post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<h2>مقدمة:</h2>
العقلانية مذهب فلسفي يرى أن العقل هو المصدر المطلق للعلم والمعرفة، حيث &#8220;تجد العقلانية في الفيلسوف الـمُخرِّص والعالم الباحث صرامة المنهجية، وحياد العقل، وتحري النتائج المنطقية حسب المنطق المختار. وتفرض خاصة عزل العقل عن العاطفة. ومن تلك الصرامة وهذا العزل تولدت الحضارة المتحجرة اللاإنسانية التي يُسيطر بأسها على العالم اليوم. العقل غاية لنفسه، يتأمل ذاته بإعجاب وغرور في استدلالات الفيلسوف ومخترعات الباحث. ولا يبقى وقت ولا مكان ليسأل العقل نفسه من أنا ومن أين جئت وفيم كل هذا؟ ما خرج العقل العقلاني من تأمل الكون بدرس الذين يعقلون العقل المطلوب&#8221;[1].
<h2>الوحي والعقلانية</h2>
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون﴾ (البقرة: 164).
لا تقبل عقلانية الفيلسوف عموما أن &#8220;يعزل العقل نفسه&#8221; بعد أن يثبتَ لديه ضرورة خالقٍ لهذا الخلق، وجوازُ بِعثة الأنبيـاء، وحصول المعجزات في التاريخ تزكيَّة وتأييداً للنبـوءة والرسـالة. لا يدخل شيء من همِّ السؤال الوجودي: &#8220;من أنا؟&#8221; و&#8221;إلى أين؟&#8221; في حساب العقـلانية الفلسفية التي تعبد نفسها وتدور في رَحَا &#8220;المعرفة للمعرفة&#8221;، المعرفة من الحـس وفي الحس وإلى الحس. كل ما عدا الحسَّ عندها خيال وخبال.
ولا تميز العقلانية الفلسفية الغافلة عن الوحي بين الشك المنهجي في وجود الله وفي الدار الآخرة وبين الشك العلمي، شكِّ المكتشف الذي يباشر الأشياء ويجرب ويشك في نتائج التجربة ويتحقق ويراجع. منهجيةً واحدةً يُريدون: بَاردةً مسيطرةً واقعيةً وضعيةً لا تؤمن إلا بالحس، ترصده لا تَعْدُوه ولا تلتفت عنه ولا تسمع من غيره.[2]
وعيا بخطورة ترجمة المصطلحات والمفاهيم من لغة إلى لغة يُنبه الأستاذ عبد السلام ياسين إلى ضرورة التمييز بين عقلانيتين: لهما معنيان مترجمان &#8220;متداخلان لَفظاً متباينان دَلاَلَةً. فإذا تُرجما إلى العربية بكلمة واحدة اكتَظَّ التداخلُ واختفى التبايُن. ولذلك يصعب الحِوارُ بالعربية بين عَرَبٍ يفكرون كما يفكر الأوروبيون لكنهم لا يعطون لكلمة &#8220;عقلانية&#8221; مترجمةً إلا مدلولاً واحداً عناداً وتدليسا، وعَرَبٍ يسألون الكلمةَ الواردة الغازية المتلبِّسة باللفظ العربي عن أصلها وفصلها ليحاوروا الناس بأمانَةٍ&#8221;[3].
ماذا تعني العقلانية؟ &#8220;ما أصلها وفصلها ونشأتها وتطورها في الفكر الـمُغَذّي بواطن بعض الناس؟ خاصة ما هي العقلانية التي نرفضها، وما هي العقلانية المرادفة للحكمة العملية العلومية التي هي حاجة العقلاء من الناس.&#8221;[4]
<h2>راسْينالِتي (Rationalité)</h2>
&#8220;راسْينالِتي&#8221; صفة ما هو &#8220;راسْيُنْلِ&#8221;، و&#8221;الراسيُنِلْ&#8221; هو ما يعتمد على العقل لا على العفوية والعشوائية. فـ&#8221;العقلانية بالمعنى غير الإديولوجي &#8230;هي الطرائق الجديدة التي يبتدعها الإنسان على صعيد الواقع أو النظرية لتحسين مردودية جهده ورفع فعاليته&#8230;العقلانية هي ببساطة القدرة على الترشيد في العمل والنظر الإنسانيين، وهي القدرة الناجمة عن تراكم الخبرة البشرية والحضارية&#8221;[5]، و&#8221;الراسيُنِلْ&#8221; ما هو مطابق لمقتضى العقل والحكمة العملية. يقول العقلاني بسيادة العقل &#8220;في مجال تدبير المعاش وترتيب الحاجات البشرية من إدارة واقتصاد وصناعة، فنسير معه مقتنعين أن العقل المعاشي حظ مشترك بين البشر، وآلة يتفاضل في امتلاكها الأفراد والشعوب، مصقولة عند أولئك مهملة صدئة متخلفة عند هؤلاء. والعقلانية بهذا المعنى لا يرفضها عاقل، إذ إن &#8220;إعمال العقل في النص ضرورة حياتية لاستمرار حياة الناس المتجددة وبقاء إيمانهم بالإسلام وبفاعليته&#8221;[6].
ونعترف أننا -معشر المسلمين-من &#8220;هؤلاء&#8221;، وأن من أشد ما نحتاج إلى استرداده العقل العلمي التجريبي الذي كان بين أيدي أجدادنا، ساهموا في تشييد صرح العلوم وأخذوا وأعطوا. فنحن نتعلم مما تأثل عند البشرية من هذه المكتسبات العقلية العلمية بلا تردد ولا شعور بالنقص، رائدنا في ذلك أن نستعمل هذه النعمة التي أنعم الله بها على الخلق لعمل الصالحات لا للتدمير، لنفع الخلق لا لبث القطيعة بينهم، لرفع راية الأخوة بين بني الإنسان لا لصنع الموت والكراهية. بهذا أمر الله، ولهذا جعل لنا عقولا.&#8221;[7]
&#8220;فالعقلانية بهذا المعنى العملي المعتمِد على العقل والحكمة لا على العفوية والعشوائيةِ مطلَبُ كل عاقِل، وعِمادُ كلِّ تَصَرُّفٍ يُصنّفُكَ مع العقلاء لا مع المخبولين.
     فإذا أخْدَمنا العقلانيةَ بهذا المعنى في مجالها العملي، وهو دوائرُ معاش الإنسان على الأرض، ودوائرُ كسبِه الرزْقَ، وإدارتِه الاقتصادَ، واختراعِه الآلاتِ، وقياسِه المسافات، وصنْعِهِ من الأَرفاق ما يجْعلَ الحياةَ رَخاءً، فنحن وغيرُنا عقلانيون بنفس المعنى. وإذا صرَّفْنا الذكاء العقلانيّ -بمعنى الحكمة العملية- في فنون العلوم النظرية والتطبيقية من رياضيات وفزيقا وكيمياء ومكانيكا، أو في مُرَكَّباتٍ علومِية كما هي مُرَكبةٌ في عصرنا التطبيقاتُ الكَهْرُمغناطيسية، والديناميكياتُ الحرارية والفضائية، والمعلوميات، والسِبِرْنِيقيَّات، والفَلَكيات، وما إلى ذلك من عجائب التركيبات العقلانية، فَنَحنُ وغيرُنا أفْرَاسُ رِهانٍ: كنَّا والحمد لله، وسنصير إن شاء الله. كنا قبل اخْتراع كلمةِ &#8220;عقلانية&#8221;، وقبلَ ترجمتنا بهذه اللفظة لمطلوبٍ أكِيدٍ. ونصيرُ مستقبلا إن شاء الله، فما الذكاءُ والعقلُ الباحِثُ المخترع حُكْر على جنسٍ من أجناس النوع البشريِّ. بلْ العقلانيَّةُ العلومية الفاعِلَةُ هي منذُ اليَوْمَ مِن أثْمَنِ مَا ينهبُه مِنا أقوياء العالم وأغنياؤه. يرجع النابغُ من شبابنا والنابغة ومعهما الشهادات العليا من أكبرِ جامعات العالم، فلا يجدون موْطِئَ قدمٍ ولُقْمَةَ عيش في بلدهم المنكوبِ بأدواءِ التخَلُّفِ العَامّ، وأدْواء التعفن الإداري، وأدواء المحسوبية والرشوة وهَدْر الكفاءات.
عقلانية نابغَةٌ، وأدمغةٌ ممتازةٌ يتلقَّفُها العالَم المصنَّعُ، ويَكفُلها، ويفتحُ أمامها فُرَصَ العمل، ومختًبراتِ البحثِ، وأمَلَ تحقيقِ الذاتِ. العالَم المصنّعُ النظيفُ الإدارةِ المهتبِلُ بالأدمِغَةِ النابهة، يعيشُ الحاضرَ ويهيئُ المستقبلَ، على اقتناع تامٍّ بأن الحاضِرَ والمستقبلَ لا يرفعان إلا أمة فِي حِرْزِها ومِلْكِها تكنولوجيا متطورة، وبحثٌ علومي يُمَوّلُ بسخاء، وباحثون علوميون يشعرون أنهم في بلدهم في الرَّحْبِ والسَّعَةِ ماديا ومعنويا وشَرَفا، وتعليمٌ يكون الأدمغة ويبثُّ روح العقلانية المتعلمة الصانعة&#8221;[8].
<h2>راسينالزم (Rationalisme)</h2>
ثانيا: &#8220;راسينالزم&#8221;: ويسميها بـ&#8221;العقلانية العاتية&#8221;، وهي عقلانية فلسفية تصرف العقل عن الوحي، بل تؤله العقل وتسيده، و&#8221;الإنسان مقياس كل شيء&#8221; كما قال بروتاغوراس قديما. فلا سماع للوحي ولا رجوع إليه ولا اعتداد بمنهاجه ومعرفته. تتجاسر هذه المذهبية الوضعانية، فتُصنف الوحي ضمن الظواهر المرضية البعيدة عن مجال المعرفة العلمية القريبة من الخرافة والأسطورة. كما ادعى فريدريك نيتشه وسيجموند فرويد وأوغست كونت وغيرهم. وبناء عليه التصقت العقلانية باللائكية واللادينية. ويظهر ذلك من خلال التعريفات التي ساقها الإمام للمفهوم:
&#8211; &#8220;هي مذهب فلسفي يقول: ليس هناك من شيء لا يدْركه العقل&#8221;.
&#8211; &#8220;هي مذهبية فلسفية تقول: لا ثقة بمعرفة لا تنبثق عن مسبقات عقلية عالمية ضرورية&#8221;.
&#8211; &#8220;هي مذهبية تعطي للعقْل الشُّفُوفَ على كل شيء&#8221;.
&#8211; &#8220;هي مذهبية ترفض كل تفسير غيبي للكون&#8221;[9].
والناظر في هذه التعريفات يتأكد من أن مفهوم العقلانية يحمل معه جذورا إلحادية تعادي الدين وتنكر الغيب، أو تحافظ عليه بوصفه قطعة ميتة من التراث، وفي نفس الوقت تحافظ على تلبسها بالعقلانية التدبيرية، حتى يتبدى للناس وجهها الإيجابي في الحياة ويحسبون أن نجاعتها في قطيعتها مع الدين. لذلك يسهل استنتاج الفكرة التي تقول: &#8220;فصل الدين عن الدنيا باب من أبواب العقلانية، بل شرط من شروطها&#8221;[10]
هذا الفصل الإديولوجي غير العلمي يبين أن العقلانية الفلسفية &#8220;مذهبية وفلسفة هي، لا منهجية علومية&#8221;[11]، وليكشف &#8220;مواطن التدليس في خطاب مَن يتهمنا بمعاداة العقلانية، ثم لا يسمحون ولا ينتظِرون أن يعرفَ الناس عن أي شيء نتَحدَّثُ ويتحدثون. ذلك أن اللُّغَة العربيَّة الصافية في الخطاب القرآني، الحيَّة بحياة القرآن ومفاهيم القرآن، سكنتها شياطينُ اللغة الأجنبية المبتورَةِ أصْلاً، الباتِرَة القاطعةِ وظيفةً&#8221;[12]، وسلمتها لمسلمات عدمية مزقت الإنسان وأردته دابة تلتهم الطعام والشراب وتتناسى الموت، وما يضيره إن كان حلقة في سلسلة النشوء والتطور الداروينية؟[13]
<h2>عقلانية صماء</h2>
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ (البقرة: 18). هكذا وصف الله تعالى المنافقين في كتابه: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 171)،  ليس ذلك لأن المنافقين لا يَبُزُّونَ غيرهم في مكتسبات العقل المعاشي إن هم اجتهدوا وقعد المؤمنون، لكن لأنهم لا يرجعون إلى الصواب الذي نزل به الوحي. لا يفيقون من سكرة غرورهم ليطرحوا على أنفسهم السؤال الحق الذي تفرضه على العقلاء حقيقة لا جدال فيها عند العقلاء وهو ضرورة وجود صانع قدير لهذا المصنوع العجيب الذي هو الإنسان الطائف بأرجاء الكون، مَن صنعه؟ المكتشف لقوانين بها يستقر نظام الكون، مَن وضعها؟ المطلع على أسرار نواميس في الذرة فما فوقها فما دونها، من فعل ذلك؟
العقلانية الملحدة أغْبَى ما خلق الله. ومن آياته العظمى سبحانه أن وضع على عين من يشاء غشاوة الكفر والنفاق، فلا يبصر النور الساطع الباهر البديهي الفطري. يا لصرامة منهجية من يبني نظامه المعرفي على طرد صوت الفطرة وإسكات السؤال الوجودي!&#8221;[14]، و&#8221;ما أعظمَه ذنباً ذنب العقلِ الذبابةِ يأكلُ من زرق الله، ويكفر نِعَم الله ويكفر بالله. يتتلمذُ لنواميسَ وضعها خالق الكون في الكون، فينْفُذ إلى أسرار في الكون بعضُها أغربُ من بعض، ثم لا يعترف بما يراه العقلُ الفطري بديهة. وهو وجود خالق قادر حكيم. ما أعظمَه ذنباً ذنب العَقل الجاحد الذي زوّده الله بفطرة سليمةٍ جمعاء، جدَّعتها تربية مضادة، ورانَ عليها غليظٌ كثيف من عقلانية ملحدة&#8221;[15].
        بهذه الرؤية تتقلص قيمة التصور الوضعي الغافل والتصور السببـي الصارم للعقل والعقلانية أمام الوحي وهو يحدد الغاية من خلق الخلق، ومسيرة الإنسان الكادح في الدنيا ومصيره الراجع إلى الحق، وينفي الصدفة والعبثية والغفلة التي أعمت العقل المعاشي عن النظر الاعتباري في الملكوت، والنظر الاجتهادي فيما يعرض للناس من أقضية ونوازل، في إطار الشريعة القرآنية النبوية لا خارجها، ذلك أن &#8220;الشريعة هي المصلحة وفي حدودها يجتهد العقل.&#8221;[16]
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
&nbsp;
<hr />
[1]- ياسين، عبد السلام. القرآن والنبوة، ص:23، 24 [2] &#8211; ياسين، عبد السلام. العدل؛ الإسلاميون والحكم، ص 537-538 [3]- ياسين، عبد السلام. حوار الماضي والمستقبل، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1997م ص:146 [4]- المرجع نفسه، ص 20. [5]- برهان، غليون. العقلانية ونقد العقل، مجلة الوحدة، عدد:51، 1409هـ/1988م، ص:104 [6]- فضل الله، مهدي. العقل والشريعة، دار الطليعة، بيروت، ط 1، 1995، ص: 16 [7]- ياسين، عبد السلام. حوار مع الفضلاء، ص 41 [8]- ياسين، عبد السلام. حوار الماضي والمستقبل، ص:146-147 [9]- المرجع نفسه، ص:149 [10]- المرجع نفسه، ص: 144 [11]- المرجع نفسه، ص:149 [12]- المرجع نفسه، ص:149 [13]- ياسين، عبد السلام. الإسلام والحداثة، مطبوعات الهلال، وجدة، ط 1، 2000، ص:155 [14]- ياسين، عبد السلام. حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص:42،43،44 [15]- المرجع نفسه، ص:140 [16] &#8211; ياسين، عبد السلام. العدل؛ الإسلاميون والحكم، ص:144

النبي أولى بالمومنين من أنفسهم

العقلانية عقلانيات

ثلاثيات المنهاج النبوي

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

قضايا فكرية

العقلانية عقلانيات

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

مقالنا: بيان وبنيان

المجموع: اتباع عملي متوازن

الاعتكاف إقبال فردي جماعي على الله

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

الأستاذ أحمد الملاخ ثالث ثلاثة

همُّ الآخرة هو البداية الصحيحة

مقالات ذات صلة