في مفهوم المنهاج
يظهر من معاجم اللغة العربية أن المنهاج هو المسلك الواضح الذي يُوصل إلى الغاية [1]، وهو قريب من معنى المنهج والمنهجية، والمنهاج في المرجعية القرآنية النبوية هو المسلك العلمي والعملي الذي يسلكه الفرد المؤمن والجماعة المؤمنة الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ويتخذ من الإنسان في حياته الممتدة من الدنيا إلى الآخرة موضوعا له، ومن تحقيق سعادته هنا وهناك غاية له. وهنا يتميز المنهاج وهو مفردة قرآنية عن “المنهجية العلمية” التي تتخذ من الكون موضوعها فتنظر في قوانينه وحركته. بينما ينظر المنهاج إلى الكون -من خلال الإطار المرجعي الحاكم في التفكير والسلوك والحُكم- بوصفه مسخرا للإنسان المستخلف فيه والمؤتمن عليه، ليشكل مجال فعله ومصدر سعيه ومعاشه من حيث لا ينفصل عنه. فما هي وظيفة المنهاج في فقه القرآن الكريم والسنة النبوية؟ وكيف يُنزِّل المنهاج النصوص واقعا متجسدا في حياة الناس؟ وما هي ضوابط هذا التنزيل؟
المنهاج والمرجعية القرآنية النبوية
لا شك أن القرآن العزيز والنبوة الخاتمة هما المرجعية المطلقة في التفكير والسلوك الإسلاميين، منهما تستمد الأفكار والأفعال مشروعيتها وقوتها ونفوذها، ومنهما يستمد العقل المسلم المفاهيم والتصور والنظرية في الوجود والمعرفة والقيم، من خلالهما يحاكم الماضي ليفقه حركية التاريخ، وينظر في الحاضر ليفقه جريان أحداثه، ويستشرف التغيير الأنفسي والآفاقي في المستقبل، ومن مضمونهما يحدد علاقته بالآخرين، ومن أوامر الكتاب المجيد ونواهيه يحدد المطالب الشرعية الفردية والجماعية، الآنية والمستقبلية، ومِن قصصه يستوعب حكمة الله في الخلق وسننه في التاريخ؛ نهوض الأمم وسقوطها، قيام الحضارات وانهيارها، ابتلاء الناس وامتحانهم، نصرة الله لعباده ومكره بأعدائه…
القرآن هو الشِّرعة التي اختارها الله لعباده كي يسلكوا في نورها ووفق منهاجها انطلاقا من قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ (المائدة:48)، غير أن هذه المرجعية المطلقة تحتاج إلى إرادة وعقل وأسلوب لتفعيلها والعمل بمقتضاها وصناعة النموذج التطبيقي الاجتهادي الذي يحملها في واقعٍ يتسم بالتسارع والغموض والتداخل.
وتبقى السيرة النبوية نموذجه التطبيقي الأول القابل للتجدد في رُوحه وإن تنوعَ الشكل واختلف الزمان بأُناسه وأقضيته. لذلك يحتاج “النقل” بصورة دائمة إلى تدبرٍ وتفكرٍ بُغية فهمه وإلى اجتهادٍ واستبصارٍ من أجل استيعابه وإلى إرادةٍ ماضيةٍ من أجل المضي في اقتحام العقبات قصد تطبيقه. يقول الإمام رحمه الله:“تنطلق خُطانا المنهاجية من قواعد الشِّرْعة، يستنير القلبُ بنورها، والعقل بعلمها، والنّظر بمفاهيمها، والإرادة بحافزها وداعيها وندائها، لنقتحم العقبة إلى الله عز وجل[2].”
المنهاج بين النظر وفقه التنزيل
المنهاج نظر وعمل يُترجم الكتاب والنبوة واقعا يحياه الفرد بصلاحه وإصلاحه وتحياه الأمة بخيريتها ورساليتها، وليس حُلما يراود العاجزين. وقد وردت كلمة “منهاج” مقترنة بكلمة “شرعة” في الآية السابقة حتى يكون المنهاج منهاج شِرعة مُنزَلة مع نزول الوحي، وليس اجتهاد زيد وعمر من الناس مهما ادعى لنفسه من قوة على التنظير. هو منهاج الاستقامة والهدى ودين الحق، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿أفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (الملك:22). واقتران مفهوم المنهاج بمفهوم “الشِّرعة”، هو ما يمده بأسباب القوة والخلود والشمولية وباقي الخصائص التي تتصف بها شِرعة التنزيل (الوحي).
إذا كانت الشِّرعة هي أمرُ الله الـمـُنَزل الضابط للتكليف -الفردي والجماعي- وشروطه وأحوال المكلفين وبيئاتهم، فإن المنهاج هو الفهم العلمي والتطبيق العملي لروح الشِّرعة، وإنزالها على أحداث التاريخ في الإطار الزماني والمكاني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي المتغير المتطور، “المنهاج علم متحرر من حيث هو علم موحى به، ومن حيث هو نداء من لدن رب العالمين، من كل ثقل أرضي اجتماعي أو إثني أو تاريخي أو اقتصادي.”
غير إن المنهاج من حيث هو عمل، من حيث هو استجابة لنداء الله لعباده، إنما هو مكابدة ومعاناة واقتحام، هو“اقتحام لكل العقبات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والجغرافية. المنهاج العلم وحي مجرد يمكن للعقل المجرد أن يتلقاه ويفهمه في تجريده فيبقى فكرا عاطلا. أما إذا تلقاه قلب المؤمن، وأصبح أمره ونهيه باعثا صارما، وانعقد الباعث إرادة عازمة، فالتنفيذ إنما يكون في عالم المادة، في عالم الأجسام والمصالح والدوافع والموانع والعادات والأعراف والعداوات والصداقات والحروب. والعقل عندئذ أداة تنفيذ لا مصدر تخمينات تعطي المعرفة وتؤسس العمل[3]“مسلك يَعبر الدنيا بما فيها من قوى واصطدام واضطراب ونشاط ولا يتجنبها[4]“، أي أنه منهاجُ عملٍ منتظم ومتواصل وليس منهاج جدل وكلام وأحلام، كما تسرب إلى تاريخ الأمة جراء انحطاطها واستضعافها. وكما تروجه جهات عديدة تحاول اختزال رسالة الإسلام في شقه الثقافي الفكري ولو تحت سقف الاستبداد والخرافة والتبعية. ظنا منها أن الأزمة “ثقافية” فحسب. والحاصل هو أنه“لا مكان في العالم للمثاليات الحالمة، والأخلاقيات العزلاء، والكيانات الفقيرة.[5]“
على منهاج الأنبياء وسُنتهم
ليست الحاجة إلى المنهاج هي نفسها الحاجة إلى حفظ “النصوص” واستظهارها وتجريدها وعدم تدبرها وتقليب النظر فيها، أو فعل ذلك في غفلةٍ عن ضرورة تجسيدها واقعاً حيا، بل هي حاجة المسلمين أصلا إلى مصباحٍ ينير لهم الطريق، إلى مفتاحٍ يفتح لهم باب الفقه في كتاب الله، فالمسلمون اليوم في حاجةٍ إلى فهمٍ سليم واستجابة شاملةٍ لنداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يمنعهم من الانحراف أو السقوط، من الغلو أو الغفلة، من الحماسة أو القعود، في حاجة إلى يقظةٍ قرآنية تجديدية كُلية وفق المعالم الكبرى للمنهاج النبوي في التربية والتفكير والسلوك، في تنظيم الدعوة وبناء الدولة. وبالتوفيق الإلهي في السير على المنهاج يتحقق الاتباع الشامل والقاصد والعملي ويُنجز الوعد وتتحقق الخيرية في كل زمان ومكان ما دام“المنهاج اتباع، والاتباع هو السُّنَّة[6]“، والسنة أُخت القرآن لا يفترقان إذ “الوحي والرسالة مناطَ الإيمان كله[7]“.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله بهذا الصدد:“وانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا واقتصادا أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم[8]“، )اجتهادا واقتصادا على المنهاج النبوي. ينظر بعين المنهاج في حقيقة الواقع ليفقهه فلا يزيغ عن الجادة ولا يتطرف، ويرتب الأولويات في الفهم الكلي الاستراتيجي والعمل الواقعي اليومي، فيحلل ويركب ويقترح بمنطقٍ عارفٍ بتكاليف الزمان وطبائع الإنسان وحقائق الأكوان. ولطالما تضررت الأمة المسلمة من تلك “الاجتهادات” التي ارتهنت لواقع الفتنة وتقلص ارتباطها بالأصول المؤسسة حتى طال عنها الأمد واتخذت كلام العلماء والفقهاء مرجعا مطلقا يحجب نور الأصل بظلالٍ وأشباحٍ. يقول الحجوي الثعالبي:“سدودٌ بين الأمة وبين نُصوص الشريعة، ضُخمت شيئا فشيئا إلى أن تُنوسيت السنة، ووقع البُعد من الكتاب…وأصبحت الشريعة هي نصوص الفقهاء وأقوالهم لا أقوال النبي الذي أُرسل إليهم[9]“.
المنهاج والفقه الأكبر
يظن بعض المفكرين والباحثين أن المنهاج كالمنهج عملية فكرية صرفة وأن الأزمة التي تعانيها الأمة هي في عمقها فكرية تحتاج إلى معالجة فكرية وثقافية وانتهى الأمر، وينسون أن المنهاج فقهٌ شامل وتربيةٌ متوازنة وسلوكٌ قاصد، علمٌ ينظم العمل ويوجه الحركة في توسُّط وسيرٍ حثيث يجمع بين عمل القلب وتدبير العقل وسعي الجوارح، بين سعي الفرد المؤمن وعمل الدعوة والتربية وقوة الدولة والتظيم، وإن كان المنهج ضروريا لتنظيم المعرفة وتقنين التفكير وترتيب الأولويات، فإن“المنهاج النبوي ضروري لتفسير التاريخ والواقع، ضروري لفتح النظرة المستقبلية، ضروري لرسم الخطة الإسلامية دعوة ودولة، تربية وتنظيما وزحفا، ضروري لمعرفة الروابط الشرعية بين أمل الأمة وجهادها، ضروري لمعرفة مقومات الأمة وهي تبحث عن وحدتها، ضروري لإحياء عوامل التوحيد والتجديد، ضروري لمعالجة مشاكل الأمة الحالية قصد إعادة البناء[10]“.
وأخيرا لن يتحقق وعد الخلافة بما هي ظهور وتمكين لأمة الإسلام وتحقيق وحدتها وتبليغ رسالتها –رسالة الرحمة في العالمين- بمجرد فهم النصوص واستنطاقها وتنظيم الندوات والمؤتمرات في شرحها وتأويلها، ولا بإحكام التنظيمات والهيئات على أهمية تلك الفروع وضرورتها، ولا بقوة أجهزة الدولة القمعية وتشريعاتها القانونية، وإنما بتخلق طليعة الأمة بأخلاق القرآن والنبوة في تكاملها وعمقها وشموليتها، ونهضتها من وَهْدَةِ الجهلِ لأداء واجبها الرِّسالي الجماعي بتأثير واستمرار في عالم متحول موار. ولا يتأتى ذلك –في نظري- إلا بفك الارتباط في الفكر والسلوك بين القيم الرسالية النورانية الخالدة والقيم السلطانية التخذيرية المؤقتة، وإخضاع حاجة السلطان لتصديق القرآن وليس العكس. والله أعلم.
[1]– “النهج والمنهج والمنهاج معناها الطريق، ونهج يعني سار في هذا الطريق، أو قام بإجراءات تصل به إلى الهدف، لأن الطريق هو المعبر للوصول إلى الهدف”(الراغب الأصفهاني أحمد بن الحسين، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق عدنان صفوان داوودي، دمشق، دار القلم، ط4، 1430هـ/2009م، كتاب: النون)، و”المِنهاجُ: الطريقُ الواضِحُ. واسْتَنْهَجَ الطريقُ: صار نَهْجاً. وفي حديث العباس: لم يَمُت رسول اللَّه حتى تَرَكَكُم على طريقٍ ناهِجةٍ أَي واضحةٍ بَيِّنَةٍ. ونَهَجْتُ الطريقَ: أَبَنْتُه وأَوضَحتُه؛ يقال: اعْمَلْ على ما نَهَجْتهُ لك. ونَهَجتُ الطريقَ: سَلَكتُه. وفلانٌ يَستَنهِجُ سبيلَ فلانٍ أَي يَسلُكُ مَسلَكَه”. (ابن منظور، لسان العرب، دار الجيل، بيروت، ط1، 1408هـ/ 1988م، مادة: (ن ه ج))
[2]– ياسين عبد السلام، محنة العقل المسلم، ص:24
[3]– ياسين، عبد السلام، مقدمات في المنهاج، ص: 28-29، فالمنهاج
[4]– ياسين عبد السلام، القرآن والنبوة، ص: 12
[5]– ياسين، عبد السلام، مقدمات في المنهاج، ص: 34
[6]– نفس المرجع، ص: 36
[7]– ياسين عبد السلام، القرآن والنبوة، ص: 13
[8]-الشاطبي أبو إسحاق، الإعتصام، ج 1، تحقيق سليم بن عيد الهلالي، دار ابن عفان، ط1، 412ه/1992م، ص:111
[9]– الثعالبي، محمد بن الحسن الحجوي الفاسي، الفكر السامي في تاريخ الفكر الإسلامي، ج 2، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1416هـ، /1995م. ص: 7
[10]– ياسين عبد السلام، نظرات في الفقه والتاريخ، ط2، ص: 10
أضف تعليقك (0 )