post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

الإيمان شعورٌ عظيم وجميل، يستقرّ في قلب المؤمن، فيملؤه طمأنينةً وسكينة، ويدفعه إلى العمل الصالح، ويشحذ همّته للسير بثبات في طريق الدعوة والجهاد.



هذا الإيمان لا يولد دفعة واحدة، بل يُربّى في أعماق النفس عبر صحبة المؤمنين الصادقين، ومجالسة أهل الذكر والعلم،&nbsp;وحضور مجالس الخير، والتفاعل الدائم مع قضايا الأمة والدعوة إلى الله عز وجل، والسعي لنصرة الحق بكل الوسائل المشروعة.



والإيمان إذا وقر في القلب وصدّقه العمل، أثمر سلوكًا مستقيمًا، وتضحيةً في سبيل الله، وثباتًا في وجه الفتن والمحن. ولقد ضرب لنا القرآن الكريم نماذج مضيئة لمؤمنين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فكانوا مثالًا في الصبر، واليقين، والإخلاص.



وسنُسلّط الضوء هنا على أثر الإيمان بالله عز وجل في حياة المؤمنين، من خلال عرض نماذج قرآنية تُجسّد هذا الأثر العظيم.



<h1 class="wp-block-heading">الإيمان بوعد الله واليقين في النصر</h1>



كانت غزوة الأحزاب&nbsp;في السنة الخامسة من الهجرة النبوية، اجتمعت قبائل العرب المتحالفة إلى جانب طوائف من اليهود، بقصد استئصال شأفة الإسلام والقضاء على الدعوة التي بدأت تترسّخ جذورها في المدينة المنورة. كان الموقف عصيبًا والتهديد شديدًا، حتى إذا رأى بعض المنافقين جيوش المشركين تتدفّق كالسيل العرم، قالوا ساخرين ومشكّكين:&nbsp;﴿مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾.<a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_edn1">[1]</a>



وفي الوقت الذي سكن الخوف في قلوب المنافقين وتزعزع إيمانهم، كان المؤمنون على النقيض من ذلك، إذ ازدادوا يقينًا بوعد الله عز وجل، وصدّقوا رسوله ﷺ، رغم ضخامة العدو وشدّة الخطر. قال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾.<a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_edn2">[2]</a>لقد ترسّخ الإيمان في قلوبهم حتى صار اليقين نورًا يهديهم، والثقة بوعد الله درعًا يحميهم من الضعف والتردد.



وهذا المشهد من الثبات واليقين تكرّر في موقف آخر من مواقف النبوة العظيمة، في قصة نبي الله موسى عليه السلام،&nbsp;حين تبعه فرعون وجنوده، فأحاطوا به وبقومه عند شاطئ البحر. هنالك علا صوت الخوف في صفوف بني إسرائيل قائلين: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾.&nbsp;لكنّ موسى، عليه السلام، الموقن بمعية الله ونصره، أجابهم بثبات المؤمن ويقين الواثق:&nbsp;﴿كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾.<a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_edn3">[3]</a>



كان هذا اليقين سببًا في نزول معجزة ربانية عظيمة، فصل القرآن الكريم في وصفها، إذ أمر الله البحر فانفلق إلى فرقين عظيمين، كلّ جانب منهما كالجبل الراسخ، ومضى موسى عليه السلام وقومه سالمين، وحاق بفرعون وجنده سوء العذاب. قال تعالى:&nbsp;﴿فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾.<a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_edn4">[4]</a>



إنها عبرة للمعتبرين وذكرى للذاكرين، بأنّ وعد الله حق، وأنّ النصر مع الصبر، وأنّ اليقين بالله هو زاد المؤمن في مواجهة الشدائد والابتلاءات.&nbsp;وحقيق بنا أن نلزم غرز أهل الصدق والجهاد، فلعمري &#8220;لن نكون أهلا أن تخفق على رؤوسنا رايات النصر في الدنيا ولافتات السعادة في درجات الآخرة إن لم نستعدها. كمالات العلم، وحيوية العمل، وصدق الإرادة، والصبر على الشدائد في نصر الله. كل هذه أخلاق عليها يعطينا الله النصر، وعلى الأخلاق الغثائية من وَهن وخوف لا يتنـزل علينا القدر إلا بما نكره&#8221;<a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_edn5">[5]</a>.



<h1 class="wp-block-heading">الإيمان والدعوة</h1>



المؤمن الصادق لا يكتفي بالإيمان القلبي، بل يُترجم إيمانه إلى عملٍ وسلوك، ومن أعظم تلك الأعمال&nbsp;الدعوة إلى الله&nbsp;عز وجل،&nbsp;فهي رسالة الأنبياء وورثة العلماء، ومهمة من آمن بالله حقًا وصدقاً. يدعو المؤمن إلى ربه في كل المحافل والمواقف، ويوصي الناس باتباع الصالحين من الدعاة المخلصين، اقتداءً بمن أثنى الله عليهم في كتابه الكريم، حيث قال تعالى:&nbsp;﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾<a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_edn6">[6]</a>&nbsp;فهذا الرجل المؤمن لم يتردد في نصح قومه، ولم يخف لوم اللائمين، بل دعا إلى الله بصدقٍ وحرص، فخلّد الله ذكره في القرآن المبين.



كما أن المؤمن، حين يتلو قول الله تعالى:&nbsp;﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾<a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_edn7">[7]</a>،&nbsp;يستشعر أنه معنيٌّ بهذه الرسالة العظيمة، وأن عليه أن يبلّغ دعوة ربه للناس، بما أوتي من علم ورحمة. ويدرك أن وسيلة الدعوة الفعّالة هي: الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، فهذه الأساليب تفتح القلوب المغلقة، وتقرّب النفوس المترددة، لأن الفطرة السليمة تألف الكلمة الطيبة، وتميل إلى المعاملة الحسنة، وتنفر من الغلظة والجفاء.



إن الدعوة إلى الله لا تتطلب دائمًا خطابًا رسميًا أو منبرًا، بل تبدأ من سلوك الفرد، من ابتسامته، وصدقه، ونصحه، وحرصه على الخير للناس جميعًا. فهي دعوة بالحال والمقال، بالقول والعمل، بالسلوك قبل اللسان.



<h1 class="wp-block-heading">تنفيذ أمر الله تعالى</h1>



من أبرز خصائص الإيمان الصادق أنه يدفع صاحبه إلى&nbsp;الامتثال لأمر الله تعالى،&nbsp;سواء أدرك الحكمة من الأمر أو لم يدركها، إذ يكفي المؤمن أن يعلم أن الله أمر، فيبادر إلى التنفيذ دون تردد. وشعاره الدائم هو ما عبّر عنه القرآن الكريم:&nbsp;﴿سَمِعْنَا&nbsp;وَأَطَعْنَا﴾. وقد أشار الشهيد سيد قطب رحمه الله في كتابه&nbsp;&#8220;معالم في الطريق&#8221;&nbsp;إلى هذا المعنى العظيم، حين قال إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقرؤون القرآن «بنية التنفيذ» والعمل، لا بمجرد التلاوة أو التبرك، فخرج من بين أيديهم جيلٌ فريد، غيّر مجرى التاريخ، وكان بحقٍّ &#8220;جيل القرآن&#8221;.



كان القرآن حاضرًا في حياة الجماعة الأولى، يعالج قضاياهم الواقعية ويوجههم ويقوم اعوجاجهم، ويربطهم بالله رب العالمين، فكانوا في حالة تفاعل حيٍّ دائم مع كلام الله، يستقبلونه بقلوب منفتحة، ويطبّقونه بجوارح خاشعة.



إن المسارعة في تنفيذ أوامر الله، والاجتناب التام لما نهى عنه، هو لُبّ الإيمان وكنهه وجوهره، لأن فيه تحقيقًا لغاية الخَلق: عبادة الله وابتغاء مرضاته. وكلما سارع العبد إلى طاعة ربه، ازداد قربًا منه، وذاق حلاوة الإيمان، كما قال النبي ﷺ:&nbsp;&#8220;لا يُؤمِنُ أحدُكُم حتَّى يكونَ هواهُ تَبَعًا لما جئتُ بهِ&#8221;<a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_edn8">[8]</a>.



فطريق الإيمان الحقّ ليس بالتمنّي، بل بالعمل والتسليم، ومن علامات صدق العبد أن يُبادر إلى أوامر ربه بمجرد أن يسمعها، دون تلكّؤ أو تبرير، قال الله تعالى:&nbsp;﴿إنما كان قولَ المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وأولئك هم المفلحون﴾.<a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_edn9">[9]</a>



<h1 class="wp-block-heading">الإيمان سلاحٌ يعين على الصبر والثبات</h1>



الإيمان بالله عز وجل ليس مجرد شعور قلبي، بل هو سلاح روحي عظيم، يعين صاحبه على تحمّل الشدائد، والثبات في وجه الفتن والمحن. فحين يملأ الإيمان قلب المؤمن، يهون عليه ما يلقى في سبيل الله، وتسمو نفسه فوق الأذى، ويحتسب كل ما يصيبه عند الله تعالى.



لقد ظلّ فرعون يستخفّ قومه ويستضعفهم زمنًا طويلًا، ويستخدم السحرة في خداع الناس وتثبيت سلطانه، ليرتفع في الأرض بغير الحق. غير أن هؤلاء السحرة، حين رأوا معجزة نبي الله موسى عليه السلام، المتمثلة في انقلاب العصا حيّةً تسعى، انقلبوا من أقصى درجات الكفر إلى أسمى مراتب الإيمان، وسجدوا لله رب العالمين. وعندما واجههم فرعون بالغضب والوعيد، وهدّدهم بتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، لم يتراجعوا، بل صبروا واحتسبوا، وقالوا بكل ثبات ويقين:&nbsp;﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾.<a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_edn10">[10]</a>



وقد تجلى هذا المعنى أيضًا في سيرة الصحابة الكرام رضي الله عنهم، خاصة في فجر الدعوة الإسلامية، حين كانوا قلّة مستضعفة، يجتمعون سرًّا في دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه، هربًا من بطش قريش. لقد صبر بلال رضي الله عنه على حرّ الرمضاء، وهو يُعذّب في مكة تحت الصخور، مردّدًا: &#8220;أحد، أحد!&nbsp;&#8220; وصبر صهيب وعمّار&nbsp;رضي الله عنهم، وذاقوا أشدّ أنواع الأذى، لكن الذي ثبّتهم وأمدّهم بالقوة هو إيمانهم العميق بالله، ويقينهم بوعده،&nbsp;وطمعهم في نيل مرضاته عز وجل.



من أجل ذلك، كان &#8220;الصبرُ على البلاء، وعلى البلاء مبنى الحياة والموت والمسيرة في الدنيا، والثبات في مواطن الخطر، وتحملُ الأذى في سبيل الله عنوان الرشد والعزيمة، وشرط الفلاح والنجاح والنصر. قال عز وجل يوصي رسوله وحبيبه ﷺ: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ﴾. لا تتغير سنة الله تعالى في كون رجال الدعوة وأمناء الرسالة يواجهون بالتكذيب والأذى، كما لا تتغير في كون النصر يَعْقُبُ ذلك بشرط الصبر&#8221;<a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_edn11">[11]</a>.



إنها سنّة الله في خلقه: أن يبتلي عباده المؤمنين، ليُظهر صدق إيمانهم، ويطهّر قلوبهم، ويرفع درجاتهم، ويجعلهم قدوة لمن بعدهم في الصبر والثبات والثقة بوعد الله عز وجل.



<h1 class="wp-block-heading">خاتمة</h1>



&nbsp;&nbsp;&nbsp;&nbsp;مهمتنا، نحن أبناء الدعوة الإسلامية، أن نغرس الإيمان الصادق في قلوب الشباب، ونربيهم على الثبات والصبر لحمل أعباء رسالة الإسلام التي بعث الله بها نبيّه ﷺ رحمةً للعالمين. فإذا ثبتنا على الحق، ورسّخنا الإيمان بالله في أقوالنا وأفعالنا تحقق لنا النصر وبلغنا الغاية. ونلنا رضى الله عز وجل وهو أعظم ما يُرجى وأسمى ما يُطلب.



<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity"/>



<a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_ednref1">[1]</a>. سورة الأحزاب، الآية 12 <a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_ednref2">[2]</a>.  سورة الأحزاب، الآية 21  <a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_ednref3">[3]</a>.  سورة الشعراء، الآية 62 <a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_ednref4">[4]</a>.  سورة الشعراء، الآية 63 <a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_ednref5">[5]</a>. عبد السلام ياسين، سنة الله، مطبعة الخليج العربي، تطوان، ط2، 2005، ص 76. <a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_ednref6">[6]</a>.  سورة يس، الآية 21 <a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_ednref7">[7]</a>.  سورة النحل، الآية 125 <a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_ednref8">[8]</a> . فيض القدير، ابن حجر العسقلاني، 5/ 295. <a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_ednref9">[9]</a>. سورة النور، الآية 51 <a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_ednref10">[10]</a>.  سورة طه، الآية 72   <a href="applewebdata://D117ACB4-8D7C-4A1A-A972-773D7DC6C7A5#_ednref11">[11]</a> . عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 2، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 2018، ص 252.

الإيمان بالله شعور وشعار وسلاح

محمد العلوي السليماني “من درب القباج إلى درب مولاي الشريف”

التزكية والدعوة

الإيمان بالله شعور وشعار وسلاح

أضف تعليقك (1 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الإيمان بالله شعور وشعار وسلاح

وقفة مع النصر في غزوة بدر

في ظلال المهاجرين والأنصار

فكر الإمام عبد السلام ياسين بين الأصالة والمستقبلية

مقالات ذات صلة