عبد الصمد فتحي | أتمدحه أم تذمه؟..
بمناسبة الذكرى السابعة للوفاء للإمام عبد السلام ياسين رحمة الله تعالى عليه،
أستحضر قولة له: “أتمدحه أم تذمه؟”.
في إحدى زياراتي للإمام رحمه الله تعالى ورفع مقامه، صادفت عنده أخا من إحدى المدن الصغرى، سأله عن أحوال أخ من مدينته فأجابه مكبرا فعله وحركته ودعوته واجتهاده في المنطقة، ثم ختم كلامه قائلا لقد أحيى العمل في المنطقة، لكن للأسف عندما غادر المدينة توقف العمل الدعوي بها. فعقب عليه الإمام بسؤال استنكاري، “أتمدحه أم تذمه؟”.
أخونا الحبيب كان يسرد مناقب الرجل ويبرز أهميته ودوره. ومن مدحه له أن جعله هو صاحب الشعلة التي أضاءت المكان، والذي أظلم بعد رحيله.
لكن الإمام رحمه الله تعالى اعتبر ذلك مذمة وليس محمدة…
كثيرا ما أستحضر هذه الواقعة وأنا أقرأ أو أسمع للبعض وهو يكبر الإمام ويعظم فضله، ثم يردف قائلا فيما معناه: رفع الإمام فرفع معه كل شيء أو جله، أو ذهب الإمام فذهب معه كل شيء أو جله.
فيعظم الإمام ويزدري ما دونه ممن رباهم، ويعظم الإمام ويستصغر ما بناه وما أثله.
ولهؤلاء أقول أتمدحه أم تذمه؟ أقولها لمن يعبر عن ذلك بنية حسنة، أما سيئو النية ممن يكيدون للجماعة ويمكرون بها، ويزايدون على الإمام مكرا لا حبا، فلا حديث معهم، إنما حديثي، هو لي أولا، وللمحبين المكلومين ممن لهم علينا حق، فإن الله يسأل عن صحبة ساعة.
إنه بالفعل ذم وليس مدحا، وكأن الرجل ربى فلم تثمر تربيته، وأسس وبنى جماعة فانهار بنيانها، ونظر للتغيير فأمست نظرياته أحلاما وأوهاما.
ووالله إن الأمر عكس ذلك، ربى وبنى وغير، رغم الحصار ومكر الليل والنهار.
تربية الرجال:
كان هم الإمام رحمه الله أن يربي الرجال والنساء، الذين يضطلعون بمهمة تربية الجماعة والأمة لأن المشروع برمته مرهون بالتربية، والتربية تربية بشر لبشر.
عندما عرض الإمام رحمه الله على مجلس الشورى مشروع توسعة مجلس الإرشاد من 7 أعضاء إلى 15 عضوا، كان الهدف كما بين رحمه الله، هو توسيع قاعدة المرشدين الموجهين المربين، ليخفف هؤلاء مستقبلا من أعباء التدبير التنظيمي وليتفرغوا للإرشاد والتوجيه والتربية، نظرة مستقبلية وخطوة إستراتيجية.
صادق مجلس الشورى على القرار وانتخب أعضاء مجلس الإرشاد وزكاهم الإمام، فكانوا يصنعون على عينه، فكان رحمه الله يكبرهم ويقدمهم ويثني عليهم، ويوصي بمحبتهم وصحبتهم إلى أن توفاه الله وهو راض عنهم فرح بهم، وهم البشر غير المعصومين.
هذه النواة المربية التي تشربت عن قرب من معين الصحبة، لم تحجب المقبلين الصادقين أن يرتووا من نفس المعين، والأنوار لا تتزاحم كما يقول القوم. كما أن معينه رحمه الله كان شاملا لكل من يرشح نفسه للتعرض لرحمة الله وفضله، فاستقى منه رجال ونساء، فكانوا من الذاكرين والذاكرات والمجاهدين والمجاهدات أولياء الله.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يذكر أصحابه بسوء، وكذلك الأولياء المصحوبون يكرهون ذكر أصحابهم وأبنائهم الروحيين بسوء، كيف لا والله جعل حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قال (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)، نحسن الظن ولا نزكي على الله أحدا.
نعم المربي هو، رحل وقد خلف أولياء لله رجالا ونساء تزخر بهم الجماعة، لا تحجب قبتهم البشرية أنوارهم، إذا رؤوا ذكر الله وينهض بك حالهم ويدل على الله مقالهم، هم يعسوب المجالس، منهم الظاهر الذي لم تزده الأضواء إلا تواضعا ومنهم التقي الخفي لو أقسم على الله لأبره.
بناء الجماعة:
كرس الإمام رحمه الله، بعد جهاد العلم والتنظير، جهوده لبناء الجماعة، بناها لبنة لبنة، بخبرة القائد المحنك وتدبير المدير الملهم، اهتم فيها بصغار الأمور قبل كبارها، من خلال العمل المؤسساتي والتفويض وترسيخ النواظم الثلاث من محبة ونصيحة وشورى وطاعة.
كان الإمام حريصا على أن يسبق العلم العمل، والمنهاج التنظيم حتى يعرف كل فرد في الصف ما له وما عليه. وحتى يكون الارتباط بالمشروع لا بالأشخاص، فإذا ما رحل الأشخاص لم ترحل معهم أعمالهم، بل إذا رحلوا جاء من يكمل ما بدؤوه ويسير في الطريق الذي رسموه، ويرسم الطريق كما علموه.
شيد رحمه الله بناء قويا اعترف به الخصم قبل الصديق، وعده المتابعون القوة السياسية الأولى في البلد.
بناء هبت عليه عواصف داخلية وخارجية فبقي صامدا ومتماسكا، بفضل الله سبحانه وتعالى وبفضل ما حصنه به الإمام من وضوح المنهاج، وتكريس للنواظم الثلاث.
فكانت محنة الحصار واعتقال أعضاء مجلس الإرشاد منحة تقوت وتوسعت فيها الجماعة، عكْس ما أراد أعداؤها. وبينت أن الجماعة ليست قطيعا يساق، بل عمل منظم تقوده مؤسسات شورية.
رغم التفويض المطلق، الذي كان الإمام فيه نموذجا فريدا، لشؤون تدبير الجماعة وتسييرها، كان متابعا جيدا لمشاريعها وخطواتها، يوجه بلطف ويبدي رأيه بدون أن يلغي المؤسسات، رجل يستشرف المستقبل ومآلات الأمور.
عندما أعددنا النسخة الأولى للبناء الجديد (القانون التنظيمي)، والتي استغرقت سنوات من التشاور والتداول بين جميع مؤسسات الجماعة، زرناه رحمه الله، في اللجنة المكلفة، لنستمع إلى ملاحظاته حول المشروع، فقال رحمه الله بعد التنويه بالجهود: “هذا المشروع يحتاج منكم عشرين سنة حتى يهضم”. منبها أن التغيير يحتاج إلى وقت وصبر وطول نفس. استغربت حينها، ظنا مني أن الأمر قد يستغرق سنتين أو ثلاث سنوات على الأكثر بين التنزيل والتأهيل بدورات تدريبية ولقاءات تحسيسية حتى يستوعب البناء شكلا وروحا. لكنه الخبير بعلوم الإدارة وطبيعة النفوس والإستراتيجي الذي يستشرف المستقبل. وبالفعل فإن تغيير عادات وطباع تمرست على نمط معين سنين عدة لا يمكن تعديلها في سنة أو ثلاث سنوات، خاصة بالنسبة لبناء لم يغير فقط القوانين وإنما غير فلسفة التدبير والتسيير التنظيمي، وكذلك بالنسبة لجماعة ليست بالصغيرة بل كبيرة، وكثيرة العدد والأجهزة، ومتعددة التخصصات وواجهات العمل. وها نحن قد أشرفنا على عقد من السنين وما زلنا نتلمس الخطى لهضمه وامتثاله شكلا وروحا، وإن كانت وتيرة سيرنا مسرعة والحمد لله بفضل الجهود المبذولة العاملة على بلورة المفاهيم الجديدة للبناء الجديد، البرنامج المندمج، الذات الواحدة، اللامركزية، الأجهزة التنفيذية والتخصصية، التخصص والتكامل…
هكذا كان رحمه الله يوجه ويشير ولا يفرض. كنت في العمل الطلابي، وكان يسعدنا أن نرسل أوراق المؤتمر إليه، ثم نزوره من أجل التوجيه، فكان نادرا ما يعقب على الأوراق بما فيها ورقة ميثاق طلبة العدل والإحسان، التي تناولت التصور والرؤيا، وعرضت خصائص التفكير المنهاجي، كنا متوجسين مما سطرناه، لكن كعادته كان يشجع وينوه ويحرر المبادرات ويفتح المجال للاجتهاد.
هذا أكسب الطلبة ثقة فانكبوا على المنهاج يسبرون أغواره ويكتشفون عوالمه.
ومن حنكة الإمام واستشرافه للمستقبل، ومن مسؤولية مجلس الإرشاد أن جعلوا مشروع البناء الجديد الذي أعاد النظر في قوانين جميع المؤسسات، بما فيها قانون مجلس الإرشاد ومجلس الشورى وانتخاب الأمين العام، يتم صياغته وتنزيل معظمه في حياة الإمام وبمشورته ومباركته، بعد مصادقة مجلس الشورى عليه.
كان ذلك درسا بليغا في التخطيط للمستقبل والتهييء للحظات الحاسمة، كما كان درسا في قدرة الجماعة على التطور والتجديد، بتطور الواقع وتجدُّده مع المحافظة على الثوابت والمبادئ والأسس التي نشأت عليها الجماعة، لأن التطور والتجديد سمة التفكير المنهاجي من داخل المؤسسات وفي إطار شوري.
نعم لقد أسس الإمام وشيد صرح هذه الجماعة، فنعم الباني ونعم البناء، ورحل رحمه الله وهو مطمئن على الجماعة التي ستحمل مشروعه من بعده.
أليس الصبح بقريب؟
“أليس الصبح بقريب؟” كلمة قالها رحمه الله في الثمانينات وجعلها شعارا لجريدة” الصبح” لسان الجماعة آنذاك، وفي بداية السبعينات رفع الإمام رحمه الله شعار “الإسلام غدا”، يبشر بوعد رسول الله ووعد القرآن ووعد الآخرة. فنظر رحمه الله لذلك الغد المرتقب، فصاغ المنهاج النبوي وجاهد لتحقيق الوعد، وتنزل قدر الله على يديه، وتحمل رحمه الله ضريبة الجهاد وقول كلمة الحق، فسجن وحوصر ووضع تحت الإقامة الإجبارية التي دامت عشر سنوات.
آمن بوعد الله ورسوله إيمانا يقينيا، وعمل على ذلك وكله يقين بالنصر والتمكين، وهو فرد والحركة الإسلامية مستضعفة، فما شك ولا ارتاب، فكيف نشك اليوم والجماعة بالآلاف، والإسلام اليوم يقود الساحات وتفرزه صناديق الديمقراطية كلما كانت نزيهة، وأُحسِنت إدارتها.
راهن رحمه الله على الشعوب، ولم يراهن على الحكام ومؤسساتهم الصورية، وإن أخلص لهم النصح. وها نحن اليوم نرى فعل الشعوب في الميادين، ونرى موجات الربيع العربي تتوالى لتحرير الأوطان، والعالم الإسلامي يتعافى، والدراسات المستقبلية تقول بأن القرن 21 قرن الإسلام. وهذا ما يفسر الحرب المعلنة على الإسلام والمسلمين في كل مكان، لكن “يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”.
إن على محبي الإمام أن يستمدوا يقينهم بالنصر من يقينه بوعد الله، وبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكونوا في طليعة العاملين للمشروع.
في مجلس من مجالس الإمام رحمه الله قال لنا “إن النصر مضمون قد تكفل الله به، لكن الذي هو غير مضمون والذي ينبغي أن يعمل عليه كل واحد منكم، هو هل سأكون ممن سيتنزل قدر الله على أيديهم؟”.
كيف يمكن لهذا المشروع أن يتحقق إذا كانت الجماعة قد تودع منها، وإذا كانت التربية لم تؤت أكلها، والدعوة ما ربت ولا أثمرت.
نحن في حاجة إلى الخطاب الإيجابي الذي يواجه حملات التشكيك والتيئيس، نعم نحن في حاجة إلى النصيحة، ونقد الذات، لكن لسنا في حاجة إلى جلد الذات، وسهام العدو ترمي الدعوة ورجالها من كل قوس.
ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (إذا قال الرَّجلُ: هلك النَّاسُ، فهو أهلكُهم)، وقد ورد لفظ (أهلكهم) بالرّفع والنّصب.
رحل الإمام بعد أن أدى ما عليه فترك الجماعة على خطى العدل والإحسان. فرجالها ونساؤها رهبان بالليل فرسان بالنهار، والساحات تشهد على فعلهم وحضورهم، كما يشهد على ذلك الخصم والصديق. ومجالسها ومحاريبها تشهد لهم، فهي تغشاها الرحمة وتتنزل عليها السكينة ويذكرها الله في الملإ الأعلى. كيف لا وهي مجالس الذاكرين والمخبتين إلى الله والتالين كتابه، الواقفين على بابه، القائمين بأمره والمستغفرين الله على ضعفهم وتقصيرهم. ما حجبت الأنوار أبدا عن مجالسنا برحيل الإمام، ولا رفعت عنها السكينة والرحمة، بل ما زالت تتنزل وتغشاها فضلا من الله ومنة، يتنعم بها المؤمنون الذين يصبرون أنفسهم مع المحسنين عملا بقول الله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) فالمفتاح هو الصبر مع.
لا نقول هذه المعاني تسويقا للوهم أو تجميلا كاذبا للصورة، بل نقولها صدقا وحقيقة، تذوقها وتنعم بها كل من غشيها، ويريد أن يصيح في الناس هلموا إلى مبتغاكم.
في لقاء مع الإمام، صحبة إخوة من الدائرة السياسية، قال “أنتم أكثر حاجةً لحضور مجالس النصيحة ومجالس الإيمان بسبب مخالطتكم للآخر وتدافعكم معه، ينبغي أن تسابقوا إخوانكم وتزاحموهم على أبواب المساجد”. “إن القوة تستمد من الكينونة مع هذه الجماعة، ويوم يقول الطلبة مثلا: نحن أقوياء بذاتنا ويستغنون عن الجماعة ماذا نفعل؟ إن قوة هذ الذراع (مشيرا إلى قوة ذراعه) من قوة الجسم، فيكفي أن نقول للقلب أن يوقف عنه ضخ الدم، فماذا يحصل للذراع بعد وقف الدم عنه؟” إنه التعليم والتربية بالمثال، فالجماعة مثل جسم الإنسان، تسري فيها مادة الإيمان، يتغذى بها من اتصل بشرايينها، من كان له عنوان فيها، من صبر مع. إنه يعلمنا أن نقول نحن ولا نقول أنا، وأن ننسب الفضل لأهله.
اللهم أدم علينا نعمة الصحبة والجماعة، اللهمّ أحسِنْ عَاقِبتنَا فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، وَأجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ.
أضف تعليقك (0 )