مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

في ظلال المهاجرين والأنصار

في ظلال المهاجرين والأنصار

في ظلال المهاجرين والأنصار

المهاجرون والأنصار فئتان من المؤمنين أبلوا البلاء الحسن في نصرة الإسلام إبان غربته الأولى التي كانت ساعة عسرة وشدة، وينبغي لكل أجيال الإسلام أن تقف وقفة المتعلم لتستخرج الدروس والعبر من حياة هذه الجماعة الأولى المؤلفة من الأنصار والمهاجرين رجالا ونساء رضي الله عنهم أجمعين.

فالمهاجرون أولئك الضعفاء الفقراء صبروا على المحنة والأذى، وثبتوا حتى بلّغ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم دعوته في محافل قريش ومنتدياتها، وتقاسموا معه عليه صلاة الله وسلامه كل منشط ومكره، فكانت مساندتهم لدين الإسلام تاريخية.

 وقد تحدث عنهم القرآن الكريم خاصة في سورة الحشر، ذاكرا صفاتهم ومادحا مزاياهم. ويكفيهم فخرا أن الله عز وجل شهد لهم بالصدق، وهي منزلة عظيمة تثبت مدى حبهم لله ورسوله وعظم شوقهم للقاء الله تعالى في الدار الاخرة . قال عز من قائل: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا منَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾. [الحشر: 8].

والهجرة شعبة من شعب الإيمان ومرتبة رفيعة؛ لأن أصحابها أخرجوا من ديارهم وأموالهم بعدما أوذوا في سبيل الله عز وجل، فصبروا واحتسبوا لأنهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا. وبالفعل فقد أعطوا رضي الله عنهم برهان الصدق بتركهم الأموال والديار ومتاع الدنيا كله من أجل دعم رسول الله صلى الله عليه وسلم في نبوته ونشر رسالته، فطوبى لهم وحسن مآب.

وأما الأنصار وهم أهل يثرب التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل عليها المدينة المنورة، وقد احتضن الأنصار إخوانهم الفقراء المهاجرين الذين أكرهوا على الخروج من مكة، و ضربوا في ذلك أروع الأمثلة في التضحية والبذل و الإيثار. قال الله عز و جل متحدثا عنهم:  ﴿وَالَّذِينَ تبوؤوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. [الحشر: 9].

أحب الأنصار إخوانهم المهاجرين فاحتضنوهم وآووهم ووفروا لهم الأمان، حتى يواصلوا مسيرة الجهاد في سبيل الله تعالى. والنصرة شعبة أخرى من شعب الإيمان تنضاف إلى شعبة الهجرة وتمضي إلى الأمام بالسالك إلى الله عز وجل. فنحن هنا أمام شعبتين عظيمتين ميزتا الجماعة الأولى المكونة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.

هذه الجماعة ضربت للبشرية جمعاء أروع الأمثلة في القيم الإنسانية النبيلة التي تفتقد إليها مجتمعاتنا المعاصرة.

   ولقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، لعلمه أن لذلك أثرا عظيما في مستقبل الإسلام، الذي كانت تتربص به قوى الباطل وأزلامه من كل حدب وصوب وتتربص بالمؤمنين الدوائر. ونذكر هنا نموذجا من مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجري عبد الرحمن بن عوف والأنصاري سعد بن الربيع رضي الله عنهما، أحد نقباء بيعة العقبة.

يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ” لَمَّا قَدِمْنا المَدِينَةَ آخَى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَيْنِي وبيْنَ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ، فقالَ سَعْدُ بنُ الرَّبِيعِ: إنِّي أكْثَرُ الأنْصارِ مالًا، فأَقْسِمُ لكَ نِصْفَ مالِي، وانْظُرْ أيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لكَ عَنْها، فإذا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَها. قالَ: فقالَ له عبدُ الرَّحْمَنِ: لا حاجَةَ لي في ذلكَ، هلْ مِن سُوقٍ فيه تِجارَةٌ؟ قالَ: سُوقُ قَيْنُقاعٍ. قالَ: فَغَدا إلَيْهِ عبدُ الرَّحْمَنِ، فأتَى بأَقِطٍ وسَمْنٍ، قالَ: ثُمَّ تابَعَ الغُدُوَّ، فَما لَبِثَ أنْ جاءَ عبدُ الرَّحْمَنِ عليه أثَرُ صُفْرَةٍ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: تَزَوَّجْتَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: ومَنْ؟ قالَ: امْرَأَةً مِنَ الأنْصارِ، قالَ: كَمْ سُقْتَ؟ قالَ: زِنَةَ نَواةٍ مِن ذَهَبٍ -أوْ نَواةً مِن ذَهَبٍ-، فقالَ له النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوْلِمْ ولو بِشاةٍ”. [1]

كانت المؤاخاة أساس مجتمع العمران الأخوي الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهي أن يتعاقد الرجلان على التناصر والتعاضد حتى يصيرا كالأخوين نسباً. وهذا هو الجيل الذي تشرب لبان التربية النبوية التي تجعل الإنسان يفكر في سعادة أخيه، وبهذا يتشكل لدينا مجتمع المواطنة القلبية الإيمانية.

يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله: “إذا ظفرنا بالمنهاج النبوي لهذه المواطنة القلبية فقد ظفرنا بمفتاح أقفال الطبيعة البشرية، وظفرنا بالعلاج الناجع لداء الأمم، وكدنا نبرَأُ من داء الأمم. وأي شتيت من البشر كان أبعد أن يتألف ويتآخى ويكون خير أمة أخرجت للناس من قبائل العرب بمكة والمدينة وجزيرة العرب على عهد البعثة؟ كما بوأهم الله عز وجل الدار والإيمان باستجابتهم لداعيه محمد صلى الله عليه وسلم كذلك يبوئنا نحن الآخِرينَ. إن شاء وهو الملك الوهاب”.[2]

مجتمع العمران الأخوي متماسك بلحمة المحبة تسوده التعاون والتعاضد. هذا المجتمع لم تستطع بناءه نظريات التربية الحديثة التي نشأت في زمن التنمية البشرية والذكاء الاصطناعي حيث نلاحظ من حولنا مجتمعات مفككة وعلاقات إنسانية سطحية مصلحية هشة مبنية على مصالح دنيوية مادية زائلة، هنالك تبرز كل صور التردي القيمي في حياة الأفراد والجماعات.

مجتمعاتنا المعاصرة بحاجة اليوم وغدا إلى العودة إلى حضن التربية، وهي -لعمري- عملية ليست بالسهلة؛ إذ تتطلب جهدا وصبرا وأناة تستمر لأجيال حتى يتخلص الناس من سلوكات وذهنيات ورثوها عن ظلمات الجاهلية وجراثيم الاستعمار وطبائع الاستبداد.

وإذا أردنا بناء مجتمع متماسك كمجتمع الأنصار والمهاجرين فعلينا إعداد أجيال مؤمنة قادرة على مجاهدة النفس الخبيثة المجبولة على الشح والبخل، المتطلعة إلى مجتمع يسوده البذل والعطاء والإيثار.

 

[1] . صحيح البخاري، الرقم: 2048
[2] . ياسين، عبد السلام، العدل الإسلاميون والحكم، دار لبنان للطباعة والنشر. الطبعة الثالثة، السنة 2018م، ص:197.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد