ظهرت في زماننا دعوات فكرية تدّعي التمسك بالقرآن دون السُّنة! تفصل بين القرآن والنبوة، وتعتبر خَتم النبوة رفعاً للسنة النبوية وتدعوا إلى الاكتفاء بالقرآن وحده، وإعمال العقل فيه، حتى سُمي هؤلاء بـ”القرآنيين”! وهي تسمية في نظرنا وُضعت في غير موضعها، إذ القرآن نفسه بريء من هذا الفصل الشيطاني الذي يستغني بالعقل عن النبوة، وبالمنهج العقلاني عن المنهاج النبوي. وقد تصدى الأستاذ ياسين لمثل هذه الدعوات معتبرا أن النبوة وحي من الوحي، نورها من نوره، مصدرها من مصدره، وليست على هامشه ولا اجتهادا من البشر بحوله وحيلته. قال الله تعالى :﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (الشورى: 52)، فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم “عبدٌ لا يُشرِّع مِن عنده، وإن خَطط فتطبيقٌ للوحي يَصحبه التوفيق الإلهي)“[1]، ما أحلَّه رسول الله مثل ما أحلَّ الله و”ما حَرَّم رسول الله مثل ما حرَّم الله)“[2].
النُّبوة روح من أمر الله ونور ورحمة وفضل، إذ “الوحي والرسالة مناطَ الإيمان كلّه)“[3]، بها نقتدي ومنها نتعلم وعلى نموذجها نسير، إذ “المنهاج اتباع، والاتباع هو السُّنَّة)“[4]، باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم نستلهم روح المنهاج بيضاء واضحة، صراطا مستقيما، ونحتمي من الوقوع في الآفات والانحرافات التاريخية التي وقعت فيها الأمة قديما وحديثا فأردتها شتاتا وقصعة تتداعى لها الأمم. والتحدي الذي يرفع في وجه المسلمين اليوم هو: تجسيدها في الواقع أخوة في المجتمع، وشورى في الحكم، وقوة في الاقتصاد، ورحمة في العالمين.
وقد بيَّن الأستاذ أن القرآن الكريم هو الذي يحرر العقل من عبوديته لنفسه وعبوديته لغيره من المخلوقات، كما يحرره من ثقافة التاريخ وتراث المتدينين ورواسب الجهل والغفلة والتحريف والتأويل المغرض، لكن ذلك لا يقع إلا لمن سمع القرآن لا لمن أعرض عنه، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾، ولقد “فتح الله بالقرآن قلوبا غلفا وعقولا كانت في جاهليتها في كنٍّ عن الهداية، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجيل المبارك الذي عاش في كنفه إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. كذلك بالقرآن يعيد الله ثاني الخلق المسلم كما بدأ أوله. وكذلك بمنهاجه صلى الله عليه وسلم يضع عنا وعن كل جيل يهتدي بهدي الوحي والنبوة ركام الذهنيات والعادات والأنانيات التي تغم النفوس والعقول وتحجبها عن نور الوحي. فتح الله تعالى بالقرآن والهدي النبوي آفاقا واسعة، وطرح على العقل الذي أسلم وصدق واتقى اقتراحات للتأمل والسير في الأرض والاعتبار بتاريخ الأمم. وعلمه ببيانه المعجز أن يعبر عن أدق خلجات نفسه وأرق حركاته الفكرية. خلجات النفس المومنة المصدقة المتقية، وحركات العقل المسلم المستنير بالوحي لا تدور حول سؤال “كيف”، بل تتلقى الجواب عن سؤال “لماذا”)[5]
بتدبر القرآن الكريم يفهم العقل المسلم عن الله تعالى تكليفه ونداءه، ويملك مفتاح التفكر والاعتبار والعلم والمعرفة، فيكتشف المنهاج النظري والعملي الذي به يُحلل ويرُكب ويُقوِّم ويسلك في الواقع المتغير، ويُنهض الإنسان ليقوم بواجبه الشرعي في الإصلاح والبناء والتدافع وإقامة العمران الإنساني الرحيم بالإنسانية، مقتحما كل العقبات النفسية والذهنية والاجتماعية والبيئية والسياسية، إذ المنهاج “مسلك يَعبر الدنيا بما فيها من قوى واصطدام واضطراب ونشاط ولا يتجنبها)“[6]، فهو منهاجُ عمل وليس منهاج كسل أو جدل، كما تسرب إلى تاريخ الأمة جراء انحطاطها واستضعافها.
أما النموذج والأسوة أمام اجتهاد العقل المسلم فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قام “قومةً شاملة ضد كل شرك وطغيان. كلمته الجامعة لا إله إلا الله، هي رفض للجاهلية والاستكبار”)[7]، ومعه سيرة الخلفاء الرشيدة وبعض الومضات المتفرقة من تاريخ الأمة. بالإضافة إلى ما أثلثه حكمة البشرية المشتركة من تطوير للنُّظم وتنظيم للحياة وتدبير للاختلاف، ثم لنا مستقبلا بِشارة الإخبار النبوي بعودة الخلافة على منهاج النبوة تطبيقًا تعزُّ فيه الأمة فينتصر الإسلام وينتشر -بعد عهود الـمُلْك القُروني المتردية- نور الهداية في العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – ياسين عبد السلام، القرآن والنبوة، ص: 13
[2] – سنن ابن ماجه، كتاب المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه، رقم الحديث:12. ولفظ الحديث هو: “يوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل ما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله”.
[3] – ياسين عبد السلام، القرآن والنبوة، ص: 13
[4] – نفس المرجع، ص: 36
[5] – ياسين عبد السلام، محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، الرباط، مؤسسة التغليف والطباعة والتوزيع للشمال، ط1، 1994م، ص:119
[6] – ياسين عبد السلام، القرآن والنبوة، ص: 12
[7] – نفس المرجع، ص: 47
أضف تعليقك (0 )