مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

تمهيد
مقدمة
ذكر الموت والترغيب في الإكثار من ذكره
فضل ذكر الموت
بيان الطريق في تحقيق ذكر الموت
فضيلة قصر الأمل
بيان أقاويل جماعة من خصوص الصالحين عند الاحتضار
أقاويل العارفين على الجنائز والمقابر
حال القبر وأقاويلهم عند القبور
أبيات وجدت مكتوبة على القبور

من كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رحمه الله

الجزء الرابع
من الصفحة 448 إلى الصفحة 456
ومن الصفحة 481 إلى الصفحة 489

رابط تحميل المختارة

تمهيــد

من هدي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل جوهر دعوته المنيفة ولبها، التذكير باليوم الآخر وبلقاء الله سبحانه، والحض على التفكر الدائم في الجسر المفضي إلى دار الخلود: الموت. كان ذلك دأبه عليه الصلاة والسلام في الجماعات والجمع والأعياد، يقرأ على الصحب الكرام -عليهم من الله الرضى والرضوان- آيات المصير، ويرفع الهمم لحث المسير.

ففي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: “لقد كان تنُّورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين -أو سنة وبعض سنة- وما أخذت “ق والقرآن المجيد” إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس”.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقدٍ الليثي ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال: “كان يقرأ فيهما بــــ”ق والقرآن المجيد” و”اقتربت الساعة وانشق القمر”.

وعن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـــ”ق والقرآن المجيد” وكانت صلاته بعد تخفيفا.

و”ق” و”اقتربت الساعة” كلهما ذكر للموت وللدار الآخرة وتشويق لــ ﴿جَنَّات وَنَهَر عِندَ مَليكٍ مُقتَدِر﴾.

فالعبرة الكبرى من العيد التذكُّر والتذكير بالعيد الأعظم لقاء الرب الكريم الرحمن الرحيم.

وصم يومك الأدنى لعلك في غد
تفوز بعيد الفطر والناس صُوَّمُ
وحي على السوق الذي فيه يلتقي الْــ
ـمحبون ذاك السوق للقوم يُعلَمُ
يرون به الرحمن -جل جلاله
كرؤية بدر التَّمِّ لا يُتوهَّمُ

فقلوب إلى ربها منتهى اشتياقها لا تجد في ذكر الموت هاذم لذاتها إلا طمأنينة ورَوْحا لأرواحها، إنه بحق كما قال إمام العارفين صلى الله عليه وسلم: “تحفة المؤمن الموت”.

ونترككم إخوتنا وأخواتنا مع علم من أفراد هذه الأمة ممن أحسن وأجاد في ترقيق القلوب بالتذكير بالمعاد الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله وأحسن إليه.

مقدمــة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي قصم بالموت رقاب الجبابرة، وكسر به ظهور الأكاسرة، وقصر به آمال القياصرة، الذين لم تزل قلوبهم عن ذكر الموت نافرة، حتى جاءهم الوعد الحق فأرداهم في الحافرة، فنقلوا من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في التراب، ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة، ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل، فانظر هل وجدوا من الموت حصنا وعزا، واتخذوا من دونه حجابا وحرزا؟ وانظر هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟ فسبحان من انفرد بالقهر والاستيلاء، واستأثر باستحقاق البقاء، وأذل أصناف الخلق بما كتب عليهم من الفناء، ثم جعل الموت مخلصا للأتقياء، وموعدا في حقهم للقاء، وجعل القبر سجنا للأشقياء، وحبسا ضيقا عليهم إلى يوم الفصل والقضاء! فله الإنعام بالنعم المتظاهرة، وله الانتقام بالنقم القاهرة، وله الشكر في السماوات والأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة، والصلاة على محمد ذي المعجزات الظاهرة والآيات الباهرة، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد، فجدير بمن الموتُ مصرعُه، والترابُ مضجعُه، والدّودُ أنيسُه، ومنكرٌ ونكيرٌ جليسُه، والقبرُ مقرُّه، وبطنُ الأرض مستقرُّه، والقيامةُ موعدُه، والجنةُ أو النارُ مَوْرِدُه، أن لا يكون له فكرٌ إلا في الموت، ولا ذكر إلا له، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تطلع إلا إليه، ولا تعريج إلا عليه، ولا اهتمام إلا به، ولا حول إلا حوله، ولا انتظار وتربص إلا له، وحقيق بأن يعُدَّ نفسه من الموتى ويراها في أصحاب القبور، فإن كل ما هو آت قريب، والبعيد ما ليس بآت، وقد قال رسول الله ﷺ: “الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت”. ولن يتيسر الاستعداد للشيء إلا عند تجدد ذكره على القلب، ولا يتجدد ذكره إلا عند التذكر بالإصغاء إلى المذكرات له، والنظر في المنبهات عليه.

ونحن نذكر من أمر الموت ومقدماته ولواحقه، وأحوال الآخرة والقيامة والجنة والنار ما لا بد للعبد من تذكاره على التكرار، وملازمته بالافتكار والاستبصار، ليكون ذلك مستحثا على الاستعداد، فقد قرب لما بعد الموت الرحيل، فما بقي من العمر إلا القليل، والخلق عنه غافلون: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ[1].

ذكر الموت والترغيب في الإكثار من ذكره

إن المنهمك في الدنيا، المكبّ على غرورها، المحبّ لشهواتها، يغفل قلبه لا محالة عن الموت فلا يذكره، وإذا ذُكِّر به كرهه ونفر منه، أولئك هم الذين قال الله فيهم: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[2]. ثم الناس إما منهمك، وإما تائب مبتدئ، أو عارف منته.

أما المنهمك فلا يذكر الموت، وإن ذكره فيذكره للتأسف على دنياه ويشتغل بمذمته، وهذا يزيده ذكر الموت من الله بعدا.

وأما التائب فإنه يكثر من ذكر الموت لينبعث به من قلبه الخوف والخشية، فيفي بتمام التوبة، وربما يكره الموت خيفة من أن يختطفه قبل تمام التوبة وقبل إصلاح الزاد، وهو معذور في كراهة الموت، ولا يدخل هذا تحت قوله ﷺ: “من كره لقاء الله كره الله لقاءه”[3]، فإن هذا ليس يكره الموت ولقاء الله، وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره، وهو كالذي يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغلا بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه، فلا يعد كارها للقائه، وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له لا شغل له سواه، وإلا التحق بالمنهمك في الدنيا.

وأما العارف فإنه يذكر الموت دائما لأنه موعد لقائه لحبيبه، والمحب لا ينسى قط موعد لقاء الحبيب، وهذا في غالب الأمر يستبطئ مجيء الموت ويحب مجيئه، ليتخلص من دار العاصين وينتقل إلى جوار رب العالمين. كما روي عن سيدنا حذيفة رضي الله عنه أنه لما حضرته الوفاة قال: “حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم. اللهم إن كنت تعلم أن الفقر أحب إلي من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة، والموت أحب إلي من العيش، فسهِّل علي الموت حتى ألقاك”. فإذن التائب معذور في كراهة الموت، وهذا معذور في حب الموت وتمنيه، وأعلى منهما رتبة من فوض أمره إلى الله تعالى، فصار لا يختار لنفسه موتا ولا حياة، بل يكون أحب الأشياء إليه أحبها إلى مولاه، فهذا قد انتهى بفرط الحب والولاء إلى مقام التسليم والرضا، وهو الغاية والمنتهى.

وعلى كل حال ففي ذكر الموت ثواب وفضل، فإن المنهمك أيضا يستفيد بذكر الموت التجافي عن الدنيا، إذ ينغص عليه نعيمه ويكدر عليه صفو لذته، وكل ما يكدر على الإنسان اللذات والشهوات فهو من أسباب النجاة.

فضل ذكر الموت

قال رسول الله ﷺ: “أكثروا من ذكر هاذم اللذات”[4]، معناه نغصوا بذكره اللذات حتى ينقطع ركونكم إليها فتُقبلوا على الله تعالى. وقال ﷺ: “لو تعلم البهائم من الموت ما يعلم ابن آدم ما أكلتم منها سمينا”[5].

وإنما سبب هذه الفضيلة كلها أن ذكر الموت يوجب التجافي عن دار الغرور، ويتقاضى الاستعداد للآخرة. والغفلة عن الموت تدعو إلى الانهماك في شهوات الدنيا. وقال ﷺ: “تحفة المؤمن الموت”[6]. وإنما قال هذا لأن الدنيا سجن المؤمن، إذ لا يزال فيها في عناء من مقاساة نفسه ورياضة شهواته ومدافعة شيطانه، فالموت إطلاق له من هذا العذاب، والإطلاق تحفة في حقه.

وقال ﷺ: “الموت كفارة لكل مسلم”[7]. وأراد بهذا المسلم حقا المؤمن صدقا الذي يسلم المسلمون من لسانه ويده، ويتحقق فيه أخلاق المؤمنين، ولم يتدنس من المعاصي إلا باللَّمَم والصغائر، فالموت يطهره منها ويكفرها بعد اجتنابه الكبائر وإقامته الفرائض.

قال عطاء الخراساني رحمه الله: مرّ النبي ﷺ بمجلس قد استعلى فيه الضحك فقال: “شوّبوا مجلسكم بذكر مكدِّر اللذات”. قالوا: وما مكدر اللذات؟ قال: “الموت”[8].

وقال أنس رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله ﷺ: “أكثروا من ذكر الموت فإنه يمحص الذنوب ويزهد في الدنيا”[9]. وقال ﷺ: “كفى بالموت مفرقا”[10]. وقال عليه الصلاة والسلام: “كفى بالموت واعظا”[11].

وخرج رسول الله ﷺ إلى المسجد فإذا قوم يتحدثون ويضحكون، فقال: “اذكروا الموت، أما والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا”[12].

وذكر عند رسول الله ﷺ رجل فأحسنوا الثناء عليه، فقال: “كيف ذكر صاحبكم للموت؟” قالوا: ما كنا نكاد نسمعه يذكر الموت، قال: “فإن صاحبكم ليس هنالك”[13].

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: أتيت النبي ﷺ عاشر عشرة، فقال رجل من الأنصار: من أكيس الناس وأكرم الناس يا رسول الله؟ فقال: “أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعدادا له، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة”[14].

أما الآثار فقد قال الحسن رحمه الله تعالى: فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لُبٍّ فرحا. وقال الربيع بن خيثم رحمه الله: ما غائب ينتظره المؤمن خيرا له من الموت. وكان يقول: لا تشعروا بي أحدا، وسلوني إلى ربي سلا.

وكتب بعض الحكماء إلى رجل من إخوانه: “يا أخي، احذر الموت في هذه الدار قبل أن تصير إلى دار تتمنى فيها الموت فلا تجده”. وكان ابن سيرين رحمه الله إذا ذكر عنده الموت مات كل عضو منه.

وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يجمع كل ليلة الفقهاء، فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة، ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.

وقال إبراهيم التيمي رحمه الله: “شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله عز وجل”. وقال كعب رحمه الله: “من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وهمومها”.

وقال مطرف رحمه الله: “رأيت فيما يرى النائم كأن قائلا يقول في وسط مسجد البصرة: قطع ذكر الموت قلوب الخائفين، فوالله ما تراهم إلا والهين”.

وقال أشعث رحمه الله: “كنا ندخل على الحسن فإنما هو النار وأمر الآخرة وذكر الموت”.

وقالت صفية رضي الله تعالى عنها: “إن امرأة اشتكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة قلبها فقالت: “أكثري ذكر الموت يرق قلبك”. ففعلت فرقّ قلبها فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها”.

وكان عيسى عليه السلام إذا ذكر الموت عنده يقطر جلده دما. وكان داود عليه السلام إذا ذكر الموت والقيامة يبكي حتى تنخلع أوصاله، فإذا ذكر الرحمة رجعت إليه نفسه.

وقال الحسن رحمه الله: “ما رأيتَ عاقلا قط إلا أَصَبْتَه من الموت حذرا وعليه حزينا”.

وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لبعض العلماء: “عظني، فقال: لست أول خليفة تموت. قال: زدني، قال: ليس من آبائك أحد إلى آدم إلا ذاق الموت وقد جاءت نوبتك”. فبكى عمر لذلك.

وكان الربيع بن خيثم رحمه الله قد حفر قبرا في داره، فكان ينام فيه كل يوم مرات يستديم بذلك ذكر الموت، وكان يقول: “لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة واحدة لفسد”.

وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير رحمه الله: “إن هذا الموت قد نغص على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيما لا موت فيه”. وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لعنبسة: “أكثر ذكر الموت فإن كنت واسع العيش ضيقه عليك، وإن كنت ضيق العيش وسعه عليك”.

وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: “قلت لأم هارون: أتحبين الموت؟ قالت: لا، قلت: لم؟ قالت: لو عصيت آدميا ما اشتهيت لقاءه، فكيف أحب لقاءه وقد عصيته؟”

بيان الطريق في تحقيق ذكر الموت

اعلم أن الموت هائل، وخطره عظيم، وغفلة الناس عنه لقلة فكرهم فيه وذكرهم له، ومن يذكره ليس يذكره بقلب فارغ بل بقلب مشغول بشهوة الدنيا، فلا ينْجع[15] ذكر الموت في قلبه.

فالطريق فيه أن يفرغ العبد قلبه عن كل شيء إلا عن ذكر الموت الذي هو بين يديه، كالذي يريد أن يسافر إلى مفازة مخطرة، أو يركب البحر، فإنه لا يتفكر إلا فيه، فإذا باشر ذكر الموت قلبه فيوشك أن يؤثر فيه، وعند ذلك يقل فرحه وسروره بالدنيا وينكسر قلبه.

وأنجع طريق فيه أن يكثر ذكر أشكاله وأقرانه الذين مضوا قبله، فيتذكر موتهم ومصارعهم تحت التراب، ويتذكر صورهم في مناصبهم وأحوالهم، ويتأمل كيف محا التراب الآن حسن صورهم، وكيف تبددت أجزاؤهم في قبورهم، وكيف أرملوا نساءهم، وأيتموا أولادهم، وضيعوا أموالهم، وخلت منهم مساجدهم ومجالسهم، وانقطعت آثارهم. فمهما تذكر رجل رجلا، وفصل في قلبه حاله وكيفية موته، وتوهم صورته وتذكر نشاطه وتردده وتأمله للعيش والبقاء، ونسيانه للموت وانخداعه بمؤاتاة الأسباب، وركونه إلى القوة والشباب، وميله إلى الضحك واللهو، وغفلته عما بين يديه من الموت الذريع والهلاك السريع، وأنه كيف كان يتردد والآن قد تهدمت رجلاه ومفاصله، وأنه كيف كان ينطق وقد أكل الدود لسانه، وكيف كان يضحك وقد أكل التراب أسنانه، وكيف كان يدبر لنفسه ما لا يحتاج إليه إلى عشر سنين في وقت لم يكن بينه وبين الموت إلا شهر، وهو غافل عما يراد به حتى جاءه الموت في وقت لم يحتسبه، فانكشف له صورة الملك، وقرع سمعه النداء إما بالجنة أو بالنار، فعند ذلك ينظر في نفسه أنه مثلهم، وغفلته كغفلتهم، وستكون عاقبته كعاقبتهم.

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: “إذا ذكرت الموتى فعُدَّ نفسك كأحدهم”.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “السعيد من وُعِظ بغيره”. وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “ألا ترون أنكم تجهزون كل يوم غاديا أو رائحا إلى الله عز وجل تضعونه في صدع من الأرض قد توسد التراب، وخلف الأحباب، وقطع الأسباب؟”

فملازمة هذه الأفكار وأمثالها مع دخول المقابر ومشاهدة المرضى هو الذي يجدد ذكر الموت في القلب حتى يغلب عليه، بحيث يصير نصب عينيه، فعند ذلك يوشك أن يستعد له ويتجافى عن دار الغرور. وإلا فالذكر بظاهر القلب وعذبة اللسان قليل الجدوى في التحذير والتنبيه. ومهما طاب قلبه بشيء من الدنيا ينبغي أن يتذكر في الحال أنه لا بد له من مفارقته.

نظر ابن مطيع رحمه الله ذات يوم إلى داره فأعجبه حسنها ثم بكى، فقال: “والله لولا الموت لكنت بك مسروراً، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا”. ثم بكى بكاء شديدا حتى ارتفع صوته.

فضيلة قصر الأمل

قال رسول الله ﷺ لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من حياتك لموتك، ومن صحتك لسقمك، فإنك يا عبد الله لا تدري ما اسمك غدا”[16].

وروى علي كرم الله وجهه أن رسول الله ﷺ قال: “إن أشد ما أخاف عليكم خصلتان: اتباع الهوى، وطول الأمل؛ فأما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق، وأما طول الأمل فإنه الحب للدنيا”، ثم قال: “ألا إن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ويبغض، وإذا أحب عبدا أعطاه الإيمان. ألا إن للدين أبناء وللدنيا أبناء، فكونوا من أبناء الدين ولا تكونوا من أبناء الدنيا. ألا إن الدنيا قد ارتحلت مولية. ألا إن الآخرة قد ارتحلت مقبلة. ألا وإنكم في يوم عمل ليس فيه حساب. ألا وإنكم توشكون في يوم حساب ليس فيه عمل”[17].

وقالت أم المنذر رضي الله عنها: اطلع رسول الله ﷺ ذات عشية إلى الناس فقال: “أيها الناس، أما تستحون من الله!” قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: “تجمعون مالا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، وتبنون ما لا تسكنون”[18].

وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: اشترى أسامة ابن زيد رضي الله عنهما من زيد بن ثابت رضي الله عنه وليدة بمائة دينار إلى شهر، فسمعت رسول الله ﷺ يقول: “ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر! إن أسامة لطويل الأمل، والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي إلا ظننت أن شفري لا يلتقيان حتى يقبض الله روحي، ولا رفعت طرفي فظننت أني واضعه حتى أقبض، ولا لقمت لقمة إلا ظننت أني لا أسيغها حتى أُغَصَّ بها من الموت”. ثم قال: “يا بني آدم، إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى. والذي نفسي بيده ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾[19].

وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أن رسول الله ﷺ كان يخرج يهريق الماء فيتمسح بالتراب، فأقول له: يا رسول الله، إن الماء منك قريب، فيقول: “ما يدريني لعلي لا أبلغه”[20].

وروي أنه ﷺ أخذ ثلاثة أعواد فغرز عودا بين يديه، والآخر إلى جنبه، وأما الثالث فأبعده، فقال: “هل تدرون ما هذا؟” قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: “هذا الإنسان، وهذا الأجل، وذاك الأمل يتعاطاه ابن آدم ويختلجه[21] الأجل دون الأمل”. وقال عليه الصلاة والسلام: “مثل ابن آدم وإلى جنبه تسع وتسعون منية، إن اخطأته المنايا وقع في الهرم”[22].

قال ابن مسعود رضي الله عنه: “هذا المرء وهذه الحُتُوف[23] حوله شوارع إليه، والهرم وراء الحتوف، والأمل وراء الهرم، فهو يأمل وهذه الحتوف شوارع إليه، فأيها أمر به أخذه، فإن أخطأته الحتوف قتله الهرم وهو ينتظر الأمل”.

قال عبد الله رضي الله عنه: “خط لنا رسول الله ﷺ خطا مربعا، وخط وسطه خطا، وخط خطوطا إلى جنب الخط، وخط خطا خارجا وقال: ” أتدرون ما هذا؟” قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: “هذا الإنسان للخط الذي في الوسط، وهذا الأجل محيط به، وهذه الأعراض للخطوط التي حوله تنهشه. إن أخطأه هذا نهشه هذا، وذاك الأمل”. يعني الخط الخارج [24].

وقال أنس رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: “يهرم ابن آدم ويبقى معه اثنتان: الحرص والأمل”[25].

قال رسول الله ﷺ: “نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد، ويهلك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل”[26]. وقيل: “بينما عيسى عليه السلام جالس وشيخ يعمل بمسحاة يثير بها الأرض، فقال عيسى عليه السلام: اللهم انزع منه الأمل، فوضع الشيخ المسحاة واضطجع فلبث ساعة، فقال عيسى عليه السلام: اللهم اردد إليه الأمل، فقام فجعل يعمل، فسأله عيسى عليه السلام عن ذلك فقال: بينما أنا أعمل إذ قالت لي نفسي إلى متى تعمل وأنت شيخ كبير؟ فألقيت المسحاة واضطجعت، ثم قالت لي نفسي: والله لا بد لك من عيش ما بقيت، فقمت إلى مسحاتي”.

وقال الحسن رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: “أكلكم يحب أن يدخل الجنة؟” قالوا: نعم يا رسول الله، قال: “قصروا من الأمل، وثبِّتوا آجالكم بين أبصاركم، واستحيوا من الله حق الحياء”[27].

وكان ﷺ يقول في دعائه: “اللهم إني أعوذ بك من دنيا تمنع خير الآخرة، وأعوذ بك من حياة تمنع خير الممات، وأعوذ بك من أمل يمنع خير العمل”[28].

الآثار: قال مطرف بن عبد الله رحمه الله: “لو علمت متى أجلي لخشيت على ذهاب عقلي، ولكن الله تعالى مَنَّ على عباده بالغفلة عن الموت، ولولا الغفلة ما تهنأوا بعيش ولا قامت بينهم الأسواق”.

وقال الحسن رحمه الله: “السهو والأمل نعمتان عظيمتان على بني آدم، ولولاهما ما مشى المسلمون في الطرق”. وقال الثوري رحمه الله: “بلغني أن الإنسان خلق أحمق، ولولا ذلك لم يهنأه العيش”.

وقال أبو سعيد بن عبد الرحمن رحمه الله: “إنما عمرت الدنيا بقلة عقول أهلها”.

وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: “ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني: مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس يُغفل عنه، وضاحك ملء فيه ولا يدري أساخط رب العالمين عليه أم راض. وثلاث أحزنتني حتى أبكتني: فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الله ولا أدري إلى الجنة يُؤمر بي أو إلى النار”.

وقال بعضهم: “رأيت زرارة بن أبي أوفى بعد موته في المنام فقلت: أي الأعمال أبلغ عندكم؟ قال: التوكل وقصر الأمل”.

وقال الثوري رحمه الله: “الزهد في الدنيا قصر الأمل ليس بأكل الغليظ ولا لبس العباءة”.

وسأل المفضل بن فضالة رحمه الله ربه أن يرفع عنه الأمل، فذهبت عنه شهوة الطعام والشراب، ثم دعا ربه فرد عليه الأمل فرجع إلى الطعام والشراب.

وقال الحسن رحمه الله: “الموت معقود بنواصيكم، والدنيا تطوى من ورائكم”.

وقال بعضهم: “أنا كرجل ماد عنقه، والسيف عليه ينتظر متى تضرب عنقه”.

وقال داود الطائي رحمه الله: “لو أملت أن أعيش شهراً لرأيتني قد أتيت عظيما، وكيف أؤمل ذلك وأرى الفجائع تغشى الخلائق في ساعات الليل والنهار”.

وحكي أنه جاء شقيق البلخي رحمه الله إلى أستاذ له يقال له أبو هاشم الرماني، وفي طرف كسائه شيء مصرور، فقال له أستاذه: إيش هذا معك؟ فقال: لوزات دفعها إلي أخ لي وقال: أحب أن تفطر عليها. فقال: يا شقيق، وأنت تحدث نفسك أنك تبقى إلى الليل؟ لا كلمتك أبدا. قال: فأغلق في وجهي الباب ودخل.

وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في خطبته: “إن لكل سفر زاداً لا محالة، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة التقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله من ثوابه وعقابه ترغبوا وترهبوا، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوكم، فإنه -والله- ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يصبح بعد مسائه، ولا يمسي بعد صباحه، وربما كانت بين ذلك خطفات المنايا، وكم رأيت ورأيتم من كان بالدنيا مغترا، وإنما تقرُّ عين من وثق بالنجاة من عذاب الله تعالى، وإنما يفرح من أمن أهوال القيامة. فأما من لا يداوي كَلْما[29] إلا أصابه جرح من ناحية أخرى، فكيف يفرح؟ أعوذ بالله من أن آمركم بما لا أنهى عنه نفسي، فتخسر صفقتي، وتظهر عيبتي، وتبدو مسكنتي في يوم يبدو فيه الغنى والفقر، والموازين فيه منصوبة. لقد عنيتم بأمر لو عنيت به النجوم لانكدرت، ولو عنيت به الجبال لذابت، ولو عنيت به الأرض لتشققت. أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة، وإنكم صائرون إلى إحداهما”.

وكتب رجل إلى أخ له: “أما بعد، فإن الدنيا حلم، والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، ونحن في أضغاث أحلام. والسلام”.

وكتب آخر إلى أخ له: “إن الحزن على الدنيا طويل، والموت من الإنسان قريب، وللنقص في كل يوم منه نصيب، وللبلاء في جسمه دبيب، فبادر قبل أن تنادى بالرحيل. والسلام”.

وقال الحسن رحمه الله: “كان آدم عليه السلام قبل أن يخطئ أمله خلف ظهره، وأجله بين عينيه، فلما أصاب الخطيئة حول فجعل أمله بين عينيه، وأجله خلف ظهره”.

وقال عبد الله بن سميط رحمه الله: سمعت أبي يقول: “أيها المغتر بطول صحته، أما رأيت ميتا قط من غير سقم؟ أيها المغتر بطول المهلة، أما رأيت مأخوذا قط من غير عدة؟ إنك لو فكرت في طول عمرك لنسيت ما قد تقدم من لذاتك. أبالصحة تغترون، أم بطول العافية تمرحون، أم الموت تأمنون، أم على ملك الموت تجترئون؟ إن ملك الموت إذا جاء لا يمنعه منك ثروة مالك، ولا كثرة احتشادك. أما علمت أن ساعة الموت ذات كرب وغصص وندامة على التفريط؟ ثم يقال: رحم الله عبدا عمل لما بعد الموت! رحم الله عبدا نظر لنفسه قبل نزول الموت!

وقال أبو زكريا التيمي رحمه الله: “بينما سليمان بن عبد الملك في المسجد الحرام إذ أتى بحجر منقور فطلب من يقرؤه، فأتي بوهب بن منبه فإذا فيه: ابن آدم، إنك لو رأيت قرب ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من حرصك وحيلك، وإنما يلقاك غدا ندمك لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وفارقك الوالد والقريب، ورفضك الولد والنسيب، فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة. فبكى سليمان بكاء شديدا”.

وقال بعضهم: “رأيت كتابا من محمد بن يوسف إلى عبد الرحمن بن يوسف: سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإني أحذرك متحوَّلك من دار مهلتك إلى دار إقامتك وجزاء أعمالك، فتصير في قرار باطن الأرض بعد ظاهرها، فيأتيك منكر ونكير فيقعدانك وينتهرانك، فإن يكن الله معك فلا يأس ولا وحشة ولا فاقة، وإن يكن غير ذلك فأعاذني الله وإياك من سوء مصرع، وضيق مضجع، ثم تبلغك صيحةُ الحشر ونفخُ الصور وقيام الجبار لفصل قضاء الخلائق، وخلاء الأرض من أهلها والسماوات من سكانها، فباحت الأسرار، وأسعرت النار، ووضعت الموازين، ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[30]. فكم من مفتضح ومستور! وكم من هالك وناج! وكم من معذب ومرحوم! فيا ليت شعري، مالي وحالك يومئذ، ففي هذا ما هدم اللذات، وأسلى عن الشهوات، وقصر عن الأمل، وأيقظ النائمين، وحذر الغافلين، أعاننا الله وإياكم على هذا الخطر العظيم، وأوقع الدنيا والآخرة من قلبي وقلبك موقعهما من قلوب المتقين، فإنما نحن به وله. والسلام”.

وخطب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه وقال: “أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا يجمعكم الله فيه للحكم والفصل فيما بينكم، فخاب وشقي غدا عبد أخرجه الله من رحمته التي وسعت كل شيء، وجنته التي عرضها السماوات والأرض. وإنما يكون الأمان غدا لمن خاف واتقى، وباع قليلا بكثير، وفانيا بباق، وشقوة بسعادة. ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيخلف بعدكم الباقون؟ ألا ترون أنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عز وجل قد قضى نحبه وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب؟ وأيم الله، إني لأقول مقالتي هذه ولا أعلم عند أحدكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي، ولكنها سنن من الله عادلة آمر فيها بطاعته، وأنهى فيها عن معصيته. وأستغفر الله”. ووضع كمه على وجهه وجعل يبكي حتى بلت دموعه لحيته، وما عاد إلى مجلسه حتى مات.

وقال القعقاع بن حكيم رحمه الله: “قد استعددت للموت منذ ثلاثين سنة، فلو أتاني ما أحببت تأخير شيء عن شيء”.

وقال الثوري رحمه الله: “رأيت شيخا في مسجد الكوفة يقول: أنا في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة أنتظر الموت أن ينزل بي، ولو أتاني ما أمرته بشيء، ولا نهيته عن شيء، ولا لي على أحد شيء، ولا لأحد عندي شيء”.

وقال عبد الله بن ثعلبة رحمه الله: “تضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار”.

وقال أبو محمد بن علي الزاهد رحمه الله: خرجنا في جنازة بالكوفة وخرج فيها داود الطائي، فانتبذ فقعد ناحية وهي تدفن، فجئت فقعدت قريبا منه فتكلم، فقال: “من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب، واعلم يا أخي، أن كل شيء يشغلك عن ربك فهو عليك مشؤوم، واعلم أن أهل الدنيا جميعا من أهل القبور إنما يندمون على ما يخلفون ويفرحون بما يقدمون، فما ندم عليه أهل القبور، أهل الدنيا عليه يقتتلون، وفيه يتنافسون، وعليه عند القضاة يختصمون”.

وروي أن معروفا الكرخي رحمه الله تعالى أقام الصلاة، قال محمد بن أبي توبة رحمه الله: “فقال لي: تقدم، فقلت: إني إن صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم غيرها، فقال معروف: وأنت تحدث نفسك أن تصلي صلاة أخرى، نعوذ بالله من طول الأمل، فإنه يمنع من خير العمل”.

وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في خطبته: “إن الدنيا ليست بدار قراركم. دار كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها الظعن عنها، فكم من عامر موثق عما قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن. فأحسنوا -رحمكم الله- منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى. إنما الدنيا كفيء ظلال قلص فذهب. بينا ابن آدم في الدنيا ينافس وهو قرير العين إذ دعاه الله بقدره ورماه بيوم حتفه، فسلبه آثاره ودنياه، وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه. إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، إنها تسر قليلا وتحزن طويلا”.

وعن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول في خطبته: “أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم؟ أين الملوك الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان؟ أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب قد تضعضع بهم الدهر، فأصبحوا في ظلمات القبور؟ الوحا الوحا! ثم النجا النجا!”

بيان أقاويل جماعة من خصوص الصالحين عند الاحتضار

لما حضرت معاذا رضي الله عنه الوفاة قال: “اللهم إني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك. اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر”. ولما اشتد به النزع ونزع نزعا لم ينزعه أحد كان كلما أفاق من غَمْرَة[31] فتح طرفه ثم قال: “رب، ما أخنقني خنقك، فَوَعِزَّتِك إنك تعلم أن قلبي يحبك”.

ولما حضرت سلمان رضي الله عنه الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: “ما أبكي جزعا على الدنيا، ولكن عهد إلينا رسول الله ﷺ أن تكون بلغة أحدنا من الدنيا كزاد الراكب[32]“. فلما مات سلمان رضي الله عنه نظر في جميع ما ترك، فإذا قيمته بضعة عشر درهما.

ولما حضرت بلالا رضي الله عنه الوفاة قالت امرأته: واحزناه! فقال: “بل واطرباه! غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه”. وقيل: فتح عبد الله بن المبارك رحمه الله عينه عند الوفاة وضحك، وقال: “لمثل هذا فليعمل العاملون”.

ولما حضرت إبراهيم النخعي رحمه الله الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: “أنتظر من الله رسولا يبشرني بالجنة أو بالنار”.

ولما حضرت ابن المنكدر رحمه الله الوفاة بكى، فقيل له ما يبكيك؟ فقال: “والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أني أتيت شيئا حسبته هينا وهو عند الله عظيم”.

ولما حضرت عامر بن عبد القيس رحمه الله الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: “ما أبكي جزعا من الموت ولا حرصا على الدنيا، ولكن أبكي على ما يفوتني من ظمأ الهواجر، وعلى قيام الليل في الشتاء”.

ولما حضرت فضيلا رحمه الله الوفاة غشي عليه، ثم فتح عينيه وقال: “وابعد سفراه! واقلة زاداه!”

ولما حضرت ابن المبارك رحمه الله الوفاة قال لنصر مولاه: “اجعل رأسي على التراب”، فبكى نصر فقال له: “ما يبكيك؟” قال: “ذكرت ما كنت فيه من النعيم، وأنت هو ذا تموت فقيرا غريباً”. قال: “اسكت، فإني سألت الله تعالى أن يحييني حياة الأغنياء وأن يميتني موت الفقراء”. ثم قال له: “لقني ولا تعد علي ما لم أتكلم بكلام ثان”.

وقال عطاء بن يسار رحمه الله: “تبدى إبليس لرجل عند الموت فقال له: نجوت، فقال: ما آمنك بعد”. وبكى بعضهم عند الموت فقيل له: ما يبكيك؟ قال: “آية في كتاب الله تعالى قوله عز وجل: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[33]“.

ودخل الحسن رضي الله عنه على رجل يجود بنفسه فقال: “إن أمرا هذا أوله لجدير أن يتقى آخره، وإن أمرا هذا آخره لجدير أن يزهد في أوله”.

وقال الجريري رحمه الله: “كنت عند الجنيد رحمه الله في حال نزعه -وكان يوم الجمعة ويوم النيروز- وهو يقرأ القرآن فختم، فقلت له: في هذه الحالة يا أبا القاسم؟ فقال: ومن أولى بذلك مني وهو ذا تطوى صحيفتي؟”

وقال رويم رحمه الله: حضرت وفاة أبي سعيد الخراز وهو يقول:

حنين قلوب العارفين إلى الذكر
وتذكارهم وقت المناجاة للسر
أديرت كؤوس للمنايا عليهم
فأغفوا عن الدنيا كإغفاء ذي الشكر
همومهم جوالة بمعسكر
به أهل ود الله كالأنجم الزهر
فأجسامهم في الأرض قتلى بحبه
وأرواحهم في الحجب نحو العلا تسري
فما عرسوا إلا بقرب حبيبهم
وما عرجوا من مس بؤس ولا ضر

وقيل للجنيد رحمه الله: “إن أبا سعيد الخزاز كان كثير التواجد عند الموت، فقال: لم يكن بعجب أن تطير روحه اشتياقا”. وقيل لذي النون رحمه الله عند موته ما تشتهي؟ قال: “أن أعرفه قبل موتي بلحظة”.

وقيل لبعضهم وهو في النزع: قل: الله، فقال: إلى متى تقولون: الله، وأنا محترق بالله؟

وقال بعضهم: “كنت عند ممشاد الدينوري فقدم فقير وقال: السلام عليكم، هل هنا موضع نظيف يمكن الإنسان أن يموت فيه؟ قال: فأشاروا إليه بمكان -وكان ثم عين ماء- فجدد الفقير الوضوء وركع ما شاء الله، ومضى إلى ذلك المكان ومد رجليه ومات”.

وكان أبو عباس الدينوري رحمه الله يتكلم في مجلسه، فصاحت امرأة تواجدا فقال لها: موتي فقامت المرأة، فلما بلغت الدار التفتت إليه وقالت: قد متُّ، ووقعت ميتة. ويحكى عن فاطمة رحمها الله -أخت أبي علي الروذباري رحمه الله- قالت: لما قرب أجل أبي علي الروذباري -وكان رأسه في حجري- فتح عينيه وقال: هذه أبواب السماء قد فتحت، وهذه الجنان قد زينت، وهذا قائل يقول: يا أبا علي، قد بلغناك الرتبة القصوى وإن لم تردها، ثم أنشا يقول:

وحقك لا نظرت إلى سواكا
بعين مودة حتى أراكا
أراك معذبي بفتور لحظ
وبالخد المورد من حياكا

وقيل للجنيد رحمه الله: قل: لا إله إلا الله، فقال: ما نسيته فأذكره.

وسأل جعفر بن نصير رحمه الله بكرا الدينوري رحمه الله -خادم الشبلي رحمه الله- ما الذي رأيت منه؟ فقال: “قال: علي درهم مظلمة، وتصدقت عن صاحبه بألوف، فما على قلبي شغل أعظم منه. ثم قال: وضئني للصلاة، ففعلت فنسيت تخليل لحيته -وقد أمسك على لسانه- فقبض على يدي وأدخلها في لحيته ثم مات”. فبكى جعفر رحمه الله وقال: “ما تقولون في رجل لم يفته في آخر عمره أدب من آداب الشريعة؟”

وقيل لبشر بن الحارث رحمه الله لما احتضر -وكان يشق عليه-: كأنك تحب الحياة؟ فقال: القدوم على الله شديد. وقيل لصالح بن مسمار رحمه الله: ألا توصي بابنك وعيالك؟ فقال: إني لأستحي من الله أن أوصي بهم إلى غيره. ولما احتضر أبو سليمان الداراني رحمه الله أتاه أصحابه فقالوا: أبشر! فإنك تقدم على رب غفور رحيم، فقال لهم: “ألا تقولون: احذر! فإنك تقدم على رب يحاسبك بالصغير ويعاقبك بالكبير؟”

ولما احتضر أبو بكر الواسطي رحمه الله قيل له: أوصنا، فقال: احفظوا مراد الحق فيكم.

واحتضر بعضهم فبكت امرأته فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: عليك أبكي! فقال: إن كنت باكية فابكي على نفسك، فلقد بكيت لهذا اليوم أربعين سنة.

وقال الجنيد رحمه الله: دخلت على سري السقطي أعوده في مرض موته، فقلت: كيف تجدك؟ فأنشأ يقول:

كيف أشكو إلى طبيبي ما بي
والذي بي أصابني من طبيبي

فأخذت المروحة لأروّحه، فقال: كيف يجد ريح المروحة من جوفه يحترق؟ ثم أنشأ يقول:

القلب محترق والدمع مستبق
والكرب مجتمع والصبر مفترقُ
كيف القرار على من لا قرار له
مما جناه الهوى والشوق والقلقُ؟
يا رب إن يك شيء فيه لي فرج
فامنن عليَّ به ما دام بي رمقُ

وحكي أن قوما من أصحاب الشبلي رحمه الله دخلوا عليه وهو في الموت، فقالوا له: قل: لا إله إلا الله، فأنشأ يقول:

إن بيتا أنت ساكنه
غير محتاج إلى السرجِ
وجهك المأمول حجتنا
يوم يأتي الناس بالحججِ
لا أتاح الله لي فرجا
يوم أدعو منك بالفرج

وحكي أن أبا العباس بن عطاء رحمه الله دخل على الجنيد في وقت نزعه فسلم عليه فلم يجبه، ثم أجاب بعد ساعة وقال: اعذرني فإني كنت في وردي، ثم ولى وجهه إلى القبلة وكبر ومات.

وقيل للكناني رحمه الله لما حضرته الوفاة: ما كان عملك؟ فقال: لو لم يقرب أجلي ما أخبرتكم به، وقفت على باب قلبي أربعين سنة فكلما مرّ فيه غير الله حجبته عنه.

وحكي عن المعتمر رحمه الله قال: كنت فيمن حضر الحكم بن عبد الملك حين جاءه الحق، فقلت: اللهم هوّن عليه سكرات الموت فإنه كان وكان -فذكرت محاسنه- فأفاق فقال: من المتكلم؟ فقلت: أنا، فقال: إنّ ملك الموت عليه السلام يقول لي: إني بكل سخي رفيق، ثم طفئ.

ولما حضرت يوسف بن أسباط رحمه الله الوفاة شهده حذيفة فوجده قلقا فقال: يا أبا محمد، هذا أوان القلق والجزع؟ فقال: يا أبا عبد الله، وكيف لا أقلق ولا أجزع وإني لا أعلم أني صدقت الله في شيء من عملي؟ فقال حذيفة رحمه الله: واعجباه! لهذا الرجل الصالح يحلف عند موته أنه لا يعلم أنه صدق الله في شيء من عمله!

وعن المغازلي رحمه الله قال: دخلت على شيخ لي من أصحاب هذه الصفة -وهو عليل- وهو يقول: يمكنك أن تعمل ما تريد فارفق بي.

ودخل بعض المشايخ على ممشاد الدينوري رحمه الله في وقت وفاته فقال له: فعل الله تعالى وصنع -من باب الدعاء- فضحك، ثم قال: منذ ثلاثين سنة تعرض علي الجنة بما فيها فما أعرتها طرفي.

وقيل لرويم رحمه الله عند الموت: قل: لا إله إلا الله، فقال: لا أحسن غيره.

ولما حضرت الثوري رحمه الله الوفاة قيل له: قل: لا إله إلا الله، فقال: أليس ثَمَّ أمر؟

ودخل المزني على الشافعي رحمة الله عليهما في مرضه الذي توفي فيه فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقا، ولسوء عملي ملاقيا، ولكأس المنية شاربا، وعلى الله تعالى واردا، ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها؟ ثم أنشأ يقول:

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت رجائي نحو عفوك سلّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل
تجود وتعفو منة وتكرما
ولولاك لم يغوى بإبليس عابد
فكيف وقد أغوى صفيك آدما

ولما حضرت أحمد بن خضرويه رحمه الله الوفاة سئل عن مسألة فدمعت عيناه وقال: يا بني، باب كنت أدقه خمسا وتسعين سنة هو ذا يفتح الساعة لي لا أدري أيفتح بالسعادة أو الشقاوة فآن لي أوان الجواب.

فهذه أقاويلهم، وإنما اختلفت بحسب اختلاف أحوالهم؛ فغلب على بعضهم الخوف، وعلى بعضهم الرجاء، وعلى بعضهم الشوق والحب، فتكلم كل واحد منهم على مقتضى حاله، والكل صحيح بالإضافة إلى أحوالهم.

أقاويل العارفين على الجنائز والمقابر

اعلم أن الجنائز عبرة للبصير وفيها تنبيه وتذكير لأهل الغفلة، فإنها لا تزيدهم مشاهدتها إلا قساوة، لأنهم يظنون أنهم أبدا إلى جنازة غيرهم ينظرون، ولا يحسبون أنهم لا محالة على الجنائز يحملون، أو يحسبون ذلك ولكنهم على القرب لا يقدرون، ولا يتفكرون أن المحمولين على الجنائز هكذا كانوا يحسبون، فبطل حسبانهم، وانقرض على القرب زمانهم، فلا ينظر عبد إلى جنازة إلا ويقدر نفسه محمولا عليها، فإنه محمول عليها على القرب وكأن قد، ولعله في غد أو بعد غد.

ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان إذا رأى جنازة قال: امضوا فإنا على الأثر.

وكان مكحول الدمشقي رحمه الله إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون، موعظة بليغة وغفلة سريعة يذهب الأول والآخر لا عقل له.

وقال أسيد بن حضير رضي الله عنه: ما شهدت جنازة فحدثتني نفسي بشيء سوى ما هو مفعول به وما هو صائر إليه.

ولما مات أخو مالك بن دينار رحمهما الله خرج مالك في جنازته يبكي ويقول: والله لا تقر عيني حتى أعلم إلى ماذا صرت إليه، ولا أعلم ما دمت حيا.

وقال الأعمش رحمه الله: كنا نشهد الجنائز فلا ندري من نعزي لحزن الجميع.

وقال ثابت البناني رحمه الله: كنا نشهد الجنائز فلا نرى إلا متقنعا باكيا.

فهكذا كان خوفهم من الموت، والآن لا ننظر إلى جماعة يحضرون جنازة إلا وأكثرهم يضحكون ويلهون، ولا يتكلمون إلا في ميراثه وما خلفه لورثته، ولا يتفكر أقرانه وأقاربه إلا في الحيلة التي بها يتناول بعض ما خلفه، ولا يتفكر واحد منهم إلا ما شاء الله في جنازة نفسه وفي حاله إذا حمل عليها، ولا سبب لهذه الغفلة إلا قسوة القلوب بكثرة المعاصي والذنوب حتى نسينا الله تعالى واليوم الآخر والأهوال التي بين أيدينا، فصرنا نلهو ونغفل ونشتغل بما لا يعنينا، فنسأل الله تعالى اليقظة من هذه الغفلة فإن أحسن أحوال الحاضرين على الجنائز بكاؤهم على الميت، ولو عقلوا لبكوا على أنفسهم لا على الميت.

نظر إبراهيم الزيات رحمه الله إلى أناس يترحمون على الميت فقال: لو تترحمون على أنفسكم لكان خيرا لكم، إنه نجا من أهوال ثلاثة: وجه ملك الموت وقد رأى، ومرارة الموت وقد ذاق، وخوف الخاتمة وقد أمن.

وقال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله: جلست إلى جرير وهو يملي على كاتبه شعرا، فأطلعت جنازة فأمسك وقال: شيبتني -والله- هذه الجنائز، وأنشأ يقول:

تروعنا الجنائز مقبلات
ونلهو حين تذهب مدبرات
كروعة ثلة لمغار ذئب
فلما غاب عادت راتعات

فمن آداب حضور الجنائز: التفكر والتنبه والاستعداد والمشي أمامها على هيئة التواضع. ومن آدابه: حسن الظن بالميت وإن كان فاسقا، وإساءة الظن بالنفس وإن كان ظاهرها الصلاح، فإن الخاتمة مخطرة لا تدري حقيقتها، ولذلك روي عن عمر بن ذر رحمه الله أنه مات واحد من جيرانه -وكان مسرفا على نفسه- فتجافى كثير من الناس عن جنازته، فحضرها هو وصلى عليها، فلما دلي في قبره وقف على قبره وقال: يرحمك الله يا أبا فلان، فلقد صحبت عمرك بالتوحيد، وعفرت وجهك بالسجود، وإن قالوا: مذنب وذو خطايا، فمن منا غير مذنب وغير ذي خطايا.

ويحكى أن رجلا من المنهمكين في الفساد مات في بعض نواحي البصرة، فلم تجد امرأته من يعينها على حمل جنازته إذ لم يدر بها أحد من جيرانه لكثرة فسقه، فاستأجرت حمالين وحملتها إلى المصلى فما صلى عليه أحد، فحملتها إلى الصحراء للدفن فكان على جبل قريب من الموضع زاهد من الزهاد الكبار، فرأته كالمنتظر للجنازة، ثم قصد أن يصلي عليها فانتشر الخبر في البلد بأن الزاهد نزل ليصلي على فلان، فخرج أهل البلد فصلى الزاهد وصلوا عليه، وتعجب الناس من صلاة الزاهد عليه، فقال: قيل لي في المنام: انزل إلى موضع فلان ترى فيه جنازة ليس معها أحد إلا امرأة فصل عليه فإنه مغفور له. فزاد تعجب الناس فاستدعى الزاهد امرأته وسألها عن حاله وكيف كانت سيرته قالت: كما عرف كان طول نهاره في الماخور مشغولا بشرب الخمر، فقال: انظري هل تعرفين منه شيئا من أعمال الخير، قالت: نعم، ثلاثة أشياء: كان كل يوم يفيق من سكره وقت الصبح يبدل ثيابه ويتوضأ ويصلي الصبح في جماعة ثم يعود إلى الماخور ويشتغل بالفسق. والثاني أنه كان أبدا لا يخلو بيته من يتيم أو يتيمين وكان إحسانه إليهم أكثر من إحسانه إلى أولاده، وكان شديد التفقد لهم. والثالث أنه كان يفيق في أثناء سكره في ظلام الليل فيبكي ويقول: يا رب، أي زاوية من زوايا جهنم تريد أن تملأها بهذا الخبيث؟ -يعني نفسه- فانصرف الزاهد وقد ارتفع إشكاله من أمره.

وعن صلة بن أشيم رحمه الله -وقد دفن أخ له- فقال على قبره:

فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة
وإلا فإني لا أخالك ناجيا

حال القبر وأقاويلهم عند القبور

قال الضحاك رحمه الله: قال رجل: يا رسول الله، من أزهد الناس؟ قال: “من لم ينس القبر والبلى، وترك فضل زينة الدنيا، وآثر ما يبقى على ما يفنى، ولم يعد غدا من أيامه، وعد نفسه من أهل القبور”.

وقيل لعلي كرم الله وجهه: ما شأنك جاورت المقبرة؟ قال: إني أجدهم خير جيران، أجدهم جيران صدق يكفون الألسنة، ويذكرون الآخرة.

وقال رسول الله ﷺ: “ما رأيت منظرا إلا والقبر أفظع منه”.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى المقابر فجلس إلى قبر -وكنت أدنى القوم منه- فبكى وبكيت وبكوا، فقال: “ما يبكيكم؟” قلنا: بكينا لبكائك، قال: “هذا قبر أمي آمنة بنت وهب، استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي، فاستأذنته أن أستغفر لها فأبى علي، فأدركني ما يدرك الولد من الرقة”[34].

وقال أبو حاتم صالح رحمه الله: وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فسئل عن ذلك وقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي إذا وقفت على قبر، فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: “إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد”[35]. وقيل: إن عمرو بن العاص رضي الله عنه نظر إلى المقبرة فنزل وصلى ركعتين، فقيل له: هذا شيء لم تكن تصنعه، فقال: ذكرت أهل القبور وما حيل بينهم وبينه، فأحببت أن أتقرب إلى الله بهما.

قال مجاهد رحمه الله: أول ما يكلم ابن آدم حفرته، فتقول: أنا بيت الدود وبيت الوحدة، وبيت الغربة وبيت الظلمة، هذا ما أعددت لك فما أعددت لي؟

وقال أبو ذر رضي الله عنه: ألا أخبركم بيوم فقري؟ يوم أوضع في قبري.

وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقعد إلى القبور، فقيل له في ذلك، فقال: أجلس إلى قوم يذكروني معادي، وإذا قمت لم يغتابوني.

وكان جعفر بن محمد رحمه الله يأتي القبور ليلا ويقول: يا أهل القبور، مالي إذا دعوتكم لا تجيبوني، ثم يقول: حيل -والله- بينهم وبين جوابي، وكأن بي أكون مثلهم، ثم يستقبل الصلاة إلى طلوع الفجر.

وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لبعض جلسائه: يا فلان، لقد أرقت الليلة أتفكر في القبر وساكنه، وإنك لو رأيت الميت بعد ثلاثة في قبره لاستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك به، ولرأيت بيتا تجول فيه الهوام ويجري فيه الصديد وتخترقه الديدان مع تغير الريح وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الريح ونقاء الثوب. قال: ثم شهق شهقة خر مغشيا عليه.

وكان يزيد الرقاشي رحمه الله يقول: أيها المقبور في حفرته، والمتخلي في القبر بوحدته، والمستأنس في بطن الأرض بأعماله، ليت شعري بأي أعمالك استبشرت؟ وبأي إخوانك اغتبطت؟ ثم يبكي حتى يبل عمامته، ثم يقول: استبشر
-والله- بأعماله الصالحة، واغتبط -والله- بإخوانه المتعاونين على طاعة الله تعالى. وكان إذا نظر إلى القبور خار كما يخور الثور.

وقال حاتم الأصم رحمه الله: من مر بالمقابر فلم يتفكر لنفسه، ولم يدع لهم فقد خان نفسه وخانهم.

وكان بكر العابد رحمه الله يقول: يا أماه، ليتك كنت بي عقيما! إن لابنك في القبر حبسا طويلا، ومن بعد ذلك منه رحيلا.

وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: يا ابن آدم، دعاك ربك إلى دار السلام، فانظر من أين تجيبه! إن أجبته من دنياك واشتغلت بالرحلة إليه دخلتها، وإن أجبته من قبرك منعتها.

وكان الحسن بن صالح رحمه الله إذا أشرف على المقابر يقول: ما أحسن ظواهرك! إنما الدواهي في بواطنك.

وكان عطاء السلمي رحمه الله إذا جن عليه الليل خرج إلى المقبرة، ثم يقول: يا أهل القبور، متم، فواموتاه! وعاينتم أعمالكم، فواعملاه! ثم يقول: غدا عطاء في القبور! فلا يزال ذلك دأبه حتى يصبح.

وقال سفيان رحمه الله: من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة، ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار.

وكان الربيع بن خيثم رحمه الله قد حفر في داره قبرا فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيه فاضطجع ومكث ما شاء الله، ثم يقول: )﴿رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾، يرددها ثم يرد على نفسه: يا ربيع، قد رجعتك فاعمل.

وقال أحمد بن حرب رحمه الله: تتعجب الأرض من رجل يمهد مضجعه ويسوى فراشه للنوم، فتقول: يا ابن آدم، لم لا تذكر طول بلاك وما بيني وبينك شيء؟

وقال ميمون بن مهران رحمه الله: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة، فلما نظر إلى القبور بكى ثم أقبل علي فقال: يا ميمون، هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشهم، أما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلى، وأصابت الهوام مقيلا في أبدانهم؟ ثم بكى، وقال: والله ما أعلم أحدا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله.

وقال ثابت البناني رحمه الله: دخلت المقابر فلما قصدت الخروج منها فإذا بصوت قائل يقول: يا ثابت، لا يغرنك صموت أهلها فكم من نفس مغمومة فيها!

ويروى أن فاطمة بنت الحسين رضي الله عنها نظرت إلى جنازة زوجها الحسن بن الحسن رضي الله عنه فغطت وجهها وقالت: وكانوا رجاء ثم أمسوا رزية، لقد عظمت تلك الرزايا وجلت. وقيل إنها ضربت على قبره فسطاطا واعتكفت عليه سنة، فلما مضت السنة قلعوا الفسطاط ودخلت المدينة فسمعوا صوتا من جانب البقيع: هل وجدوا ما فقدوا؟ فسمعوا من الجانب الآخر: بل يئسوا فانقلبوا.

وقال أبو موسى التميمي رحمه الله: توفيت امرأة الفرزدق فخرج في جنازتها وجوه البصرة -وفيهم الحسن رضي الله عنه- فقال له الحسن: يا أبا فراس، ماذا أعددت لهذا اليوم؟ فقال شهادة أن لا إله إلا الله منذ ستين سنة، فلما دفنت أقام الفرزدق على قبرها، فقال:

أخاف وراء القبر إن لم تعافني
أشد من القبر التهابا وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائد
عنيف وسواق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى
إلى النار مغلول القلادة أزرقا

وقد أنشدوا في أهل القبور:

قفْ بالقبور وقُلْ على ساحاتها
من منكم المَغْمور[36] في ظلماتها
ومن المُكْرَم منكم في قَعْرِها[37]
قد ذاق برد الأمن من روعاتها
أما السكون لذي العيون فواحد
لا يستبين الفضل في درجاتها
لو جاوبوك لأخبروك بألسن
تصف الحقائق بعد من حالاتها
أما المطيع فنازل في روضة
يفضي إلى ما شاء من دوحاتها[38]
والمجرم الطاغي بها متقلب
في حفرة يأوي إلى حيَّاتها
وعقارب تسعى إليه فروحه
في شدة التعذيب من لدغاتها

ومر داود الطائي رحمه الله على امرأة تبكي على قبر وهي تقول:

عدمتُ الحياة ولا نلتها
إذا كنتَ في القبر قد ألحدوكا[39]
فكيف وأين أذوق لطعم الكرى[40]
وأنت بيمناك قد وسدوكا؟

ثم قالت: يا ابناه! بأي خديك بدأ الدود؟ فصعق داود رحمه الله مكانه، وخر مغشيا عليه.

وقال مالك بن دينار رحمه الله: مررت بالمقبرة فأنشأت أقول:

أتيت القبور فناديتها
فأين المعظم والمحتقرْ
وأين المُدِلُّ[41] بسلطانه
وأين المزكَّى إذا ما افتخرْ

قال: فنوديت من بينها، أسمع صوتا ولا أرى شخصا وهو يقول:

تفانوا جميعا فما مخبر
وماتوا جميعا ومات الخبرْ
تروح وتغدو بنات الثرى
فتمحو محاسن تلك الصورْ
فيا سائلي عن أناس مضوا
أما لك فيما ترى معتبرْ؟

قال: فرجعت وأنا باكٍ

أبيات وجدت مكتوبة على القبور

وجد مكتوبا على قبر:

تناجيك أجداثٌ وهن صُمُوت
وسكَّانُها تحت التراب خُفُوتُ
أيا جامع الدنيا لغير بلاغة
لمن تجمع الدنيا وأنت تموت؟

ووجد على قبر آخر مكتوبا:

وما ينفع المقبورَ عمرانُ قبرِه
إذا كان فيه جسمُه يتهدّمُ

وقال ابن السماك رحمه الله: مررت على المقابر فإذا على قبر مكتوب:

يمر أقاربي جنبات قبري
كأن أقاربي لم يعرفوني
ذوو الميراث يقتسمون مالي
وما يَأْلُونَ أن جحدوا ديوني
وقد أخذوا سِهَامَهُم[42] وعاشوا
فيالله أسرع ما نسوني

ووجد على قبر مكتوبا:

إن الحبيب من الأحباب مُخْتَلَس
لا يمنع الموت بوّاب ولا حرسُ
فكيف تفرح بالدنيا ولذَّتِها
يا من يعد عليه اللفظ والنَّفَسُ؟
أصبحت يا غافلا في النقص منغمسا
وأنت دهرَك في اللذات منغمسُ
لا يرحم الموتُ ذا جهل لغِرَّتِه[43]
ولا الذي كان منه العلم يُقْتبسُ
كم أخرس الموت في قبر وقفت به
عن الجواب لِسَانا ما به خرسُ
قد كان قصرك معمورا له شرف
فقبرُك اليوم في الأجداث منْدَرِسُ

ووجد على قبر آخر مكتوبا:

وقفت على الأحبة حين صُفَّتْ
قبورهم كأفراس الرهان
فلما أن بكيت وفاض دمعي
رأت عيناي بينهم مكاني

ووجد على قبر طبيب مكتوبا:

قد قلت: لما قال لي قائل:
صار لقمان إلى رَمْسِه[44]:
فأين ما يوصف من طبه
وحِذْقه[45] في الماء مع جسه
هيهات لا يدفع عن غيره
من كان لا يدفع عن نفسه

ووجد على قبر آخر مكتوبا:

يا أيها الناس كان لي أملُ
قصر بي عن بلوغه الأجلُفليتق الله ربه رجلٌ
ما أنا وحدي نقلت حيث ترى
كل إلى مثقله سينتقل

فهذه أبيات كتبت على قبور لتقصير سكانها عن الاعتبار قبل الموت، والبصير هو الذي ينظر إلى غيره فيرى مكانه بين أظهرهم، فيستعد للحوق بهم، ويعلم أنهم لا يبرحون من مكانهم ما لم يلحق بهم. وليتحقق أنه لو عرض عليهم يوم من أيام عمره الذي هو مضيع له لكان ذلك أحب إليهم من الدنيا بحذافيرها، لأنهم عرفوا قدر الأعمار، وانكشفت لهم حقائق الأمور، فإنما حسرتهم على يوم من العمر ليتدارك المقصر به تقصيره فيتخلص من العقاب، وليستزيد الموفق به رتبته فيتضاعف له الثواب، فإنهم إنما عرفوا قدر العمر بعد انقطاعه، فحسرتهم على ساعة من الحياة وأنت قادر على تلك الساعة، ولعلك تقدر على أمثالها، ثم أنت مضيع لها.

فوطِّن نفسك على التحسر على تضييعهما عند خروج الأمر من الاختيار، إذا لم تأخذ نصيبك من ساعتك على سبيل الابتدار، فقد قال بعض الصالحين: رأيت أخا لي في الله فيما يرى النائم فقلت: يا فلان، عشت الحمد لله رب العالمين، قال: لأن أقدر على أن أقولها -يعني الحمد لله رب العالمين- أحب إلي من الدنيا وما فيها، ثم قال: ألم تر حيث كانوا يدفنونني؟ فإن فلانا قد قام فصلى ركعتين، لأن أكون أقدر على أن أصليهما أحب إلي من الدنيا وما فيها.


[1] سورة الأنبياء، الآية: 1.
[2] سورة الجمعة، الآية: 8.
[3] أخرجه الشيخان رحمهما الله عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] رواه الترمذي وابن ماجة والنسائي رحمهم الله.
[5] رواه البيهقي رحمه الله في شعب الإيمان.
[6] رواه ابن أبي الدنيا والطبراني والحاكم والبيهقي رحمهم الله.
[7] رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب والخطيب في التاريخ رحمهم الله.
[8] رواه ابن أبي الدنيا رحمه الله.
[9] رواه ابن أبي الدنيا رحمه الله.
[10] رواه الحارث ابن أبي أسامة وابن أبي الدنيا رحمهما الله.
[11] رواه الطبراني والبيهقي رحمهما الله.
[12] رواه ابن أبي الدنيا رحمه الله.
[13] رواه ابن أبي الدنيا وابن المبارك رحمهما الله.
[14] رواه ابن أبي الدنيا رحمه الله بكماله، وابن ماجة رحمه الله مختصرا.
[15] نجع: فيه الخطاب والوعظ والدواء: دخل وأثّر فيه.
[16] رواه ابن حبان رحمه الله، والبخاري رحمه الله من قول ابن عمر رضي الله عنهما.
[17] رواه ابن أبي الدنيا رحمه الله.
[18] رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي رحمهما الله.
[19] رواه أبو نعيم والبيهقي رحمهما الله.
[20] رواه ابن أبي الدنيا والمبارك رحمهما الله.
[21] يختلجه: يجتذبه.
[22] رواه الترمذي رحمه الله، وقال: حسن.
[23] الحتوف: مفردها الحَتْف: الموت.
[24] رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه.
[25] رواه ابن أبي الدنيا رحمه الله.
[26] رواه ابن أبي الدنيا رحمه الله.
[27] رواه ابن أبي الدنيا رحمه الله.
[28] رواه ابن أبي الدنيا رحمه الله.
[29] الكَلم: الجِراحة، والجمع: كُلوم وكِلام.
[30] سورة الزمر، الآية: 69.
[31] غمرة: شدّة.
[32] أخرجه الإمام أحمد رحمه الله، والحاكم رحمه الله وصححه.
[33] سورة المائدة، الآية: 27.
[34] رواه ابن أبي الدنيا رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه في كتاب القبور.
[35] أخرجه الترمذي والحاكم وابن ماجة رحمهم الله.
[36] المغمور: المجهول والخامل الذكر.
[37] القعْر: من كل شيء: عمقه ونهاية أسفله.
[38] الدوحة: الشجرة العظيمة المتسعة.
[39] ألحد: دفن. اللَّحْد واللُّحْد: الشق المائل يكون في جانب القبر.
[40] الكرى: النوم والنعاس.
[41] المُدل: المُفْتخر.
[42] السهام: مفردها: السهم: النصيب والحظ.
[43] الغِرّة: الغفلة.
[44] الرمس: القبر مستويا لا يعلو عن وجه الأرض.
[45] حَذَق: وحَذِق يحْذَق حَذْقاً وحِذْقاً: كان ماهرا فهو حاذِق.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد