الأطفال والشباب في سياق رقمي
يتجه العالم بشكل سريع نحو الرقمنة التي تعرف إقبالا متزايدا من الأطفال والشباب؛ فقد أكدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف) في تقريرها “الأطفال في عالم رقمي” لعام 2017 الصادر بنيويورك (الولايات المتحدة الأمريكية) أن الشباب (ما بين 15 إلى 24) يمثل الفئة الأكثر استعمالا للأنترنيت بنسبة % 17 مقابل %48 بالنسبة لمجموع السكان، وأن الأطفال والمراهقين دون 18 سنة يمثلون ثلث مستخدمي الأنترنيت في مختلف أنحاء العالم[1]. وقد أدخل السياق الرقمي الأجيال الجديدة في طوفان معلوماتي نقلها من اللغة الشفهية أو المكتوبة إلى لغة اللمس[2] واللغة البصرية.
الأطفال والشباب أمام تيار جارف
يؤكد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله أنه “تتضافر عوامل الفساد والإفساد على طفولتنا وشبابنا ومجتمعنا فتسحب منه معاني الإيمان، وتحل محلها معاني الفسق والكفر والعصيان”[3]، فمن الأخطار المحدقة بهم، المغتالة لفِطرهم:
– الإعلام الذي يؤثر على العقول والنفوس، فالأطفال والشباب أمام ما وصفه الإمام ب”القنْبَلة الإعلامية اليومية”[4]، “واللهو العابث المبذر أوقات الناس المضيع أعمار الناس اليوم وغدا في إعلاميات الكترونية طائرة”[5].
– الإلحاد الذي اعتبره الإمام “شيطنة بشرية اختطفتْ البنين والبنات من حضن الأمومة الفِطرية والأبُوة الأصيلة، فكانت لهم الظئرَ الخائنةَ، والمرضعةَ المغتالة الغائلة”[6].
– موجة التخدير والتمييع: ينبه الإمام رحمه الله إلى أنه “لا بد للأطفال واليافعين والشباب من رفقة خارج البيت. في المدرسة وحولها تتألف الصداقات، ونديُّ الشيطان والمخدرات متربص في الأرجاء”[7]، في موجة عالمية مخدرة جارفة:
جَرَفَهُم مَوْجَةٌ مُخَدِّرَة عمَّتْ بِلاداً لِلْعُجْم والعَرَبِ[8]
فهل تبقى الأسرة والدعوة مكتوفة اليد أمام هذا “التيار الجارف” الذي يجدع فِطر الأطفال والشباب، ويجرفهم نحو مهاوي العبث والرذيلة والانحلال الخلقي؟ أم تتخذ الأسباب، مع الضراعة للكريم الوهاب العليم الحفيظ ليحفظهم من كل سوء، ويهديهم لكل خير؟
التعاون بين الأسرة والدعوة
إن رعاية المسؤولية تقتضي عدم الاستسلام لتيار الفساد، والاستقالة من التربية على الصلاح والإصلاح، والنجابة الدراسية، والمبادرة الإيجابية، لذلك ينبغي أن يكون الاشتغال -وفق الرؤية المنهاجية- على واجهات/واجبات ضرورية:
– التحصين: من أوْلَى الأولوياتتحصين الأطفال والشباب من عوادي الفتن والفساد، والتقصير في ذلك اغتيالٌ معنوي للفِطر كما يعبر الإمام عبد السلام ياسين بقوله: “ومن القتل بل من أقساه أن نترك عوامل التضليل والفساد تغتالهم من بين أيدينا”[9]، ومن التحصين اعتماد مراقبة التوجيه لا المواجهة، والتزويد بالأفكار النافعة، والمهام الإيجابية مشاركة لا فرضا، وبناء لا إملاء، ولتسمع المؤمنة توجيهه الذي اتخذ من الحكمة برهانا، ومن الرفق نهجا وعنوانا، يقول: “لا تنكصْ المؤمنة وتنطبِعْ بطابع الحماة والجدة الحاضنة: أين كنت، ولِمَ خرجْتِ؟ مراقبة لا بد منها، لكن ما فائدة الردع والزجر إن كان عقل الفتاة ولب الشاب خِلْواً من فِكرة، يتيما من صحبة صالحة؟ زوِّديها وزوِّدِيه بفكرة، بمهمة إيجابية يغزو بها الساحة، اجعليها واجعليه طليعة بين الأقران. ذلكِ، وإلا فالتيار جارف”[10]. ومما يفيد في تحقيق التحصين حسن اختيار الصحبة الصالحة للبنين والبنات.
– التوصيل بالأسرة التربوية: من الحرص على فلذات الأكباد توصيلهم بمحاضن الإيمان والعلم،”فعلينا رجالا ونساء أن تكون الأسرة المسلمة على اتصال واستمداد بالأسرة التربوية التي تحضن الشباب في جماعات”[11].
– التحصيل الدراسي ومستقبل الدعوة: يُعَدُّ التحصيلُ الدراسي والعلمي واجبَ الوقت، ومسؤوليةً مشتركةً بين الآباء والأمهات والأبناء والدعوة الحاضنة، ولمكانة الأم في التربية ودورها في مسار الأبناء الدراسي، وتوثيق صلتهم بمستقبل الدعوة والأمة خاطبها الإمام قائلا: “عملاً صالحاً يُرِدْن المؤمنات، ولَدا صالحا. فيحاوِلْن ربط المستقبل الشخصي في وَعْي نُعومة الأظفار بمستقبل الدعوة، ونهضة الأمة. جيل يربي جيلا، كلمةٌ باقيةٌ في العَقِبِ حية يأخذها اللاحق عن السابق”[12].
– التأطير المتوازن والمجدِّد: تراهن الدعوة على استعادة “الفطرة الإيمانية عافيتها” فرارا إلى الله “من إعلام التمييع والانغماس والتغميس في حمأة الغفلات والرذيلة”[13]، وبدء “مسيرة التحرر من ربقة التقليد، ومن ضغط الطوق الإعلامي الدوابي على العقول والنفوس”[14]، فلا محيد من توظيف الرقمنة في تأهيل الأطفال والشباب، والتجديد والإبداع في الأساليب والوسائل تلبية لحاجاتهم، بالإغراء بالقراءة، ومدارسة المقروءات، والتدريب على الكتابة[15].والتشجيع على الرياضة والإبداع الأدبي والإعلامي، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “أمامَ القَنْبَلة الإعلامية اليومية لا تُجدِي الموعظةُ، ولا المنطقُ، ولا التوبيخُ والزجرُ، ولا كسرُ الجهاز. فإنك إن كسرتَ جهاز البيت بقيتْ أجهزةُ الشارع والمدرسة. إلا أن تغلق بابَكَ على من فيه، وتظَلَّ سَجَّانَ أهلِك وبنيك.
لا تُجدي الموعظةُ العزلاءُ، ولا المنطقُ، إنما تُقنع الصورةُ، والصوتُ، وما يُؤَلَّفُ منهما فن الإعلام من رسالة مبرمجة، مدروسة، لتتسلل إلى أعماق النفس، فتحدثَ فيها الانفعال المطلوبَ، من رجَّة غضب، أو هبَّة إقبال وقبول، أو نفْرة كُرْه وتَقَذُّر.
أجهزةٌ وفنٌّ شيطانيَّان لأنهما استُعْمِلا لأهدافٍ شيطانية، فإذا انتزعناهما من يد العدو، وشهدا شهادة الإسلام، فمن الممكن استعمالُهما كما تُستعمل أكثرُ الوسائل جدوَى لتبليغ رسالة الخير، وتحبيب الحق، والتنفير من الباطل.
وإن الخَطابة، والتمثيلَ، والصورة، والنشيد، واللونَ، إذا عالجها الفن الإعلاميُّ من زاوية إسلامية، وبمعايير إسلامية، وسخرهما المؤمنون لغايتنا وأهدافنا، لَمِنْ أهم وسائل التعليم والتربية وتسديد الرأي العام”[16].
ولَقضية فلسطين وقضايا الوطن والأمة والإنسانية أولى بالعناية علميا وإعلاميا من الجميع خاصة الأطفال والشباب، ولعل الحرب على غزة العزة والإباء والصمود حدث أيقظ الفطر، وألهم الضمائر الإيمانية والإنسانية لإبداع أشكال تعبيرية متنوعة تجدد الوعي، وتنتصر لحق الإنسان في الحياة والحرية والكرامة.
[1]. حنفي، خالد صالح. عرض تقرير حال الأطفال لعام 2017: الأطفال في عالم رقمي Children in a Digital Age، مجلة سناد للدراسات والبحوث التربوية والأسرية، المركز الدولي للاستراتيجيات التربوية والأسرية، لندن، المملكة المتحدة، العدد 1، يناير 2020، ص 252.
[2]. زغبوش، بنعيسى. الثقافة “الرقمية” والسيرورات المعرفية أو من “اللغة المكتوبة” إلى “لغة اللمس”، مجلة علوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، عدد 60، أكتوبر 2014، ص 76.
[3] . ياسين، عبد السلام. الفطرة وعلاج القلوب، ط 1، 1998م، ص 24.
[4] . ياسين، عبد السلام. إمامة الأمة، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط 1، 2009م، ص 194.
[5] . ياسين، عبد السلام. الرسالة العلمية، مطبوعات الهلال، وجدة، المغرب، ط 1، 2001م، ص 14.
[6] . ياسين، عبد السلام. حوار الماضي والمستقبل، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 1997م، ص 106.
[7] . ياسين، عبد السلام. تنوير المؤمنات، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط 1، 2018م، 2/240.
[8] . ياسين، عبد السلام. قطوف 3، مطبوعات الهلال، وجدة، المغرب، ط 1، 2004م، قطف 192، ص 44.
[9] . ياسين، عبد السلام. وصيتي، ط 1، 2013م، ص 13.
[10] . ياسين، عبد السلام. تنوير المؤمنات، مرجع سابق، 2/240.
[11] . ياسين، عبد السلام. سنة الله، مطبعة الخليج العربي، تطوان، المغرب، ط 1، 2005م، ص 275.
[12] . ياسين، عبد السلام. تنوير المؤمنات، مرجع سابق، 2/241.
[13] . ياسين، عبد السلام. الرسالة العلمية، مرجع سابق، ص 12.
[14] . ياسين، عبد السلام. سنة الله، مرجع سابق، ص 287.
[15] . يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “ونعلم ونوصي بقراءة الكتب المفيدة، ونغري بالقراءة مغالبين ميل العامي للقراءات الخفيفة الجرائدية، والمشاهدات المصورة الملهية على التلفزيون، واللهو العابث المبذر أوقات الناس المضيع أعمار الناس اليوم وغدا في إعلاميات الكترونية طائرة.
نكتب إن شاء الله. ندعو ونكتب. نكتب لندعو. نربي على ذلك ونتربى. ياسين، عبد السلام. الرسالة العلمية، مرجع سابق، ص 14.
[16] . ياسين، عبد السلام. إمامة الأمة، مرجع سابق، ص 194-195.
أضف تعليقك (0 )