post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

كل ما لم يكن موافقا لنظرة الفكر الأوحد إلى العالم كان باطلا مناقضاً للقانون «الطبيعي» فوجب تنحيته عن الطريق ليفسح المجال للحق. عتيق يستبدل به الجديد.



ذلك أن الحداثة لم تكن مجرد فلسفة محلقة في فضاء التصورات المجردة، مجرد استدلالات تتضارب في منتديات المتأدبين، بل كانت منذ ولادتها ثورة مُطوِّرة تهيج الواقع الـمُحَس وتزعجه، فتاكة بالقديم، مجهزة عليه.



هكذا، ببطء في مستهل عصر النهضة لتتسارع العجلة فيما بعد، لتزحف العلوم والتقنية، فلسلفة الأنوار والحركية الاجتماعية، تغذيها إيديولوجية حادة عنيفة.



تحركت الثورة الفرنسية ومن بعدها الانقلاب القاتل الذي قام به الإمبراطور نابوليون لتسري حمى التغيير الجارف في أوصال أوربا. وتحركت عجلات ثورة أخرى أعمق أثراً: الثورة الصناعية التي مكنت أوربا من الإثراء والتسلح لتخوض الدول/الأمم الأوربية حروبا أكثر حداثة، أي أشد ضراوة من المجازر اليدوية التي مثلتها الحروب النابوليونية. كانت الرأسمالية المصنعية ثم الصناعية، الـمُمكننة، في حاجة ماسَّة إلى فضاء حيوي. لذا كان من الضروري اللجوء إلى إخلاء الطريق، لأن أهداف السياسات الاجتماعية التحديثية تنحصر حسب تورين في إخلاء السبيل أمام العقل، بإلغاء كل القوانين، كل الموانع الحرفية أو الحواجز الجمركية. وذلك لا يتم حسب عالمنا الاجتماعي إلا «بمَدِّ المقاول بالسلامة والتوقعية اللتين يحتاجهما، وبتكوين مدبرين وفاعلين أكفاء ومسؤولين».



فمنذ ولادة الحداثة الفيلسوفة، الثورية، المتاجرة والمروجة، برز الاهتمام بخدمة المقاولة وتحطيم الحواجز التي تمنع من فتح أسواق لها. لم تكن دوافع الحروب التي تواجهت فيها الدول/الأمم الأوربية وحملات الاجتياح الاستعماري استراتيجية فقط، هدفها الدفاع المشترك بل كان ولا يزال اقتسام الموارد الاقتصادية وفتح المنافذ لتصريف المنتوجات الصناعية رهان المنافسة المسعورة التي ما فتئت تهز العالم وتشعل الحرائق. لم تكن الحروب الأوربية الداخلية والهجمة الاستعمارية رغم ضراوتها سوى مقدمة للحروب الاقتصادية الحالية والقادمة، فالحداثة الإيديولوجية والآلة الطاحنة لحداثة الكتلة الإنتاجية لم تستنفد بعدُ ما في جعبتها من سهام العدوانية.



الآن بعد أن اتسعت رقعة الهيمنة ما بعد الحداثية وتجاوزت حدود العالم الغربي، يتسلم النظام العالمي الجديد اللواء ليتابع السياسة الرأسمالية التوسعية، هذا الوليد المتوحش للحداثة، المتقمص لباس العولمة، المتصاعد سعاره يوما بعد يوم.



جاءت الحداثة لتسحق بنيات إقطاعية كانت تحتضن تنظيمات إنتاجية حرفية في إطار هيئات تمثل أُسَراً حِرفية ترعى في ظل أرستقراطية مترفة الرابط الإنساني الذي يجمع المتعلم بالمعلم والعامل بصاحب المعمل.



فجأة، حلت القاعدة الرأسمالية الخارجة من رحم عقل يسعى قبل كل شيء إلى الفعالية وفائض القيمة ليتلاشى التضامن بين الحرفيين الأحرار وبين الجمعيات المحكومة بالقانون العرفي، لتُمحى هذه المفاهيم من سجلات العهد الحديث.



فرغم اعتراف الحداثة بلسان ذويها من الاجتماعيين أنها جرافة تخلي الطريق أمام التقدم، محت الثورة الصناعية من المشهد الاجتماعي التضامن الحرفي والضيافة القروية المسالمة. وهكذا، اضطر الريفي الذي كان يعيش عيشة الكفاف المطبوعة بالمودة الإنسانية إلى مغادرة حضن أرضه الدافئ قاصداً المدينة حيث يغذي صناعة جماعية شرهة إلى اليد العاملة. هكذا ألقي بملايين الأشخاص بين مخالب البؤس البارد المخيم على الضواحي الصناعية لتزدهر رأسمالية تدين بدين الربح، دين حل تدريجيا محل اللاهوت الثوري (كائن روبسبير الأعلى) الذي طرد الكنيسة.



شغَّلت عبادة العجل الذهبي حركيةً عملت أولا على تفصيل المجتمعات الأوربية لتنكب بعد ذلك على العالم تقسمه إلى إمبراطورية استعمارية. تداعى إذن مخططون غازون -مدفوعين بالرغبة في كسب الأمجاد لدولهم- على خريطة العالم ليُفَصِّلوها حسب مصالحهم الاستعمارية مدعومين بمهندسين حاذقين مُسخَّرين لخدمة العلم حسب رغبات القوى الاستعمارية.



حربان عالميتان في هذا القرن العشرين أظهرتا مدى القوى المدمرة التي تملكها الحداثة. عجزت الأمم الأوربية الحديثة أن تتقاسم أسلاب الشعوب المستضعفة فضحَّت بأجيال كاملة على نصب المنافسة الضارية بين القوى الاستعمارية الشرسة المتسابقة على خطب ود من يخترع أشد الأسلحة فتكا وتدميراً.



لم تكن المغامرة الهتليرية الدامية الباحثة عن المجال الحيوي سوى التجلي الحاسم للتطور الحديث المبني على العقل والمسخر لتحقيق الفعالية. هكذا سُخرت دبابات هتلير التي كانت تمثل قمة التقنية آنذاك، للهيجان المسحور المستبد بمُنَظِّر إيديولوجي مجنون ممتلك لأحدث الوسائل، فأضحت منذئد الهتليرية المقترنة بالحرب العالمية الثانية المدمرةِ أفدح جائحة أصابت الإنسانية.



لقد تميزت هذه الحرب الحديثة عن المغامرات التي تنتمي إلى الصنف النابوليوني والتي كانت الأسلحة اليدوية البدائية توزع الموت فيها بالتقسيط، باعتمادها على وسائل التنظيم والاختراع والصناعة والاستراتيجية العسكرية المطبوعة بطابع العقلية. فالحرب الهتليرية ليست سوى الابنة الشرعية لحرب 1914 الضارية: بنوة بشعة وصيرورة جهنمية للعنف الحديث، الرأسمالي، الإمبريالي، المنكب على عبادة الفعالية والربح. لكن هذه الحروب ليست سوى انفجارات مؤقتة لبركان ينخر أعماق المجتمع الحديث ويفرغ بدون إخماد حممه الملتهبة على المحيط البيئي والحياتي.



ثلاثة أسلحة إذن تتكون منها ترسانة الحداثة الحداثية: سلاح النقد الذي تُشَغِّله الإيديولوجية الحداثية، والسلاح الرأسمالي الذي يعبد صنم الربح، والسلاح المادي لإخلاء الطريق أمام الرأسمالية والأفكار التي تبنيها.



فالنقد الإيديولوجي -أفتك الأسلحة الثلاثة- يهاجم كل قديم ويحكم عليه بالبدائية لأنه يقوم على الغيب الذي يجب لفظُه باعتباره خداعا يستند إلى «وحي» أو قرار «متعال عن البشر». بذا يكون الإسلام مستهدفا مباشرة من طرف الحداثة ما دام يقوم على وحي مقدس وما دامت مرجعيته هم رسل الله عليهم السلام.



لا بد لنا هنا من التنبيه إلى أن نَعْتَ الأمر الإلهي بأنه «متعال على البشر» يشكل قطيعة في المستوى التجسيمي حيث نحط من قدر المقدس حين نمنحه نسبة من التفوق على ما هو بشري. فهذا النعت «متعال عن البشر» ليس مجرد صيغة لسانية بل هو تعبير عن إيديولوجية تضرب بجذورها في التربة الوثنية لتبلغ العقائد الهلينية المؤمنة بجبل أولمب الآهل «بآلهة» و«ببشر خارقين» يتسافدون مع البشر ويقاسمونهم أهواءهم وعاداتهم وتقاليدهم.



إن سلاح النقد الذي تحركه الإيديولوجية الحداثية يقطع ويفصل عقول عدد من مواطنينا الذين استلبتهم كلياً أو جزئياً الأليكة المنهجية بواسطة الهجمة الثقافية، ونحن ندرك أن الدعاية الحالية المناهضة لحضارة الإسلام ولعقيدة الإسلام لن يكون لها أي وزن تاريخي لولا أن البهتان يصدر عن الشك والشقاق والكفر التي زرعتها الحداثة في العقول.



إننا نؤمن أن التصفية الجسدية لم تأت قَطُّ على الأفكار وأنها لا تستطيع أبداً اجتثات الإيمان من القلوب والاقتناع من العقول. لكننا ندرك في نفس الحين أن إعادة تربية الناس وتخريب نفوسهم ببث الشك فيها ووصف الوحي بالكذب والافتراء، تعني اقتلاع أسس الشخصية، والقيام بالتدمير الغادر الذي يَعجز عن بلوغه النهب الاقتصادي والاجتياح العسكري. فترويض أجيال على استجداء غِذائهم الثقافي من السيد المفكر، السيد الذي رفعته حداثته إلى مقام التقديس، يعني تهييء حلفاء ثِقاتٍ سيتجندون دون شرط لتنفيذ تعليمات السيد، كما يعني القفز بهم إلى مواقع الحكم، أُجراء طيعين رغم أنهم يصدحون بشعارات وطنية طنانة.



هؤلاء العُملاء، المنتدبون في بلدانهم، الـمُرْتدون الأقنعة المحلية، أفظع من المحتل الرأسمالي الـمُطِلِّ على الساحة، المستقر بسهولة في بلدك لنهب اقتصادك.



ليس السلاح العسكري إذن وسلاح الرأسمالي سوى أداة للاكتساح الحضاري: إنها الحرب الشاملة.



عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ص: 35-38.

قضايا الأمة

حداثة رأسمالية مسلحة

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

حداثة رأسمالية مسلحة

حقوق المواطنة

شوق الرسول ﷺ إلى إخوانه

المؤمنات واستكمال الإيمان

خطاب الروح الصليبي وبطشه

وراثة النبوة

مقالات ذات صلة