post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

الوصية عند عموم صالحي الأمة ضرب من الوعظ والتذكير بأوامر الله عز وجل والتحذير من نواهيه، وهي صلة بين الموصي والموصى له. فقد أوصى الله عز وجل رسله عليهم السلام، وأوصى عباده المؤمنين، ثم أوصى الرسل عليهم السلام أقوامهم من بعدهم، حفظ لنا كتاب الله وصاياهم لنأتمر بها بما نحن الأمةُ الوارثة، وأوصى نبينا صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام،  ثم سار على النهج صحبه والتابعون، والعلماء من بعدهم والصالحون.
وقد كان الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، لا يألو جهدا في النصح والوعظ، بل كان كل كلامه تذكيرا بالله وحظآ على طلب المعالي للفوز برضاه، عملا وتأسيا بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. 
وعظتك نثرا وعظتك شعرا             وعظتك بالصبح والغلس
دعوتك تصحب جمع الخيار             وتذكر ربك في أنس[1]
ولكن الوصية التي نحن بصدد الحديث عنها اليوم، شيء آخر، كتبت للدنيا من الآخرة. جمع في كلماتها رضي الله عنه، عصارة عمر مضى في الدلالة على الله دعوة وجهادا. وهي آخر ما كتب. خطها بيمينه وسجلها بصوته، نثرا ثم نظمها شعرا، لعل نظمها كما قال : يخاطب من جانب نفسي ما لا تنفذ إليه الكلمات المنثورة.
قال : وصية ليتذكر متذكر ويدعوَ داع فتلتئم أواصر الصلة ويتحقق التزاور في الله والتحاب في الله عبر الأزمان. لا تحبس الصلة برازخ الموت. [2]
وقد لخص مقاصدها في مقصدين اثنين ، أولهما الدعاء له والترحم عليه، ثم التذكير بالله وبوصاياه لأنبيائه وعباده، وبوصايا رسل الله عليهم السلام ثم قال : ألا وإن لي أشياء أوصي بها من يسمع ويعقل، صدىً وترجيعا يبلغه الله عز وجل آذانا واعية وقلوبا صاغية. إن شاء ربنا الولي الحميد[3]. وطلب، إلى من يسمع وصيته من بعده مقروءة أو يقرأها مسطورة، من أبناء العدل والإحسان خاصة، ترجيعها والصدع بها وإفشاءها بين الناس، تجديدا للدين وإحياء لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، صدى ترجعه إن شاء الله أجيال العدل والإحسان إلى يوم الدين[4].
صدَّرها رحمه الله بالحديث عن عقيدته، حديثَ مقبلٍ على لقاء الله، راج عفو ربه، متبرئ من حوله وقوته، فذكر ما ذكره جبريل عليه السلام في حديث الدين، من إيمان بالملائكة والرسل والكتب والقدر واليوم الآخر والساعة والحشر والميزان والجنة والنار، ثم الشفاعة ورحمة رب العالمين. 
وقد نظم الوصية نظما عجيبا ورتبها ترتيبا بديعا، بدأ فيها بالوصايا الإلهية وثنَّى بوصايا أنبياء الله إبراهيم ويعقوب ثم بما وصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته من بعده.
أوصى بطاعة الوالدين وإقامة الدين بما هو إسلام وإيمان وإحسان، وبالقضايا الأربع التي ذكرت في سورة الأنعام، أن لا نشرك بالله شيئا، وأن نحسن إلى الوالدين، وأن لا نقتل أولادنا من إملاق، وأن لا نقرب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن لا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. وذكَّر بأم الوصايا في سورة الأنعام،  اتباع الصراط المستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، والحذر من اتباع السبل التي تبعدنا عن الجادة وتفرقنا وتتفرق بنا عن سبيل الله.
وأوصى بما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم آخر عهده بالدنيا، الصلاة، عمودِ الدين وعمادِه، فسطاطِ الدين وأوتادِه، وأوصى بالنساء، أمرنا أن نستوصي بهن خيرا. لاسيما الأزواج والبنات.
والعجيب أنه لم يكتف بالتذكير بهذه الوصايا، بل فصل في روحها ومناطها، ووسع في فهمها وجدد، بما يناسب دنيا الناس، وبما يُفهم من لغة العصر وشأنه. فجعل من الشرك عبادة أصنام الحس والخيال، ومن قتل الأولاد تركَهم لعوامل التضليل، ومن الفحش الاستقالةَ بين يدي طاغوت  التهجين الثقافي، ومن قتل النفس إقناعَها بأنها مجرد حيوان متطور لا معنى لوجوده وحياته، كل ذلك مفهوما في إطلاقه في الخُلق الفردي والتدين الخاص، ثم في تقيُّده بضوابط العمل الجماعي السياسي[5].
وأجمل القول:  وأوصي من يسمع ويعقل بالإنصات والتحفز والتوفز لطاعة الأمر العليّ، كلما صدح داعي الله وصدع: يا أيها الذين آمنوا، طاعةَ فعل واصطبار، أو كف وازدجار[6].
ثم يرفع السقف عاليا بعد ذلك، ويخاطب ذوي الهمم العالية التي ليس لها دون وجه الله مرمى، كأنه يخاطب من طرف خفي أبناء العدل والإحسان :
أوصي كل ذي همة يقظة أن لا يكون له من دون وجه الله عز وجل مطلب يحجبه عن الله. طلبُ الثواب والأجر والجنة شرع من الشرع. وإرادة وجه الله، والسعي إلى مرضاة الله بما يرضي الله ويقربنا من الله مرمى الهمم العلية. بشرط العمل الدائب والنية المتجددة[7].
ثم صرح بعد أن كان لمَّح وقال :  أوصي بالصحبة والجماعة، بالصحبة في الجماعة. كررها ثلاثا لعلمه رضي الله عنه وتوجسه من خطر انفراط الأمر وتفرق السبل. بل إنه أوصى مع ذلك، بأن يدعو أصحابه من بعده الله عز وجل أن يمسك وحدة الصحبة والجماعة كما يمسك السماوات والأرض أن تزولا.
وهاتان الوصيتان خصهما في وصيته بأن كررهما ثلاثا دون باقي الوصايا، وإن لوقع صوته مسجلا في ذلك رهبة وهيبة. بل زاد ذلك تفصيلا في مقام يطلب الإجمال، أن الأمر من بعده تعاون على البر والتقوى بصحبة تؤلف القلوب نورا يفيضه الله على أُفراد أوليائه، لا يَضير إن كان حُبُّ زيد لعمرو أرجحَ من حبه لخالد[8]. فالصحبة جامعة ماسكة آسية.
وحذر من طغيان جذب السبح في الأنوار على الائتمار بالمعروف والشورى في الأمر الخاص والعام، التي قال إنها دين من الدين.
وختم وصيته مفصلة على الخصال العشر، ملخصة تلخيصا معجزا ممتنعا، مرصعة جامعة لعصارة عمر مضى، تتسابق فيها الكلمات والعبارات لتحظى بمكان في جمل يشح بها المقام لتبليغ آخر الكلام، ليكون مسك الختام.
لم يسجل الإمام بصوته إلا كتاب الله عز وجل، ووصيته، ومنظومته الوعظية، وفي ذلك من الإشارة والتذكير لكل ذي لب وتمييز. ومع ذلك فإن للوصية مسموعةً وقعا مختلفا، ذلك أن سماعها بصوته غضا طريا، بخاصة عشية يوم فراقه كان له من الرهبة والهيبة ما أخرس الألسن وأصاخ الأسماع، فذرفت العيون حزنا وانفطرت القلوب ألما. يذكر ذلك من حضر هاتيك الليلة المشهودة ليلة التأبين والوداع.
كان كلاما غير كل الكلام وصوتا من دون كل الأصوات، كان كلاما من الآخرة.
الوصية إذن تذكير بعد الموت، بأن الصلة لم ولن تنقطع، وأن صحبتنا له رضي الله عنه باقية لا يعدو عليها الزمان، منها نستمد الصبر على المشاق، والعزمَ على المضي في درب الجهاد والدعوة إلى الله، مشروطة بحفظ حبل الجماعة وودها، والتواصي بالحق والصبر، وتحكيم الشورى في الأمر الخاص والعام، سيرا على المنهاج ووفاء بالعهد. 
أختم  بدعاء له نظمه قطفا ختم به ديوانه القطوف، كأنها وصية أخرى إلى الله عز وجل وعهد إليه ودعاء، تقابل وصيته إلينا نحن. قال رضي الله عنه :
ويَـا وَارِثَ الأَحْــيَــاءِ بَعْدَ انْـتِقَــالِهِمْ                إِلَى بَرْزَخِ المِيعَـادِ فَالـعَــرْضِ والـنَّـشْــرِ
تَـوَلَّ صِـحَـابِي بَعْدَ مَوْتِـي وَصِلْ لَـهُمْ             عَـوَائِـدَ فضْـلٍ مِـنْكَ يـا مُـولِيَ الخَيْــرِ
وَرَشِّــدْ رِجَـالاً يَا رَشِــيـدُ وَرَقِّــهِمْ                  إلَى قِـمَّــةِ الإْحْــسَــانِ والعِـلْـمِ والـقَــدْرِ
لِــيَــبْــنُــوا صُــرُوحــاً لِلْخِـلاَفَـةِ بَــعْــدَنَـا         بِمِنْهَـاجِ خَــيْـرِ الخَلْقِ آخِــرَةَ الدَّهْــرِ
وَأَلْـهِـمْـهُمُ الصَّـبْـرَ الجَـمِـيـلَ وَكُنْ لَـهُمْ            مُعِـيناً قَوِيـّـاً يـا صَبُــورُ عَـلَـى الصَّــبْــرِ
لِكَيْلاَ يَحِيدُوا عَـنْ طِــلاَبِــكَ لَـحْـظَــةً              وَهُمْ فِي جِهَـادٍ في امتِـدادٍ وفي جَـزْرِ
فـصــلِّ إِلَــهِــي ثُـمَّ سَــلِّــمْ عَــلَــى الــذِي         خَـتَـمْـتَ بِــهِ وَحْـيَ الرٍّسَـالَـةِ والـذِّكْــرِ[9]
رحم الله الإمام المجدد ورضي عنه، ورفع قدره وخلد في الصالحين ذكره، وجعلنا على العهد حتـى نلقاه لا نبدل ولا نغير، هو ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على سيدنا محمد وآله، والحمد لله رب العالمين.
[1]  ديوان شذرات، الإمام عبد السلام ياسين ص 6. [2]  وصيتي، الإمام عبد السلام ياسين، ص 9. [3]  المصدر نفسه، ص 10. [4]  المصدر نفسه، ص 10. [5]  وصيتي، الإمام عبد السلام ياسين، ص 14. [6]  المصدر نفسه، ص 17. [7]  المصدر نفسه، ص 17. [8]  المصدر نفسه، ص 18. [9]  ديوان قطوف، الجزء العاشر، ص 90.

قراءة في وصية الإمام المجدد عبد السلام ياسين

قراءة في وصية الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله

الدكتور أحمد الإدريسي

التزكية والدعوة

قراءة في وصية الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الفرح برسول الله ﷺ

محبة النبي الكريم ﷺ

الهداية إيمان بالغيب ويقين بالآخرة

نظرات في رسالة تذكير للإمام عبد السلام ياسين

الجرح الفلسطيني

قصيدة الهمزية «أم القرى» للإمام البوصيري رحمه الله

مقالات ذات صلة