الفطرة والأسرة التي يتآمر عليها إبليس وحزبه جميعا، فهي وحدها كفاء لهم، وهي متعهدة الأنفس”.[ref]. عبد السلام ياسين، سنة الله، مرجع سابق، ص: 275.[/ref]
تفكك الأسرة:
فإذا بحثنا عن أسباب واقع تفكك الأسرة وتردي حال المرأة والأولاد في واقعنا المعاصر، نجدها أسبابا موضوعية وأخرى ذاتية، فالأولى هي أسباب دعت إليها التحولات العالمية التي استهدفت الأسرة ونظامها التقليدي المحافظ ببرامجها المتنوعة التي تنقلها وسائل التواصل في كل مكان وفي كل حين، حيث “وَلَغَتْ البرامج التلفزيونية في حَرَم الأسرة فزادتها تفكيكا، وشَكَّتْ خرطوم مُنَوَّعاتها المبتذلة النجِسة في أحشائها، وسَرقَت الأطفال من أمهاتهم وآبائهم، وقتلت الوقت فلم يبق لواجب الاتصال الحميم بين الآباء والأبنـاء فرصة ليتصل حبل الفطرة.” [ref]. عبد السلام ياسين، العدل، مرجع سابق، ص: 534.[/ref] أما الأسباب الثانية الذاتية فمع توالي الأيام قدمت الأسرة استقالتها من وظيفتها التربوية، وكأن وظيفة الأسرة تنحسر فقط في الإنجاب والإطعام واللباس، ولهذه الاستقالة عدة مظاهر في واقعنا البئيس نذكر منها:
أ. التخلي عن مهمة التربية: فقد تخلت معظم الأسر عن مهمتها الأساسية في تربية الأجيال تربية سليمة صالحة، تربية تقوم بغرس الإيمان وقيم القرآن ونموذج المصطفى صلى الله عليه وسلم، في قلوب وسلوك النشء، فدواعي تفكك الأسرة الإعلام الخليع من جهة، ومن جهة أخرى “تخلى الأمهـات والآباء عن واجب التربية الفطريَّة، وجهلهُن وجهلهُم بأصل الدين، لم تَرْضَعْ الأجيال من الأجيال دَرّ الفطرة ولَبَن هداية الوحي وسداد العقل الخاشع لله.”[ref]. المرجع نفسه والصفحة.[/ref]
ب. ضعف المراقبة: أصبح أغلب الآباء والأمهات في شغل لا ينقطع، الكل يسعى إلى تلبية الحاجيات المادية واستكمال ما بقي من الكماليات منها، وهذا على حساب فلذات أكبادهم، من يربي؟ من يراقب؟ أين البنت؟ أين الابن؟ والنتيجة هي “هيمان هذه الأعداد الغثائية من الأطفال والشباب بلا مرب ولا مراقب.”[ref]. عبد السلام ياسين، سنة الله، مرجع سابق، ص: 275.[/ref]
ج. غياب سلطة الأبوين: لا شك أن “غياب سلطة الأبوين، وهما يهودان أو ينصران، أو يشركان أو يمجسان، كل ذلك يتحـامل على إفساد محضن الخير، سرقت من الأبوين ذرياتهم الشوارع، وسرقهم التلفزيون، واغتالهم كل شيطان مريد.”[ref]. المرجع نفسه، ص: 274.[/ref]
د. الحسرة بعد فوات الأوان: كثير من الأسر لا تستفيق من حالها إلا بعد فوات الأوان، وخروج الأولاد عن سكة الاستقامة إلى الانحلال، فتحصد ما لم تغرسه أيديها، بل ما غرسته التربية المضادة ورفقة الأشرار في الشوارع، وما أنتجه فساد الحكم، فترجع إلى نفسها باللوم، لتفريطها، “فإذا لم تُرضع الأم طفلها الإيمان مع الألبان، ولم يَقُدْ الأب خطى أبنائه الأولى إلى المسجد، ولم تُلَقِّن الأسرة كلمة التوحيد للصبي أوّلَ ما يلْهَجُ بالنطق.. فقد فاته إبَّان الحرث.” [ref]. عبد السلام ياسين، العدل، مرجع سابق، ص: 534. [/ref]إن التربية حرث للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وأوان هذا النوع من الحرث الذي لا يصلح في كل موسم هو موسم الرضاع والاحتضان في الصغر، فأما إن لم تحصل الأجيال على حقها من الحرث والغرس للفطرة والاهتداء بالوحي وصقل العقل ليكون خاشعا لله، فإن حسرة الأبوين عند ذلك لن تجدي نفعا، لأن الفرصة ضاعت وموسم الجد والعمل انتهى بكبر الأبناء والبنات.
وأخيرا إنه لا سبيل إلى علاج وضعنا الاجتماعي وإصلاح أعطابه إلا بالرجوع بالأسرة إلى وظيفتها ومسؤوليتها التربوية الشاملة.
أضف تعليقك (1 )