إن السلطان في أدبيات “الأحكام السلطانية” هو حارس للدين، وهو المقيم لأحكام الله تعالى في الأمة، والسائس لها بقواعد الشريعة، وهذا ما نص عليه الدستور المغربي في الفصل 19 حيث قال:الملك: أمير المؤمنين، والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها، وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين)، وجاء في الرسالة الملكية للمشاركين في الدورة الوطنية الأولى للقاء سيدي شيكر للمنتسبين للتصوف يوم 19 شتنبر 2008 ما يلي:وحينما أضفينا سابغ رعايتنا السامية على اللقاء الأول من لقاءات سيدي شيكر العالمية للمنتسبين إلى التصوف، فقد أبينا إلا أن نؤكد حرص جلالتنا الشريفة على صيانة القيم السامية، والمثل العليا، والتي التزم بها سلفنا الصالح في هذا البلد الأمين، والنهوض بما طوقنا الله به من أمانة إمارة المؤمنين، القائمة على رعاية شؤون الدين).فكيف يحمى الدين في نظام الملك؟ وما تجليات هذه الرعاية للدين؟.
إقامة الدين
إن إقامة الدين وحمايته هو الضامن لاستمرار الإمارة، فقد قال صلى الله عليه وسلم:“إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ” [ref]البخاري كتاب الأحكام باب الأمراء من قريش رقم 7139[/ref] .
إن الدين بمعناه الشامل جامع لأصول الشرائع وفروعها، متضمن لما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة، ولسلوك الخلق أفرادا وجماعات، فهو إسلام وإيمان وإحسان كما جاء تعريفه في حديث جبريل عليه السلام، وهو أحد الضرورياتالتي لا يستقيم النظام باختلالها، بحيث إذا انخرمت تؤول حالة الأمة إلى فساد وتلاش) [ref]مقاصد الشريعة ص: 76.[/ref] كما قال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله.
والدين إن كان قائما في الأمة وجب حمايته والـمحافظة عليه من قبل الإمام، وإلا وجب طلب إقامته ثـم حفظه بعد ذلك، إذ لا يـمكن حفظ ما ليس بقائم.
والمحافظة على الدين تكون من جانب الوجود ومن جانب العدم :
فحفظ الدين من جانب الوجود يعني إقامة الإسلام بأركانه، والإيمان بشعبه، وحفز الناس على بلوغ درجات الإحسان: إتقانا للعمل، وإيقانا في الله تعالى وموعوده، وحمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها) [ref]مقدمة ابن خلدون ص: 244.[/ref] .
وحفظ الدين من جانب العدم يعني درأ:الاختلال الواقع أو المتوقع) [ref]الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي ص: 221.[/ref] فيه لعموم الأمة وآحادها، ودفع ما يفسد اعتقاد الفرد وينقض أصول الدين القطعية بالنسبة للأمة، وهذا ما تنص عليه المراسيم الملكية والظهائر الأميرية، حيث جاء في ديباجة الظهير المتعلق بالرابطة المحمدية للعلماء ما يلي:وقياما بالأمانة المنوطة بنا بوصفنا أميرا للمؤمنين، وما تستلزمه الإمامة العظمى من واجب حراسة الدين وإقامة شعائره وشرائعه، وتمنيع قيمه ومكارمه مما قد يلابسها من ذرائع الزيغ والانحراف أو شوائب التنطع والابتداع؛ واستكمالا لحلقات مسلسل إصلاح الشأن الديني الذي جعلناه في صدارة اهتماماتنا وثابتا من ثوابت سياستنا؛ ورغبة في ترشيد عمل علمائنا الأجلاء، وتنظيم جهودهم، وتنسيق أعمالهم الخيرة حتى يكونوا جبهة واحدة موحدة، وصفا متراصا في مجاهدة الضلال والجحود، ومنازلة التطرف والجمود…) [ref]رقم 1.05.210 الصادر في 15 من محرم 1427 (14 فبراير 2006) [/ref] .
أسئلة ضرورية
فهل شعائر الدين وشرائعه قائمة ومحروسة في بلدنا؟ وهل الإمارة تذب عن الدين البدع والضلالات، وتتصدى للزيغ والانحراف؟ وحتى إن تصدت لمن تعتقده زائغا أو منحرفا أو ذا شبهة في الدين، فهل تحاور كل أولئك لردهم إلى الصواب بالحجة والدليل؟، فكم هي الاتجاهات الضالة التي تدعو إلى الإباحية والإلحاد والحرية غير المنضبطة بوازع الخلق والقيم، لكن لا نرى ” إمارة المؤمنين” تـحملها على النظر الشرعي، بل قد تفتح لها السلطة السياسية الأبواب مشرعة كي تدعو إلى بدعتها ولتنشر نحلتها، في حين توصد الأبواب أمام الداعين إلى إقامة العدل ونشر الفضيلة، مع أن الظهير المتعلق بإعادة تنظيم المجالس العلمية ينص صراحة على أنه:بناء على مقتضيات الدستور التي تخول لجلالتنا بصفتنا أمير المؤمنين واجب السهر على حماية وصون القيم والتعاليم الإسلامية للمغاربة المسلمين، فيما يتصل بصون عقيدتهم، وممارسة شعائرهم بما ينسجم مع روح ديننا الإسلامي الأصيل، ويتماشى مع نهج أسلافنا المنعمين من عقيدة أشعرية ومذهب مالكي وصوفية سنية) [ref]رقم 1.08.16 الصادر في 20 شوال 1429 (20 أكتوبر 2008) [/ref] .
إن مما يندرج في الحفظ العدمي للدين عند المؤسسة الملكية، القيام بإحداث هيأة علمية مكلفة بالفتوى، فقد جاء في الخطاب الملكي لافتتاح الدورة الأولى لأعمال المجلس العلمي الأعلى:وتفعيلا لتوجيهاتنا السامية، بشأن تحديد مرجعية الفتوى، التي هي منوطة بإمارة المؤمنين، أحدثنا هيئة علمية داخل المجلس العلمي الأعلى، لاقتراح الفتاوى على جلالتنا، وفيما يتعلق بالنوازل التي تتطلب الحكم الشرعي المناسب لها، قطعا لدابر الفتنة والبلبلة في الشؤون الدينية، وإننا لننتظر منكم أن تجعلوا من هيئة الفتوى آلية لتفعيل الاجتهاد الديني، الذي تميز به المغرب على مر العصور، في اعتماده على أصول المذهب المالكي، ولاسيما قاعدة المصالح المرسلة، وقيامه على المزاوجة الخلاقة، بين الأنظار الفقهية والخبرة الميدانية. وبذلكم نقوم بتحصين الفتوى، التي هي أحد مقومات الشأن الديني، بجعلها عملا مؤسسيا، واجتهادا جماعيا، لا مجال فيه لأدعياء المعرفة بالدين، ولتطاول السفهاء والمشعوذين، ولا للمزاعم الافترائية الفردية) [ref]القصر الملكي بفاس في 08 يوليوز 2005.[/ref] ، وفي خطاب ملكي آخر موجه للمجلس العلمي الأعلى جاء فيه:وفي نفس السياق، أقمنا هيأة مرجعية تختص وحدها بإصدار الفتاوى الشرعية، صيانة لها من تطاول الخارجين عن الإطار المؤسسي الشرعي، لإمارة المؤمنين، الذي نحن مؤتمنون عليه) [ref]بتطوان 27 شتنبر 2008 [/ref] .
والمقصد من إحداث هذه الهيأة كما جاء في الخطابين الملكيين : سد الذريعة “أمام أدعياء المعرفة والدين”، وصيانة الفتوى “من تطاول الخارجين عن الإطار المؤسسي الشرعي، لإمارة المؤمنين”، وبذلك أُبعِد عدد من العلماء وأصحاب الشهادات التخصصية العليا في علوم الشريعة ممن يرفضون احتكار الدين في يد واحدة فهما وتطبيقا.
إن الهيأة مقتصر عملها على اقتراح الفتوى على إمارة المؤمنين، ولا حق لها في الحسم فيها أو متابعة تطبيقها أو قبولها وردها؛ لأن ذلك ليس من اختصاصها، بل من اختصاص الحارس للدين ومؤسسات الدولة، وهذا أمر منسجم مع وظيفة العلماء التي خُطَّت لهم وجعلتهم مـجرد خبراء في دولة إمارة المؤمنين.
“الخبراء الشرعيون” والمجتهدون الأحرار
وهكذا انتقلت وظيفة الإفتاء ذات الطابع الاجتهادي التحرري والمستقل إلى مؤسسة إدارية منتظمة ضمن قوانين الدولة، تتحكم فيها كيف تريد، وبالصيغة المرضية لديها.
فهل يستطيع هؤلاء “الخبراء الشرعيون” البوح بالحق والصدع به في فتاويهم وإن خالفت سياسة إمارة المؤمنين؟ ويلحقوا بركب زمرة من علماء المغرب الذين أفتوا في مواطن تتعلق بالشأن العام مع ما لا يشتهيه سلاطين الوقت انتصارا للحق؟.
فهذا أبو عبد الله محمد بن أبي الحسن المعروف بالحاج الأغصاوي، وهو من رجال الفقه والتصوف في العصر السعدي، قتله محمد الشيخ المأمون ضربا بسبب فتواه المعارضة لتسليم مدينة العرائش للإسبان. وأفتى أبو العباس أحمد بن زكري في صلح انعقد بين السلطان والعدوِّ لمدة تزيد عن عشرين سنة أنه غير ماض؛ لـما فيه من تَقَوِّي العدو وضعف المسلمين في تلك المدة، وذهب إلى أن غاية ما يقع الصلح فيه بين المسلمين وعدوهم السنتان والثلاث [ref]ينظر المعيار الجديد 3/42-43.[/ref] وأفتى أبو محمد عبد السلام بن حمدون جسوس بعدم جواز تمليك “الحراطين” وإدماجهم في جيش السلطان المولى إسماعيل، الذي كان يروم تأسيس مخزن قوي يلجم به الأفواه، وتكون له السلطة المطلقة القائمة على البطش والعنف، حيث سعى إلى تأسيس جيش من “البخاريين” من ذوي البشرة الحمراء، فعارضه عدد من العلماء منهم جسوس، وأصر على المعارضة، فنكل به، وصودرت أملاكه، ثم اغتيل في معتقله. وقبل استشهاده رحمه الله كتب رقعة أذاعها في الناس يقول فيها:الحمد لله، يشهد الواضع اسمه على نفسه، ويشهد الله تعالى وملائكته وجميع خلقه أني ما امتنعت من الموافقة على تمليك من مُلِّكَ من العبيد إلا لأني لم أجد له وجها ولا مسلكا ولا رخصة في الشرع، وأني إن وافقت عليه طوعا أو كرها فقد خنت الله ورسوله والشرع، وخفت من الخلود في النار بسببه، وأيضا فإني نظرت في الموجب الشرعي في أخبار الأئمة المتقدمين حيث أكرهوا على ما لم يظهر لهم وجهه في الشرع، فرأيتهم ما آثروا أموالهم ولا أبدانهم على دينهم خوفا منهم على تغيير الشرع واغترار الخلق بهم، ومن ظن بي غير ذلك وافترى عليّ ما لم أقله وما لم أفعله، فالله الموعد بيني وبينه، وحسبنا الله ونعم الوكيل) [ref]الاستقصا 3/68 – 69.[/ref] .
لقد آثر الفقيه جسوس ما عند الله على ما عند الناس، واختار أن يدرج مع الشهداء إيقانا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:“سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قال إلى إمام جائر فأمره و نهاه فقتله” [ref]مستدرك الحاكم رقم الحديث 4884[/ref] . ومنهم من عزل عن القضاء والفتوى، ومنهم من أُخذ بفتواه على قوتها ومعارضتها للأمير، فهذا محمد بن يحيى بن الفراء يرد على يوسف بن تاشفين طلَبه الـمعونةَ [ref]هو الـمال الذي قد يُضطر الحاكم إلى أخذه من الرعية سوى الزكاة لتجهيز الجيوش[/ref] فقبل أمير المسلمين بفتواه و لـم يُعِدْ عليه في ذلك قولا، وذلك بعد أن أفتاه الباجي والقضاة والفقهاء بالعدوةِ والأندلس بجواز ذلك [ref]ينظر تفصيل ذلك في الاستقصا 1/216.[/ref] .
ومما ينبغي الإلـماع إليه في هذا الصدد، تبيانا لقوة الفقهاء المالكية في تمسكهم بفقه إمامهم، وعدم الانصياع لهوى الحكام ورغباتهم، أن السلطان الناصر احتاج إلى شراء أرض من أحباس المرضى بقرطبة:فتشكّى إلى القاضي ابن بقي أمرَه وضرورته إليه، لمقابلته منتزهه وباديته فيهم…، فقال له ابن بقي: لا حيلة عندي، وهو أولى بحفظ حرمة الحُبُس. فقال له: تكلم مع الفقهاء فيه، وعرّفهم رغبتي. وما أبذله من أضعاف القيمة فيه، فلعلهم يجدوا في ذلك رخصة، فتكلم ابن بقي معهم، فلم يجعلوا إليه سبيلاً، وغضب الناصر عليهم، وأمر الوزراء بالتوجه إليهم في القصر وتوبيخهم ففعلوا، فلما وصلوا إلى بيت الوزارة بالقصر، انبرى لهم رجل جديد من الوزارة، فأفحش في خطابهم، وقال لهم: يقول لكم أمير المؤمنين: يا مشيخة السوء، يا مستحلي أموال الناس، يا آكلي أموال اليتامى ظلماً، يا شهداء الزور، يا آخذي الرشا، وملقني الخصوم، وملحقي الشرور، وملبّسي الأمور، وملتمسي الروايات لاتباع الشهوات، تبّاً لكم ولرأيكم، فهو أعزه الله واقف على فسوقكم قديماً، وخدعكم حديثاً، مغضٍ عنه، صابر عليه. ثم احتاج الى دقة نظركم في حاجة، مرة في عمره، فلم يسع نظركم للتحمّل له، ما كان هذا ظنه بكم، والله ليعارضنّكم من يومه، وليكشفن ستوركم، وليناصحنّ الإسلام فيكم) [ref]ترتيب المدارك، 1/399 بتصرف[/ref] ،فردوا على الوزير ردا قويا، ثم انصرفوا ولم يبعدوا إلا قليلا حتى جاء رسول السلطان في أثرهم:يصرفهم إلى مواضعهم من بيت الوزراء، فلقوهم بالإعظام والاعتذار، مما كان من قول الوزير. وقال لهم إن الأمير الناصر يعتذر إليكم، ويعلمكم بندمه على ما فرط منه، وأنه متبصر في أعذاركم) [ref]ترتيب المدارك، 1/399 بتصرف[/ref] .
هل يعد كل أولئك من المشوشين على الدولة، و”أدعياء المعرفة والدين”، وهم من هم في أقوامهم، وقد عرفوا عند الناس بالصدق والأمانة، والدين والصيانة، دؤوبين على نشر العلم والفضيلة، قوالين للحق؟ وهل ما أفتى فيه هؤلاء يعد من قبيل الجزئيات المتعلقة بالأفراد؟ أم أن فتاويهم كانت في قضايا لهاتبعات كبرى على مستوى المجتمع) [ref]الدرس الحسني لسنة 1430 لوزير الأوقاف بعنوان : “النصيحة شرط في البيعة ص: 21[/ref] . إنهم أفتوا في السياسة الداخلية والخارجية للدولة، وتلك أمور كلية تبقى مصلحة المجتمع مرهونة بها.
إن العلماء الذين أخذ الله عليهم الميثاق، ورزقوا شجاعة على قول الحق، وأرادوا تبليغ رسالات الله، وهم يخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله، لا يـمكنهم السكوت على الباطل، كان ذلك في السياسة أو الاقتصاد أو الحريات العامة.
والله الموفق والهادي إلى الصواب.تاريخ النشر: 20 ماي 2011
أضف تعليقك (0 )