تحدثنا في المقال السابق عن أصناف العلماء وركزنا على الصنف الثالث من العلماء وهم متأخروا الحنابلة بدءا بابن تيمية مروراً بابن عبد الوهاب وصولا إلى علماء دول النفط العشائرية. كان لابن تيمية جولات وصولات ومعارك خاضها مع علماء عصره ومع عدد المبتدعين والفرق الضالة في باب علم الكلام، كما كانت له أراء فقهية خالفه فيها معاصروه . وفي هذا المقال سأحاول تسليط الضوء على علم الكلام في المنهاج النبوي وسأبين التجديد المقترح في هذا العلم، وسأرجئ نظرة عبد السلام ياسين للفقه ولبعض القضايا الفقهية التي تعكس نظرته المقاصدية وتعكس اجتهاده وتحرره من ربقة التعصب المذهبي الذي كبَّل عدداً كبيرا من العلماء إلى مقال لاحق بإذن الله تعالى. وسأتناول مقالي هذا في نقطتين: مخلفات علم الكلام، وتجديد علم الكلام في النظرية المنهاجية.
1- مخلفات علم الكلام .
بعد الانكسار التاريخي وقبله بقليل دخل أقوام كثر إلى الاسلام، وحملوا معهم رواسب دياناتهم، وفلسفاتهم، ودخل معهم أفواج من الزنادقة، والكائدون للإسلام . وفي القرن الرابع ظهرت البدع أيما ظهور، وعلا نجم الفلاسفة والملاحدة، فانبرى مجموعة من العلماء للدفاع عن العقيدة الاسلامية، ولدحض الشبهات، فسُمُّوا بالمتكلمين خاضوا معارك مع فرق كثيرة ضالة، فاعتدل البعض، وغلا البعض الاخر غلوا شديدا، وأسرفوا حتى كفّروا الزنادقة بحق، وكفروا معهم العامة من المسلمين . يقول الغزالي عن هؤلاء الغلاة: “ وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا، ولم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حررناها فهو كافر)“[1].والغريب كيف يحاول البعض إحياء هذه المعارك، وهذه الفرق، والتي كان من حقها أن تبقى في الرفوف لترتاح، وتريح الأمة، فقد كان لعلم الكلام أثار كثيرة سلبية . يقول ابن الوزير عن علم الكلام عموما: ” لقد كان أحد الأسباب لتمزق الأمة الواحدة وتناحرها وتكفير بعضها بعضا)“[2]. فكان من تداعيات هذا الإحياء أن الواحد منهم: ” لا يُسلم لك إسلامَك حتى تسرُدَ عليه حقيقة إسلامك من خلال الخلاف العقائدي الكدر، وحتى تتبرأ من الجَهم بن صفوانَ والمعتزلة والقدرية والجبرية، وحتى تحفظ توحيد الربوبية وفرق ما بينه وبين توحيد الإلهية. علمُ العقائد أصبح عقدة)“[3].
2- تجديد علم الكلام في النظرية المنهاجية .
ينظر عبد السلام ياسين إلى علم الكلام نظرة تجديدية، وتجديده يتمحور حول ثلاث نقط جوهرية:
أولا: كيف نأخذ علم الكلام: يَرجِع عبد السلام ياسين الى العصور الفاضلة: عصر النبوة والخلافة الراشدة، متجاوزا بذلك قرونا من الانحطاط، لينظر كيف ربى الرسول الكريم صحابته على لا إله الى الله، وكيف غرسها في قلوبهم، وعقولهم، لان علم الكلام أو ما اصطلح عليه: دراسة العقيدة لا تزيد في إيمان المرء، بل قد تكون سببا في بُعد الإيمان عنه كما يقول الغزالي: ” من ظن أن مَدْرَك الإيمان: الكلامُ والأدلةُ المحررة، والتقسيمات المرتبة فقد أبعد. لا! بل الإيمان نور يقذفه الله في قلب عبده عطية وهدية من عِنْده، تارة بتنبيه من الباطن لا يمكن التعبير عنه، وتارة بسبب رؤيا المنام، وتارة بمشاهدة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند مجالسته وصحبته.(…)، فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاحدا منكرا، فلما وقع بصره على طلعته البهية فرآها تتلأْلأُ منها أنوار النبوة: قال: والله ما هذا بوجه كذاب!)“[4].
ويرى عبد السلام بأن تجديد الإيمان يتم بعاملين اثنين:
أ- صحبة الرسول الكريم وصحبة أولياء الله تعالى من بعده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”“[5]. ولا يُعتبر المؤمنون متبعين للهدي النبوي، إلا إن اتخذوا القرآن إماما، ولا يكون لهم ذلك إلا إن جددوا الإيمان في قلوبهم. وإنه لمن الظلم والانحراف أن نعتمد القرآن فقط مصدرا للتشريع لا نعدو حرفيته . يقول عبد السلام عن صحبة أولياء الله وكيف يتجدد الإيمان بصحبتهم: ” وإن لله عبادا من أوليائه وأحبائه مجرد رؤيتهم تذكر بالله، فما بالك بصحبتهم. من ذكَرَهم ذَكَر الله، ومن ذَكَر الله ذَكَرَهم)[6]. …بصحبة هؤلاء يتجدد الإيمان إذا خلُق ( بَـلِي )، بربط الصلة التامة الدائمة بهم، يرتبطُ ما وَهَى من فطرتنا بالميثاق النبوي الغليظ عبر هذه القلوب الطاهرة المنورة التي غمرها حبّ الله والحب لله)“[7].
لم يكن تلقي الإيمان في زمن الرسول والقرون الفاضلة عملية معقدة بل كانت عملية فطرية يتم تلقي الإيمان فيها بطريقة عفوية . جاء سفيان بن عبد الله الثقفي إلى رسول الله فسأله: ” يا نبي الله حدثني بأمر أعتصم به، فقال الرسول الكريم: قل ربي الله ثم استقم”“[8].
ب: الإكثار من قول لا إله إلا الله: وردت أحاديث كثيرة عن رسول الله تحُث على قول لا إله إلا الله، والإكثار منها، وتلقينها، منها: ” “من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة”“[9]. قال عبد السلام ياسين: ” في كل هذه الأحاديث المطلوبُ قولها، قولا لسانيا، التكلم بها بكل بساطة وفطرية. في لفظها المقدس سرّ وكيمياء بهما ينفذ الإيمان إلى القلب. فيا من يكذب الله ورسوله في إخبارهما بما يُصلح الإيمان ويجدده ويصدق أوهامه!)“[10].
ومع أن الاكثار من قولها، وتلقينها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن المصدق للمعصوم تصديقا حرفيا قليل . ويعيب الأستاذ على قوم هم رواد ودعاة الإسلام الفكري الذين يدعون إلى اكتساب الإيمان من خلال الدراسة الواعية للكون الكبير، وما انبت فيه من أحياء، ويعيب على أولئك الذين يطاردون الشرك الفردي ويسكتون عن الشرك السياسي وهو فساد الحكم مع أنه سبب جميع المصائب التي ابتليت بها الأمة . أما في الأوساط الشعبية حيث يعشش الجهل، وينتشر الشرك الفردي، فيوصي عبد السلام بتعليمهم الإيمان من جديد، حتى ينبذوا كل الشركيات بأسلوب غير أسلوب العنف والطرد والتكفير و التبديع[11] . ويؤكد عبد السلام أن ذكر الله وخاصة الإكثار من قول لا إله إلا الله أثمر مع الصحابة لصحبتهم لرسول الله، وأثمر مع صالحي هذه الأمة لصحبتهم لأولياء الله تعالى، قال الإمام الرفاعي: ” ذِكْر الله يثبت في القلب ببركة الصحبة. المرء على دين خليله، عليكم بنا! صحبتنا ترياق مجرب، والبعد عنا سم)“[12].
ثانيا- تعلم العقيدة ضمن مجموع الرسالة: العقيدة بالقلب هي جزء من الإيمان، وليس كل الإيمان . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” الإيمان بضع وسبعون بابا: أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)“[13]. الرسالة هي مجموع الأحكام التي جاء بها القرآن، والتي سنها رسول الله . وانه لمن الانتكاس التركيز على العقيدة وهي جزء، وعدم فهمه ضمن مجموع الرسالة المحمدية الجامعة . قال عبد السلام ياسين ” إن الحديث عن العقيدة مجردا عن جمعية الرسالة، ناسين ما حمله علم الكلام من آثار دماء المعارك، واقفين في محطات الماضي، عاجزين عن اقتحام عقبات الزمن وتحدياته، لهو إلهابٌ لمعارك جانبية نتسلى بها لتفاهتنا عن المعركة الشمولية)“[14].
ثالثا – علم الكلام والعلوم الحديثة: إن التحدي الذي يواجهه علم الكلام الآن في عصرنا هو هجوم الفلسفة المادية الملحدة، المدججة بسلاح العقل العلومي والفلسفي الشاك، الصاد عن الله تعالى وعن غيبه، وقد تأثر الغرب بهذه الفلسفة، وتأثر معه كثير من ذراري المسلمين . فلمثل هؤلاء ينبغي أن يتم اصطفاء النبغاء النبهاء من أبناء المسلمين، وبناتهم لهدم أسس الفلسفة المادية الملحدة ؛ فتُستغل جميع العلوم الحديثة لهذا الغرض من: فيزياء وكيمياء وطب وغيرها، قال ياسين: ” إن العالم الواعظ المربي المعلم لا يستطيع أن يلفت النظر بإقناع الفكر، ولا يستطيع صد الموبقات الشكية، والمغرقات الجحدية إن كانت كلمة القرآن في لفظه لا يسندها دراية ما فيه الناس، غائب شأن الناس، وعلوم الناس وابتكارات الناس عن لحظه)“[15].
يوصي ياسين بناء على هذا بدراسة النظريات الفيزيائية الحديثة فهي اساس الفلسفة المادية في عصرنا، وتدرس دراسة جيدة لنقضها من اساسها، فان الدراسة الدقيقة لهاته النظريات كفيل ببث الحيرة والشك في قلب هاته الفلسفات، والتي بدأ العلم يهدد بنسفها من أساسها[16].ومن بين هذه النظريات: نظرية اينشتاين، نظرية بلانك الفيزيائي الألماني، نظرية البيج بانج للروسي ألكسندر فريدمان . ويوصي بقراءة كتاب ” الله والعلم ” لجان جطون[17]. وأختم هذه المقالة بقول عبد السلام ياسين: ” السؤال المطروح على عصرنا وما بعده هو: هل نأخذ عقيدتنا من القرآن والحديث مباشرة؟ هل نستطيع ذلك؟ هل يجب علينا ذلك؟ هل يقبل الله منا أن نستقبل ما أخبرنا به ورسولُه بالتسليم، والطاعة، والعمل، باقين على البراءة الأصلية؟ أم لا بد أن نعرضَ عقيدتنا على الرقيب القاضي ونتبرأ – من جميع الفرق الضالة لنحظى- أمامه بشهادة حسن السلوك وصفاء العقيدة.)“[18].
الهوامش:
ــــــــــــــــــــ
[1] – أبو حامد الغزالي: فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة، تحقيق محمود بيجو، الطبعة الأولى 1993 . الفصل العاشر: رد من كفّر بالتقليد ص 75
[2] – ابن الوزير، محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى الحسني القاسمي، العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، بيروت، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الثالثة، 1415 هـ – 1994 م 1/ 111
[3] – ياسين عبد السلام، الإحسان 1/ 273
[4] – أبو حامد الغزالي: فيصل التفرقة بين الايمان والزندقة ص 75- 76 وينظر أيضا: ياسين عبد السلام: الاحسان 1/ 386 .وينظر له أيضا: الرسالة العلمية، مطبوعات الهلال وجدة، الطبعة الأولى 2001 ص18 . سيد قطب معالم في الطريق، بيروت دار الشروق طبعة 1988، ص 44
[5] – أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني، سنن ابي داود، باب ما يذكر في قرن المائة 4/ 109 رقم الحديث 4291
[6] – يشير بذلك إلى الحديث القدسي: وإنَّ أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يُذكرون بذكري وأُذْكَرُ بذكرهم”. رواه الإمام أحمد في مسنده، حديث عمرو بن الجموح 24/ 317 رقم الحديث 15549
[7] – ياسين عبد السلام، الإحسان1/ 265 – 266
[8] – الإمام أحمد، المسند، حديث سفيان بن عبد الله الثقفي 24/ 145 رقم الحديث 15419
[9] – المصدر السابق، حديث معاذ بن جبل ج36/ 363 رقم الحديث 22034 . وينظر حديث التلقين في 28/ 348
[10] – ياسين عبد السلام، الإحسان 1/ 267 . وينظر أيضا ص 268 والعجب كل العجب في قوم حولوا هذه الكلمة إلى فلسفة
[11] – ياسين عبد السلام، تنوير المؤمنات 1/ 271
[12] – الرفاعي أحمد بن علي بن ثابت الحسيني، البرهان المؤيد، تحقيق: عبد الغني نكه مي، بيروت، دار الكتاب النفيس الطبعة الأولى، 1408ص 49
[13] – رواه الامام أحمد في المسند، أحاديث أبي هريرة 15/ 212، رقم الحديث 9361
[14] – ياسين عبد السلام، تنوير المومنات 1/ 272
[15] – ياسين عبد السلام، الرسالة العلمية 29
[16] – مثلا مؤدى نظرية داروين أن الكون وُجد صدفة وبحساب رياضي فهو كما قال العلماء مثل احتمال أن قردا يخبط على آلة كاتبة فيؤلف أعمال شكسبير أو يؤلف خزانة للكتب قال ياسين: ” احتمال تأليفه لروائع شكسبير أو إنشائه كتب خزانة هو في حدود عشرة أس ألف مليار. أي واحد عن يمينه ألف مليار صفر. لو جئت ترقم هذه الأصفار على الورق لزمك مليون كيلومتر من الورق. لو جئت تنطق بهذه الأرقام لزمك خمسة عشر ألف عام. أي مائة وخمسون قرنا.” تنوير المؤمنات 1/ 257
[17] – ياسين عبد السلام، الرسالة العلمية 31- 35
[18] – ياسين عبد السلام تنوير المؤمنات 1/ 270.بقليل من التصرف
أضف تعليقك (0 )