إضاءات من مجالس تنوير المؤمنات لإنجاح العلاقات الأسرية 2/2
الحرص على تربية النشء:
إذا كانت الأسرة لحمة اجتماعية معتبرة نواة المجتمع، تنشأ برابطة زوجية شرعية بين رجل وامرأة يتفرع عنها الأولاد، وتبقى صلتها وطيدة بأصول الزوجين وبالقرابة من الأحفاد والأنساب…، فلأهميتها في إنشاء مجتمع قوي وأمة قوية، ما يفتأ الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، يؤكد على أهمية صيانة الروابط الأسرية والعناية بالتربية وبصناعة الإنسان، تربية نوعية هي وظيفة الأبوين وشرفهما كل بحسب اختصاصه ودوره، وهي خصوصية المرأة التي لا يزاحمها فيها أحد.
“واجب المؤمنة الأول وشرف المؤمنة الأول والأخير هو تربية الإنسان، ليس رقما من الأرقام الديمغرافية، الإنسان المخاطب بالحديث القدسي:“يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده. يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي. يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي”، [ref]مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، باب البر والصلة، رقم 2569، والإمام أحمد، باقي مسند المكثرين، 2/404. [/ref]المرأة هي مربية هذا العيار من الخلق، بإسهام الرجل نعم، لكن عليها المعول، تربي نوعا خاصا من الناس يحبهم الله تعالى، ويحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم جند لله، عملها أثناء تربية أولادها جهاد كبير… المرأة تزاحم في مواطن الجهاد ولنا في اليرموكيات المثال، ولكن المجال الذي لا يزاحمها عليه الرجل هو مجال التربية، دوره في التربية أن يكون نموذجا ومثالا، وأن يضمن حقوق ذريته، وأن يشارك في تربيتهم ويجالسهم ولو بتخصيص ربع ساعة في اليوم لهم مهما كان اشتغاله، يجالسهم ويتفقد أحوالهم اليومية والدراسية، واحتياجاتهم ويوجههم…، هذا دور أساسي لا يغني عن دور المرأة التربوي. المسؤولية الدعوية لا تقتضي إضاعة الحقوق من الرجل والمرأة، بل يجب إعطاء كل ذي حق حقه، استنادا إلى الحقوق الواردة في الحديث الشريف: “إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حقه [ref]محمد بن اسماعيل البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف.[/ref]”.[ref]مجلس تنويري معنون بـ “سلوك المرأة إلى الله”، عقد بسلا، الدار العامرة، 10 ذي القعدة 1421 هـ/3 فبراير 2001م.[/ref]
إذا كانت تربية الأولاد ورعايتهم مهمة الأبوين الأولى التي تعليهما في ميزان الله تعالى أو تدنيهما بحسب درجة إحسانهما التربية والرعاية دون تفريط ولا تقصير، فإن وظيفة الأمومة الملتصقة بحافظية المرأة، تتعدى العناية بأولادها إلى حفظ الفطرة ورعاية نشء الأمة جمعاء، أمة عطشى إلى معاني الرفق وحسن المصاحبة: “من هنا نبدأ وإلى هنا نرجع، إن أمرنا لا يقف أيتها الأخوات، في عصركن، في اهتمامكن، في وقتكن، في حجرتكن وبيتكن وقطركن المغربي، ينبغي أن تنظرن إلى مستقبل الأجيال المسلمة، ما ينبغي أن تبذلنه من جهد متواصل، في تربية النشء، ابتداء من تربية أنفسنا على الإيمان بالله عز وجل، والتعلق به والاستعداد للقائه، وإلا سنكون من الذين يشقون في الدنيا وفي الآخرة، الإيمان بالآخرة، الاستعداد للآخرة، التودد لأهل الآخرة في دعاء الرابطة، من مداراتهم، حتى يستقر عندنا، في عقولنا وأنفسنا، أننا عابرون في هذه الدنيا، لسنا ساكنين فيها إلا ريثما يمر يوم أو يومان فإذا نحن في آخرتنا… رأس الحكمة بعد الإيمان بالله، والإيمان بالله هو أولا وقبل كل شيء، الإيمان بلقائه، أما إذا كان الإيمان بالله إيمانا محلقا، عقيدة مشبهة أو منزهة مع المعتزلة أو ضدهم أو مع الأشاعرة أو ضدهم، نحلق ولا يحصل عندنا يقين بلقاء الله تعالى والاستعداد للقاء الله تعالى، لم نوفق إلى رأس الحكمة”.[ref]مجلس التنوير “المرأة والضلع الأعوج”، مرجع سابق.[/ref]
الرفق بالأهل والذرية:
إذا كانت المرأة تشغل جبهة الرفق بجدارة واستحقاق انطلاقا من تكوينها الأول وفطرتها التي خلقها الله تعالى عليها، فإن هذا الخلق الراقي أساس نجاح الأسرة واستمرارها، ومن ثمة نجد الإمام رحمه الله تعالى قد ركز على الأمر قولا وفعلا، شعرا ونثرا، كتابة ومشافهة، ودار مجلس تنويري حول هذا المعنى من خلال اختيار المقتطف التالي من كتاب تنوير المومنات: “عقّت وما بقّت امرأة قامت بوظيفة جسمها كرها ووهنا فألقت إلى الوجود أجساما، ولم تُؤَدِّ واجب عاطفتها وعقلها وإيمانها. أخرجت إلى الوجود جسما جديدا فلما أرسلته هَمَلا ساء عملا فهو غثاء بال وإن كان الجسم في ريعان الشباب”. [ref]عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مرجع سابق، 2/263.[/ref] فعلق رحمه الله قائلا: “هذا النص الوجيز عتاب لبعض الأمهات اللاتي لا يعتنين بتربية الأولاد عنايتهن بتربية أجسام الأولاد والبنات، عتاب في لهجة رفيقة، نرجو أن تلمس عاطفة الأمومة فيمن يقرأن كتاب تنوير المومنات أو من يسمعن هذا الشريط. إن الرفق بالذرية والرفق بالأم والرفق عامة لمن خصال الإسلام التي حث عليها الرسول صلى الله عليه وسلم حثا، وروت أحاديث الرفق أمنا عائشة رضي الله عنها. إن النساء أقرب إلى الرفق من الرجال… الرفق المطلوب من الزوج في سورة البقرة[ref]أشار رحمه الله تعالى إلى قول الحق جل وعلا: “وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا”(البقرة:233).[/ref] وسورة الطلاق [ref]أشار رحمه الله تعالى إلى قول سبحانه: “أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ۚ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ”(الطلاق:6).[/ref] مؤكد جدا، ومجتمعنا مجتمع عنف وشطط واحتقار للمرأة ولعب بحقوقها تحت ظل قانون قد يعطي للمرأة كما يريد أعداء المرأة من بني جلدتنا، قد يعطيها مما يسمونه حقوقا، وقد تكون هناك مدونة الأحوال الشخصية، وعليكن أيتها الأخوات أن تتصدين لانتزاع حق المرأة كاملا فحقها ما أعطاها شرع الإسلام”.[ref]مجلس تنويري لم أحصل على تسجيله، وإن كنت شاهدة عقده، ينظر إلى تفريغ بعضه في موقع نساء العدل والإحسان(mouminate.net) تحت عنوان “مجالس التنوير مجالس بر تذوقناها ثم افتقدناها”، هي عبارة عن تعليق منه رحمه الله رحمة واسعة على فقرة من كتاب تنوير المومنات، فصل الأمهات المؤمنات صانعات المستقبل، تربية خلق جديد، 2/263 [/ref]
معاني جليلة كريمة حري بها لو فعلت أن تجمل العلاقات في الأسر، وتجاوز صراع الأجيال ويحصل التفاهم، فيطغى الحوار الرفيق الرقيق وحسن تدبير الاختلاف، وتنشر الثقة عبقها، علها تكون كفيلة بصد جهود جهات تروم الفساد والإفساد، ونشر سموم الانحرافات في النشء، وتطمح إلى إذبال أخلاقهم، وامتصاص رحيق أذواقهم، وتبذر بديلا عنها بذور الفساد بلقاح الشيطنة.
بالنظر الممحِّص لهذا التراث الشفوي العظيم، كما للتصور المنهاجي عموما للأسرة وقضاياها وما ينبغي أن تتأسس عليه، نلاحظ أن الأستاذ عبد السلام ياسين، قد بصم هذا المجال هو الآخر ببصمة تجديدية رائقة شائقة، حدد من خلالها الوظائف وقسم الأدوار، وجعل المرأة حاضرة بقوة حضور الفاعلية والجمع والتقريب وبث روح الحنو والرفق والحنكة والحكمة وحسن التعامل في تدبير مختلف العلاقات في قلب الأسرة، علاقة يطبعها الإحسان ليقر قرار البيت وتصمد أركانه في وجه العواصف والأهوال: “أصل الاستقرار ومثواه ومِرْساتُه الزوج الصالحة المنخرطة في سياق الاستقرار. فعل الأمر “قَرْنَ” يحمل معاني الوَقار والقرار، ومعانيَ الحياء والحشمة، ومعاني الثبات والوفاء. إذا لَم تجْرِ في قنوات المجتمع هذه المعاني منبعثة من كل بيت، متغذية من منابع القلوب الطاهرة الراضية بنصيبها من الحياة الدنيا ومتاعها وزينتها، فالمجتمعُ ساحة مفتوحة للنهب”.[ref] عبد السلام ياسين، العدل، مرجع سابق، ص 268.[/ref]
بيت أسس من أول يوم على ميثاق زواجي غليظ يضفي الهيبة والحرمة على العلاقة، ويراعي قيمة الالتقاء على الله تعالى، ويحرص كلا طرفيه على إسعاد شريكه: “زواج المومنات والمومنين يُسبِغ عليه جلال الميثاق الغليظ قدسية، وتجلله الأمانة الإلهية، وتعظم من شأن تبعاته الكلمة. إن حفظت المرأة وقام الرجل بأعباء الميثاق الغليظ اكتست كل أعمالهما، وما يتبادلان من معروف، وما يتباذلان من عطاء، صبغة العبادة والتقرب إلى الله عز وجل”. [ref]عبد السلام ياسين، تنوير [/ref]المومنات، مرجع سابق، 2/ 140.
بيت يدعم استقراره وحدة أفراده وتعاونهم على إسعاد بعضهم البعض وأداء مهمات الحياة: “لا يتم السكون والمودة والرحمة في البيت إذا كان وقت المرأة لا يحترم، وإذا كانت المشقات والخدمة في البيت لا يتعاون على حملها الرجل والمرأة”.[ref]المرجع نفسه، 2/ 122.[/ref]
بيت مفتوح لدعوة الله تعالى، ومفعمة قلوب أفراده بالحيوية والمحبة وتقدير المسؤوليات ورعاية النشء القوي، الذي رضع لبان التقى من أثداء الأمهات، لا المتلقي لما يقيم أوده من الأيادي الأجيرة في الحضانة أو البيت: “وأن يترك الأطفال للخادمة ولمراكز الحضانة تُطعمهن الأيدي الأجيرة طعام الحرمان العاطفي! هذا ضياع لأجيال نريدُها مُفعَمةَ الجسم بفتوة لا تنشأ إلا بثدي الأمهات، عامرة القلب بإيمان فطري لا تتأهل للحفاظ عليه وتأسيسه إلا رحمة الأمهات، متوثبة الهِمة إلى معالي العزة بالله والعزة للأمة”، [ref]عبد السلام ياسين، العدل، مرجع سابق، ص 281. [/ref]في ذلك إخلال بائس بكمال المرأة الوظيفي: لأنه “ما يكون لكمالها العلمي والخلقي وتقواها إلا زينة عقيمة إن أفادتها إفادة فهي فائدة محدودة، ينقطع بعد الموت عملها إن لم تخلف ذرية صالحة، إن لم تساهم في بناء الأمة، إن لم توظف كمالها العلمي والخلقي والقلبي في صنع مستقبل أمتها، واكتفت بكونها معبرا لبروز الذرية ومحطة لمرورها”.[ref]عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، 2/ 194.[/ref]
بيت يقدر الآباء والأمهات ويرعى برهم بالإحسان وخفض الجناح والتقدير والتعظيم وحفظ الحرمة، والتلطف وخفض الصوت، والرفق وإدخال السرور ولزوم الطاعة… “نستمع إلى كلمة الحق، راجعين من الجدل الهوسي، في وصية الله ورسوله بالأم. قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ”(لقمان:13). وقال جل من قائل: “ووَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(الأحقاف:14). المسلمون لله هم المنتصحون بنصيحة رسول الله، العاملون بوصية شكر من حملت على وَهن وكَره، وأرضعت، وغذّت، ونظفت، حتى بلغ أشُدَّه المسلم، وبلغت أشُدَّها المسلمة، دعا الله ودعت لمن ولداها وربياها، وسألته الصلاح في ذريتها ليتصل نسب الدين من جيل لجيل كما هو متصل نسب الطين. وصية القرآن ذكرت الوالدين وفريضة الإحسان إليهما إجمالا، ثم فصّلَت وذكَّرت وأطْنبت في الأم ترجيحا لحقها وتقديما”.[ref]عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، 2/211.[/ref]
أسرة تحترم فيها العلاقات وتقدر الحموات: “محظوظة من لها حماة عاقلة فاضلة. وأنت حماة الغد، لا تعجلي. كوني لها بنتا محبة تكن لك أما. كوني عاقلة تكن فاضلة. بكياستك وأدبك ولطفك حصِّليها في أسْرك”، [ref]المرجع نفسه، 2/235.[/ref] وإن ساء أدبها أو طغت عليها أخلاق الجفاء: “إن معاناة الأحماء والعجوز الأمية ليست أقل وطأة من معاناة طباع الزوج، ولا الكياسة معهم أقل تعيينا من الكياسة معه”.[ref]المرجع نفسه، 2/206.[/ref]
أسرة يُحسن فيها إلى ذوي الرحم، بل أسرة تجعل الإحسان مطمعا تصبو إليه، لتنعم هنا بالحياة الأسرية المستقرة الدافئة، وهناك بالعطاء الرباني الجزيل في رحاب الخلد عند المليك المقتدر، إنه من كمال الإحسان بر الأقارب، أقارب كل منهما لتصفو العلاقات وتسمو عن كل المكدرات والمفترات. حري بالزوجين المؤمنين ألا ينسيا أن الدعوة التي يرومانها، ونور هذا الدين الذي يرجوان تبليغه، الأقارب مادته الأولى وتُربته الخصبة، حتى لا تخسر الدعوة أقرب المقربين، وحتى يعلم الكل أن الإسلام رحمة ورفق وتعايش وسماحة.
على المؤمنين والمؤمنات أن يحرصوا على التماس السبل التي ترقى بعلاقاتهم الأسرية والزواجية حتى تحقق جليل معاني الميثاق الغليظ والأمانة الربانية، وحتى يتحولوا بنياتهم من عادة الارتباط المألوف إلى آفاق الارتباط بالله سيرا إلى الله، ولتكون علاقاتهم الزوجية مما يقرب إلى الله زلفى، ومما يراعى فيه تبعات الميثاق الغليظ، وتكتسي كل أعمالهم في ظلها صبغة العبادة المراد بها وجه الله سبحانه. إنه الالتقاء في الله، التقاء الطيبات بالطيبين والطيبين بالطيبات في زواج إسلامي، توحدهم أواصر الاجتماع على الله، وينصهرون في أجواء الرحمة والمودة والإحسان، وتجمل العلاقات ويثمر النبت وتختم هذه الرحلة بتلك السعادة الأبدية الموعودة.
من هنا تكون البداية، بداية رحلة جميلة زادها الرحمة والتواد، ومحركها أعمال البر والإحسان ومنتهاها مستقر الكرامة عند مليك مقتدر. ينبعث كل منهما بكل ثقة وصدق ليرضي الآخر ويلبي احتياجاته، ويرفق به ويحسن إليه ويقيهما معا التطلعُ إلى مقامات الإحسان المشاحةَ والمخاصمة على الحقوق. “تَوَّج الإحسان العدل وتخلله وسكن بين ضلوعه، فالمرأة الزوج تصبر عن بعض حقها إحسانا واحتسابا، والزوج الرجل يجتهد ليوفيها حقها ويزيد خوفا من الله ورجاء في مثوبته وقربه. إن كان العدل يسوي كفتين تنظر إحداهما إلى الأخرى على صعيد بشري، فالإحسان يرفع نظر الزوج وزوجه إلى الأعالي”.[ref]عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، 1/217.[/ref]
هو لقاء على أساس متين، واجتماع على الذكر، وتنافس على الخير. إن الله عز وجل يختار من عباده من يشاء لما يشاء، يكون الزوجان المؤمنان منبعا لكل نبت طيب إن كان لهما في أرض التقوى قدم راسخ، وفي سماء العبودية بدر طالع، تتوطد هذه العلاقة بدعاء الرابطة يدعو فيه بعضهما لبعض كما للأنبياء عليهم السلام والصالحين والصالحات سلفا وخلفا، والوالدين والأقربين والذرية… مما يقوي الله به رباطهما، ويزيل رعونات نفسيهما، ويسلكهما كرما منه ورحمة في سلسلة نورانية موصولة بالأنبياء والأولياء والأتقياء. تقترن التربية مع المروءة فيهما، والمودة مع التراحم فينعمان ويفيضان على من حولهما من نهر جوادٍ لا ينضب، ومعين ترَّار لا ينقطع، محبة وإحسانا ودعوة ورسوخ قدم في زمن التغيير والبناء وبإعداد قوي لغد الإسلام الموعود.
من يحيي في النفوس أنوار التنزيل لتعلم أن الأمر فصل وليس بالهزل، ولتعلم أن الله عز وجل إذا كان قد سمع من فوق سبع سماوات شكوى المشتكية من عسف الزوج الذي أكل مالها وأفنى شبابها ونثرت له بطنها، حتى إذا كبر سنها وانقطع ولدها ظاهرها، [ref]قالت عائشة رضي الله عنها: “تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول الله، أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات “قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله”(المجادلة:1) أخرجه ابن ماجة في سننه، كِتَاب الطَّلَاقِ، بَاب الظِّهَارِ، رقم 2053. [/ref]وأن رسول الله قد قال للذي جاءه يشكو قرابة إذا وصلها قطعته وإذا أحسن إليها أساءت إليه، وإذا حلم عليه جهلت عليه: “لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهم المـَـلّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك” [ref]مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، رقم 2558، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلُم عنهم ويجهلون عليّ، فقال صلى الله عليه وسلم: “”لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهم المَلّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك” والملّ الرماد الحارّ.[/ref] أدركت أن الأمر يستحق تصحيح الفهم وعقد العزم على الإحسان كل الإحسان. من يقرأ على النشء أن الله تعالى لا يقبل عدلا ممن لا يحسن لوالديه، من يخبر الأسر أن صلة الأرحام وإحسان العلاقات وإكرام ذوي القربى مكفرات للذنوب، منسئات للآجال. فليتق الله تعالى الناس أن يقوضوا بناء الأسرة، منبت الذرية ومستقر الدعوة.
والحمد الله رب العالمين.
أضف تعليقك (0 )