post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

نظرات في وصية الإمام المجدد
<h2>تقديم</h2>
عني علماؤنا الأجلاء بالوصية المعنوية عناية كبيرة، فأوصوا في حياتهم أو عند احتضارهم بما أوصى به الأنبياء وخاتمهم عليهم الصلاة والسلام والصحب الكرام رضوان الله عليهم، بعبارات جزلة، وكلمات رقيقة، وأساليب رشيقة توقظ وتذكر، وتنصح وتحبب. وصايا تُهم الشأن الفردي وأخرى الشأن الجماعي على قلتها، تدل على ذلك شواهد أكثر من أن تحصى منثورة في كتب الطبقات ومناقب الرجال، من ذلك رواية الدارمي بسنده وصية الربيع بن خثيم: &#8220;هذا ما أوصى به الربيع بن خثيم وأشهد الله عليه، وكفى به شهيدًا وجازيًا لعباده الصالحين ومثيبًا فإني رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًا، وإني آمر نفسي ومن أطاعني أن نعبد الله في العابدين، ونحمده في الحامدين، وأن ننصح لجماعة المسلمين&#8221;، [ref]أخرجه الدارمي في السنن (2/2031)، وعبد الرزاق في المصنف (9/54)[/ref] فقوام الوصية عبادة الله والنصح لجماعة المسلمين، وهما همان لا ينفك أحدهما عن الآخر، هم الفرد وهم الأمة.
هذان الهمان المتلازمان المتواشجان خيما على فكر الإمام عبد السلام ياسين في حياته الدعوية والعلمية، وحضرا بقوة في وصيته المنثورة والمنظومة، التي فرغت يمينه من خطها على الساعة الخامسة قبيل فجر الأربعاء 28 ذي الحجة 1422هـ، قبل وفاته باثنتي عشرة سنة صبيحة الخميس 28 محرم 1434هـ.
كتب الإمام المجدد رحمه الله وصيته بتوفيق إلهي وعناية فائقة ودقة عالية، فلا يغيب على قارئها التسلسل المنطقي فيها؛ فقد بين كاتبها في مستهلها مقاصده منها، ومشروعيتها، والمستهدف منها، متبعا ذلك ببسط لوصايا قرآنية ونبوية، منتقلا منها إلى عرض منهاج التغيير على الهدي النبوي، وخاتما بالتصلية والتسليم والدعاء. وبين كل فقرات الوصية تناسق عجيب وربط متين. ولإدراك سليم لمضامينها وأبعادها لابد من ربطها بحياة كاتبها ومؤلفاته ومسيرته الدعوية. لذلك ارتأيت في هذا المقال أن أقدم نظرات في الوصية أسأل الله أن تكون موفقة مقبولة منه سبحانه.
<h2>مسك البدء والختام الدعاء</h2>
ليس غريبا على رجل قضى حياته في عبادة ربه والتذلل بين يديه أن يبدأ وصيته ويختمها بمخ العبادة، وهو الدعاء، معتبرا أن أول مقصد له منها هو الدعاء له، مكافئا هذا المعروف بدعاء منه؛ قصد -بتواضع ورجاء لعفو الله- أن يدعو له بقلب خاشع مؤمن ومؤمنة وقفا على وصيته استماعا أو قراءة بالرحمة، وكرر ذلك في ختامها بقوله &#8220;ولا تنسونا من دعائكم أحسن الله إليكم واستودع إيمانكم وخواتم أعمالكم&#8221;، [ref]ياسين عبد السلام، وصيتي، ص 23[/ref] بعد وصيته بدعاء الرابطة وهدية الرابطة والمواظبة عليه &#8220;فتلتئم أواصر الصلة ويتحقق التزاور في الله والتحاب في الله عبر الزمان. لا تحبس الصلة برازخ الموت&#8221;. [ref]نفسه، ص 9-10[/ref]
<h2>شرف الانتساب</h2>
يدرك القارئ النبيه للوصية وشيجة القربى بين دعوة ومشروع العدل والإحسان المعروض على الأمة اجتهادا من الإمام المجدد رحمه الله لهذا الزمان وما بعده، والدعوة المحمدية ودعوات الرسل قبلها عليهم الصلاة والسلام، فلها -أي دعوة العدل والإحسان- شرف الانتساب إليها دعاء وعملا، لكونها تشكل امتدادا لها، لذلك يلمس القارئ بشكل واضح في الوصية يقين الرجل رحمه الله في استمرار دعوة العدل والإحسان إلى يوم القيامة بمشيئة الله حين يقول: &#8220;ألا وإن لي أشياء أوصي بها من يسمع ويعقل، صدى وترجيعا يبلغه الله عز وجل آذانا واعية وقلوبا صاغية. إن شاء ربنا الولي الحميد. صدى ترجعه إن شاء الله أجيال العدل والإحسان إلى يوم الدين&#8221;. [ref]نفسه، ص 10[/ref] اهتداء واقتداء، وتأس واقتفاء، وتجديد باجتهاد، رسمه ونهجه، ودعا إليه وأوصى به.
تـيـمـم سـبـيـل النـبـي&#8230;وجــدد صُوى الأرسُم الدُرُس
وبالصحب والسلف الصالحين&#8230;اقــتــدِه دائــمــا وقـِـسِ
فهـُم قُـدوتي فـي الحـياة&#8230;وهـم لي نصير وهـم تُرُسـي[ref]ياسين عبد السلام، وصيتي –المنظومة- ص 43[/ref]
<h2>خير معرف بالمشروع صاحبه</h2>
جعل الإمام المجدد قصده الثاني من الوصية &#8220;أن يتذكر متذكر خلاصة ما إليه دعونا لما كنا من سكان أرض الدنيا عابرين إلى دار البقاء&#8221;، [ref] المرجع نفسه، ص 9 [/ref]وإلى هذا أشار في وصيته المنظومة قائلا:
إليكم عُصارة عُمر مضى&#8230;تصرم في النجح والمبأس[ref]ياسين عبد السلام، وصيتي –المنظومة- ص 27[/ref]
لذلك يمكن اعتبارها رسالة تذكير، وبطاقة تعريف بمشروع العدل والإحسان، موجزة وجامعة في الآن نفسه، فخير مُعَرِّف بالمشروع صاحبُه ومؤسسُه، وهو الذي قضى ما يفوق نصف عمره في خطه كتابة، والتأسيس له وتنزيله واقعا بإرادة لا تضعف، وعزيمة لا تنثني، وهمة لا ترتخي، وعمل لا يتوقف. مشروع تغييري تجديدي لبناء صرح &#8220;خلافة على منهاج النبوة بعدُ يانعة رائعة&#8221;، [ref]ياسين عبد السلام، وصيتي، ص 11[/ref] لا يستثني أي مجال من مجالات العمل، يضع كل مجال في مكانه ويعطيه وزنه الذي يستحقه، في توليف عجيب فريد بينها قلما تجد الموسوعي الموفق لِلَمِّ شتاتها والخروج بنسق موحد متكامل متوازن.
<h2>شمول وتوازن</h2>
لم تحِد الوصية قيد أنملة عما أوصى به الله تعالى من وصايا قرآنية، وما أوصى به رسوله من وصايا نبوية والرسل من قبله عليهم الصلاة والسلام، فاستمدت أصالتها من الائتمار بالأمر الإلهي والاقتداء بالهدي النبوي. والمتمعن في الوصايا القرآنية والنبوية الواردة في الوصية مصحوبة ببعض التفسيرات العميقة واللطائف النفيسة من الإمام رحمه الله، يجدها شاملة للدين كله؛ تروم حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، كما يمكن للمتأمل أن يستخلص مجالات العمل الإسلامي تطبيقا للإسلام في هذا الزمان وما بعده، كما يلي:
التربية على الدين بمراتبه الثلاث؛ تأسيسا للإسلام، وبناء للإيمان بشعبه استجابة للأمر العلي يا أيها الذين ءامنوا &#8220;طاعة فعل واصطبار، أو كف وازدجار&#8221;، [ref]نفسه، ص 17[/ref] ونشدانا للإحسان بإقامة الوجه لله &#8220;بشرط العمل الدائب والنية المتجددة&#8221;، [ref]نفسه، ص 17[/ref] في صحبة المحسنين. مع المحسنين اتخذ صُحبة&#8230;وأحسن برفقتهم، لا تُسي[ref]ياسين عبد السلام، وصيتي –المنظومة- ص 37[/ref]
الأسرة فرعا وأصلا؛ بالإحسان إلى الوالدين، وحسن عشرة الأهل وتربية الأبناء وحفظ فطرتهم بعدم ترك &#8220;عوامل التضليل والفساد تغتالهم من بين أيدينا&#8221;. [ref]ياسين عبد السلام، وصيتي، ص 13[/ref] الدعوة وسط الأمة وللعالمين &#8220;بما نحن الأمة الوارثة الشاهدة على الناس&#8221;، [ref]نفسه، ص 13[/ref] جاء في الوصية:&#8221; في زماننا وما بعده يبقى حمل الدعوة وتبليغها للعالم رسالة مطوقة بها أعناقنا&#8221;، [ref]نفسه، ص 16[/ref] فهي هم كل فرد وواجبه لا ينثني عن القيام بها ولا ينتكس، قال:
وقم فادع لله لا ينثني&#8230;بك العزم نكسا من النُكس[ref]ياسين عبد السلام، وصيتي –المنظومة- ص 37[/ref]
السياسة: لم يفُت الإمام المجدد الحديث في وصيته عن الحكم معتبرا أنه &#8220;دين من الدين&#8221;، فأوصى بالشورى في الأمر العام كما في الأمر الخاص، وبعدم قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وبالإيفاء في الكيل والميزان بالقسط، وبالعدل والوفاء بالعهد، كل ذلك &#8220;مفهوما في تقيده بضوابط العمل الجماعي السياسي&#8221; كما هو مفهوم &#8220;في إطلاقه في الخلق الفردي والتدين الخاص&#8221;. [ref]ياسين عبد السلام، وصيتي، ص 14[/ref] عدل وإحسان:
توَّج الإمام المجدد وصيته -بعد سلسلة الوصايا القرآنية والنبوية- بالوصية بالحفاظ على الاقتران بين العدل والإحسان قال: &#8220;أوصي أن العدل قرين الإحسان في كتاب ربنا واسم جماعتنا&#8221;، [ref]نفسه، ص 18[/ref] مُحذرا مما حذر منه بإلحاح في كتاباته من أن يلهي &#8220;الجهاد المتواصل&#8221; لتحقيق المطلب العدلي جند الله عن &#8220;الجهاد الحثيث&#8221; لتحقيق المطلب الإحساني، ولا يسع المتأمل للخصال العشر التي ذكَّر بها مُرتَّبة كما هي مسطرة في المنهاج النبوي -جعلها صلبه إلى جانب شعب الإيمان المندرجة تحتها-، إلا أن يدرك حضور البُعدين الإحساني والعدلي، الفردي والجماعي فيها. فلا ينفك سعي الفرد لبناء مصير حسن عند الله؛ إقامة للوجه له وصدقا في الطلب وتقربا إليه بالعمل الصالح فرضا ونفلا، وتحصيلا للعلم &#8220;الضامن سعادة آخرة كل فرد فرد&#8221; [ref]نفسه، ص 21[/ref]وبذلا وعطاء وتخلقا وصبرا واقتصادا وجهادا، لا ينفك هذا السعي الفردي عن السعي &#8220;بالجهد العامل البعيد النظر الصابر على مشاق الطريق لجمع شتات الأمة وبناء وحدتها لبنة لبنة حتى يرتفع صرح الخلافة على منهاج النبوة التي بها وعدنا من لا ينطق عن الهوى مبشرا بغد الإسلام الذي لا ريب فيه&#8221;؛ [ref]نفسه، ص 21[/ref] جهد عامل تحصيلا للعلوم الكونية &#8220;الضامنة قوة الأمة، تبنيها قبل السواعد القوية والأموال الرشيدة عقول مُنظِّمة صانِعة مخترِعة&#8221; [ref]نفسه، ص 21 [/ref]وتطبيقا لنظام الزكاة في &#8220;دولة العدل&#8221; وتمثلا للتؤدة والاقتصاد والجهاد &#8220;في عالم يمور بأصناف البلاء الإلهي، بلاء يُمحص الله عز وجل به الأمة أفرادا وجماعة. ويحق الله الحق متى شاء كيف شاء، وينصر من شاء كيف شاء متى شاء&#8221;. [ref]نفسه، ص 22[/ref]
<h2>عمر ثان.. حياة ثانية</h2>
تشهد سجلات التاريخ البشري أن كل من بصم الحياة البشرية ببصمة إيجابية وساهم في تقدمها نحو الأحسن، يخلد ذكره؛ يعيش حياة ثانية على ألسنة الناس ذكرا، وفي بطون الكتب قراءة لآثارهم العلمية، وفي حياة الناس من خلال آثارهم العملية.
إن الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله بما خلف من إرث علمي كبير وغرس دعوي طيب، يحيى حياة ثانية ويعيش عمرا ثانيا؛ فأفكاره الكبرى المعالجة للقضايا الكبرى للأمة والإنسانية، الطولى الممتد إنجازها عبر الزمان، المصوغة في منهاج اجتهادي تجديدي، شاهدة على عظمة الرجل وجلالة قدره، كما هي شاهدة على ذلك دعوته المباركة المؤسسة على هدى من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم المستمرة بإذن الله يقينا منه.
قال الحسن بن علي المرغيناني:
الجاهلون فموتى قبل موتهم&#8230;والعالمون وإن ماتوا فأحياء
وقال آخر:
دقـات قـلـب الـمرء قـائـلـة&#8230;لـه إن الحـياة دقـائق وثـوان
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها&#8230;فالذكر للإنسان عمر ثان
الإمام المجدد حقا حي وإن مات، رفع لنفسه ذكرها قبل موته، وما الشهادات المتعاقبة في حقه بعد وفاته إلا برهان معجل على ذلك.. اللهم اجعل له لسان ذكر في الآخرين كما جعلت لخليلك إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
&nbsp;

التزكية والدعوة

نظرات في وصية الإمام المجدد

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الأطفال والشباب في سياق رقمي رؤية منهاجية

قواعد التفكير المنهاجي

كيف نجدد الصلة بالقرآن بعد رمضان؟

الصحبة النبوية اصطفاءٌ وارتقاءٌ

تذكير بأصول دعوة العدل والإحسان

العدل أمُّ المصالح والمطالب 2/2

مقالات ذات صلة