مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

لا حاجة بنا أن نقف طويلا عند هذه الفرق البائد كثير منها. لكن نذكر أصول الخلاف الفكري الذي فصله الشهرستاني لأن المواضيع التي دار حولها الخلاف من طبيعة العقل المشترك الأصم الأبكم أن يضل فيها في كل عصر مثلما ضل عقل الأولين. ثم نرجع إلى أصل البلاء كله وهو ختم الله جلت عظمته القلوب، ومرضها. ومن مرضها أن تجد قوما في زماننا يتهمون كل مسلم لا يتطابق رأيه مع رأيهم أنه جهمي، وهو لم يسمع قط بما هي الجهمية ولا له نية ولا رأي ولا دراية بالخلاف في الصفات.
أول الفرق الضالة ظهوراً في الإسلام الخوارج، خرجوا من صف الإمام علي كرم الله وجهه بعد قضية التحكيم في حرب صفين. وما أدراك ما صفين، جرح لا يندمل! أخبر رسول الله ﷺ بظهورهم فقال: «يخرج في هذه الأمة، (ولم يقل منها)، قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حلوقهم، أو حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمِيَّة». الحديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري، ورواه غيره. وفي رواية للبخاري عن علي رضي الله عنه قال: «إذا حدثتكم عن رسول الله ﷺ حديثا فوالله لأن أخرَّ من السماء أحبُّ إليَّ من أن أكذب عليه. وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة. وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «سيخرج قوم في آخر الزمان أحداثُ الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة».
مضى تاريخ قتال الإمام علي ومن بعده لهم، وبقي منهاجُهم المتجدد: شباب سفيهو الأحلام، أي خفيفو العقول، يقولون كلاما خيرا، ويصلون صلاة متقنة الأركان الظاهرة، ويقرأون القرآن لا يبلغ نور القرآن أبعدَ من حناجرهم. العقول كليلة، والقلوب مغلَّفة مريضة، هذه هي معادلة بعض طوائف الشباب المتسائل عن دينه ولا من مجيب. ولئن توقف العلماء الأولون في تكفير الخوارج الأولين، فإن قضية زماننا وما بعده هي ترشيد هؤلاء الشباب. ترشيدُهم آكدُ القضايا وإن هم استباحوا لأنفسهم تصرفات طائشةً. وإن «استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطإ في سفك دم مسلم واحد» كما يقول الإمام الغزالي في كتاب «التفرقة بين الإيمان والزندقة».-1
الخلافة الثانية على منهاج النبوة هي مستقبل المسلمين، وإن تعامل العاملين للإسلام مع سواد الأمة وطوائفها وأحزابها السياسية وتعامل الجماعات الإسلامية فيما بينها إما أن يكون بالرفق الإسلامي والتؤدة والتفاهم فيحالفَه توفيقُ الله في الدنيا والسعادةُ للجميع في الآخرة. وإمَّا أن يكون على الأساليب العنيفة المبدِّعة المكفِّرة المتجهمة الخوارجية فذاك الضلال بعينه عافانا الله.
حذرنا رسول الله ﷺ من داء الأمم، وهو المرض القلبي، فقال: «دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة. أما إني لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين. والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام فيما بينكم». رواه الترمذي رحمه الله عن الزبير رضي الله عنه وسنده جيد.
الإيمان حُب، وما في المسلمين من تحاسد وتباغض مرض دواؤه التحابُّ. وإن حب الله ورسوله، والحب في الله، والخلة في الله، والصحبة في الله، تثمر الرفق والشفقة على الخلق أجمعين. لا تمنع الذلةُ على المؤمنين من العزة على الكافرين. وما يحب الله عز وجل إلا من جمع بينهما.
ثائرة نارية لا بد من تسكينها. وإن رسول الله ﷺ أمر بالستر على المسلمين، وستر حتى المنافقين الذين كان يعرفهم ويعرف المسلمون بعضهم. وكم قال لعمرَ وغيره لما هموا بضرب المخالفين «أتريدون أن يتحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه!».
ذكر الإمام الشاطبي في كتاب الاعتصام «سببين لسَتْر المسلمين وتجنب تعيينهم بأسماء للطعن فيهم وتفريق شمل الأمة: السبب الأول أن الله تعالى ستر على هذه الأمة في الغالب، بينما كان عصاة بني إسرائيل إذا أذنب أحدهم ليلا أصبح وعلى بابه معصيته مكتوبة. السبب الثاني هو أن «للستر حكمة أخرى وهي أنها لو ظهرت مع أن أصحابها من الأمة لكان في ذلك داع إلى الفرقة وعدم الألفة التي أمر الله ورسوله بها».
نعم، لا بد من ذكر خطإ من أخطأ دون تعصب ولا تحامل لكيلا ترجع الخسارة على الأمة. وإن ممارسة ما يسمى بالنقد والنقد الذاتي في عصرنا ينبغي أن يكون مناصحة يضبطها الشرع وتلطِّفها المحبة وسلامة الصدر. قال الإمام الغزالي: «أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوامِّ بتعصب جماعة من جَهَلَة أهل الحق. أظهروا الحق في معرض التحدّي والإدلالِ، ونظروا إلى ضعَفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة. ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقرّاً في قلب مجنونٍ، فضلا عن قلب عاقل».1
قال الشاطبي: هذا ما قال، وهو الحق الذي تشهد به العوائد الجارية. فالواجب تسكين الثائرة ما قُدِر على ذلك والله أعلم.
قلت: قال الشيخ عبد القادر قدس الله سره: «أنت كدر بلا صفاء، خلق بلا خالق، دنيا بلا آخرة، باطل بلا حق، ظاهر بلا باطن، قول بلا عمل، عمل بلا إخلاص، إخلاص بلا إصابة السنة. إن الله عز وجل لا يقبل قولا بلا عمل، ولا عملا بلا إخلاص، ولا يقبل شيئا بالجملة غير موافق لكتابه وسنة نبيه ﷺ. (…) إن حصل لك قَبول الخلق مع كذبك فما حصل لك قبول الحق عز وجل وهو العالم بما في القلوب. لا تُبَهْرِجْ، إن الناقد بصير. إن الله عز وجل ينظر إلى قلبك لا إلى صورتك، ينظر إلى ما وراء الثياب والجلود والعظام. ينظر إلى خلوتك لا إلى جلوتك. أما تستحي! جعلت منظر الخلق مزيَّنا ومنظر الحق منجَّسا! إن أردت الفلاح فتب من جميع ذنوبك، وأخلص في توبتك».

عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 1، ص: 308-311.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد