مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

أحاديث نبوية شريفة
العاقل لا يغفل عن ذكر الآخرة
من حكم ابن عطاء الله

إلى الأساتذة الجامعيين بمناسبة زيارتهم بسلا

السبت 11 محرم 1424

رابط تحميل المختارة

أحاديث نبوية شريفة

حسن الظن بالله عز وجل

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن حسن الظن بالله تعالى من عبادة الله”. هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.أخرجه الحاكم في مستدركه.

خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مومن

عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن من أفضل أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن”.أخرجه الطبراني في معجمه الكبير.

ألهاكم التكاثر

حدثنا هداب بن خالد حدثنا همام حدثنا قتادة عن مطرف عن أبيه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ألهاكم التكاثر قال: “يقول ابن آدم: مالي! مالي! قال: وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟”. أخرجه مسلم في صحيحه.

انتظار الموت

فتح الباري، للإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله.

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبُرُ مَعَهُ اثْنَانِ حُبُّ الْمَالِ وَطُولُ الْعُمُر”.ِ أخرجه البخاري.

قوله (يكبر) بفتح الموحدة أي يطعن في السن.

قوله (ويكبر معه) بضم الموحدة أي يعظم، ويجوز الفتح، ويجوز الضم في الأول تعبيرا عن الكثرة وهي كثرة عدد السنين بالعظم.

قوله (اثنتان حب المال وطول العمر) في رواية أبي عوانة عن قتادة عند مسلم “يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان الحرص على المال، والحرص على العمر” ثم أخرجه من طريق معاذ بن هشام عن أبيه قاله بمثله.

قال النووي هذا مجاز واستعارة ومعناه: “أن قلب الشيخ كامل الحب للمال متحكم في ذلك كاحتكام قوة الشاب في شبابه، هذا صوابه، وقيل في تفسيره غير هذا مما لا يرتضى”، وكأنه أشار إلى قول عياض: “هذا الحديث فيه من المطابقة وبديع الكلام الغاية، وذلك أن الشيخ من شأنه أن تكون آماله وحرصه على الدنيا قد بليت على بلاء جسمه إذا انقضى عمره ولم يبق له إلا انتظار الموت، فلما كان الأمر بضده ذم”.

قال: “والتعبير بالشاب إشارة إلى كثرة الحرص وبعد الأمل الذي هو في الشباب أكثر وبهم أليق لكثرة الرجاء عادة عندهم في طول أعمارهم ودوام استمتاعهم ولذاتهم في الدنيا”.

قال القرطبي: في هذا الحديث كراهة الحرص على طول العمر وكثرة المال وأن ذلك ليس بمحمود.

وقال غيره: الحكمة في التخصيص بهذين الأمرين أن أحب الأشياء إلى ابن آدم نفسه، فهو راغب في بقائها فأحب لذلك طول العمر، وأحب المال لأنه من أعظم الأسباب في دوام الصحة التي ينشأ عنها غالبا طول العمر، فكلما أحس بقرب نفاد ذلك اشتد حبه له ورغبته في دوامه.

واستدل به على أن الإرادة في القلب خلافا لمن قال إنها في الرأس، قاله المازري.

خير أعمالكم

عن زياد بن أبي زياد أنه قال: قال أبو الدرداء: “ألا أخبركم بخير أعمالكم وأرفعها في درجاتكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى! قال: ذكر الله تعالى”. قال زياد بن أبي زياد وقال أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل: “ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله”.أخرجه مالك في الموطأ.

دعاء الاستشفاء

فيض القدير، للإمام المناوي رحمه الله.

عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِي: أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعاً، يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ، ثَلاَثاً، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ” أخرجه الإمام مسلم.

(إذا اشتكيت) أي مرضت (فضع يدك حيث تشتكي) على الموضع الذي يؤلمك ولعل حكمة الوضع أنه كبسط اليد للسؤال. (ثم قل) ندباً (بسم الله)، ظاهره أنه لا يزيد الرحمن الرحيم ويحتمل أن المراد البسملة بكمالها.

(أعوذ) أي أعتصم بحضور قلب وجمع همة. قال الزمخشري: والعياذ واللياذ من واد واحد.

(بعزة الله وقدرته من شر ما أجد) زاد في رواية لابن ماجه وأحاذر (من وجعي هذا) أي مرضي وألمي هذا تأكيد لطلب زوال الألم، وأخر التعوذ لاقتضاء المقام ذلك. (ثم ارفع يدك ثم أعد ذلك) أي الوضع والتسمية والاستعاذة بهذه الكلمات (وتراً) أي ثلاثاً كما بينه في رواية مسلم، وفي حديث آخر سبعاً، وفي أخرى التسمية ثلاثاً والاستعاذة سبعاً، يعني فإن ذلك يزيل الألم أو يخففه بشرط قوة اليقين وصدق النية، ويظهر أنه إذا كان المريض نحو طفل أن يأتي به من يعوذه ويقول: من شر ما يجد هذا ويحاذر.

وإطلاق اليد يتناول اليسرى فتحصل السنة بوضعها لكن الظاهر من عدة أحاديث تعين اليمنى للتيمن إلا لعذر. فإن قلت لم عبر بالوضع دون الألم؟ قلت: إشارة إلى ندب الذكر المذكور وإن لم يكن المرض شديداً إذ الألم كما قال الراغب: الوجع الشديد فلو عبر به اقتضى أن الندب مقيد بما إذا اشتد الوجع وأنه بدون الشدة غير مشروع.

وكما ورد ذلك من قوله ورد من فعله، ففي مسلم من حديث عثمان بن أبي العاص: كان يضع يده على الذي يألم من جسده ويقول: “بسم الله ثلاثاً ويقول أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر”. قال الطيبي: يتعوذ من وجع ومكروه أو مما يتوقع حصوله في المستقبل من حزن وخوف. قال: والحذر الاحتراز عن مخوف.‏

العهود المحمدية، للإمام الشعراني رحمه الله.

روى مالك والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي عن عثمان بن أبي العاص: أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاث مرات أو سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر”. وفي رواية لمالك: “أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر”. قال عثمان: ففعلت ذلك فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم.

وفي رواية لأبي داود والترمذي عن عثمان قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وبي وجع قد كاد يهلكني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “امسح بيمينك سبع مرات، وقل أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد”. وروى أبو داود مرفوعا: “من شكا منكم شيئا أو اشتكاه أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ”.

وروى الترمذي مرفوعا: “إذا اشتكيت فضع يدك حيث تشتكي، ثم قل بسم الله أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد من وجعي هذا! ثم ارفع يدك، ثم أعد ذلك وترا”. والله تعالى أعلم.

(أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نتداوى بذكر اسم الله عز وجل على موضع المرض والوجع، ولا ندعو طبيبا إلا إذا لم يزل المرض بذكر اسم الله تعالى، والعلة في عدم زوال المرض بذكر اسم الله ضعف عقيدة المسمي لله عز وجل، فلو قوي يقينه لاهتز الجبل العظيم عند ذكره اسم الله تعالى، كما وقع للفضيل بن عياض وسفيان الثوري حين طلعا جبل ثور. وقال الفضيل: “إن من طاعة الله لعبده إذا أطاعه أن لو قال لهذا الجبل تحرك لتحرك الجبل”، فتحرك الجبل، فقال له الفضيل: “اسكن لم أرد تحريكك إنما ضربتك مثلا”(…).

فيحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به حضرات التعظيم لله عز وجل لتنفعل الأشياء له بذكر اسم الله تعالى فإن الله عز وجل يعامل العبد بقدر ما عنده من تعظيمه.

وقد قال رجل لذي النون المصري: يا سيدي علمني اسم الله العظيم، فقال له موبخا: أرني اسمه الأصغر حتى أعلمك الأكبر، ثم قال للسائل: اعلم يا أخي أن أسماء الله كلها عظيمة فاصدق واطلب بها ما شئت يحصل.

وقد كان شخص من أولياء الله تعالى يبصق على اليد المقطوعة فيلصقها فلصق يد إنسان فقال: بالله عليك تعلمني ذلك! فقال: أقول: بسم الله. فقال: ليس هذا هو! فوقعت يده.

واعلم يا أخي أن هذا الأمر لا يكون بالتفعل وإنما هو أمر يلقيه الله تعالى في قلب عبده المؤمن فيملؤه تعظيما.

فاسلك يا أخي على يد شيخ حتى تعرف عظمة الله، ثم بعد ذلك ارق نفسك وغيرك باسمه تعالى وإلا فلا يزول المرض برقياك بأسماء الله تعالى من حيث نسبة الأمر إليك، وإلا فقد يكون الإنسان مجاب الدعوة ويكون في مدة المرض بقية فلا يجاب، فما أثرت الرقى وعجلت الشفاء إلا في حق من انتهت مدة مرضه فافهم، كما أن العقاقير كذلك ما أثرت في عبد حصول الشفاء إلا إذا انتهت مدة المرض. ولذلك يستعمل تلك العقاقير أو الرقى شخص فلا يحصل له بها شفاء وذلك لكون مدة المرض ما انتهت، ثم يجيء إنسان انتهت مدة مرضه فيستعملها فيبرأ، فيقول: ما رأيت أسرع في شفاء المرض الفلاني من استعمال الشيء الفلاني، وإنما السر فيه ما ذكرنا من انتهاء مدة المرض فكانت الرقى والعقاقير مخففة للمرض لا غير إما بالخاصية وإما بغير ذلك.

العاقل لا يغفل عن ذكر الآخرة

إحياء علوم الدين، للإمام الغزالي رحمه الله.

العاقل لا يغفل عن ذكر الآخرة في لحظة فإنها مصيره ومستقره، فيكون له في كل ما يراه من ماء أو نار أو غيرهما عبرة وموعظة، فإن المرء ينظر بحسب همته؛ فإذا دخل بزاز ونجار وبناء وحائك دارا معمورة مفروشة فإذا تفقدتهم رأيت البزاز ينظر إلى الفرش يتأمل قيمتها، والحائك ينظر إلى الثياب يتأمل نسجها، والنجار ينظر إلى السقف يتأمل كيفية تركيبها، والبناء ينظر إلى الحيطان يتأمل كيفية إحكامها واستقامتها. فكذلك سالك طريق الآخرة لا يرى من الأشياء شيئا إلا ويكون له موعظة وذكرى للآخرة، بل لا ينظر إلى شيء إلا ويفتح الله عز وجل له طريق عبرة؛ فإن نظر إلى سواد تذكر ظلمة اللحد، وإن نظر إلى حية تذكر أفاعي جهنم، وإن نظر إلى صورة قبيحة شنيعة تذكر منكرا ونكيرا والزبانية، وإن سمع صوتا هائلا تذكر نفخة الصور، وإن رأى شيئا حسنا تذكر نعيم الجنة، وإن سمع كلمة رد أو قبول في سوق أو دار تذكر ما ينكشف من آخر أمره بعد الحساب من الرد والقبول.

وما أجدر أن يكون هذا هو الغالب على قلب العاقل لا تصرفه عنه مهمات الدنيا. فإذا نسب مدة المقام في الدنيا إلى مدة المقام في الآخرة استحقرها إن لم يكن ممن أغفل قلبه وأعميت بصيرته.

من حِكم ابن عطاء الله السكندري

إلى متى تفر من ربك وتركن إلى غيره؟ العجب كل العجب ممن يهرب مما لا انفكاك عنه، ويطلب ما لا بقاء له معه ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور﴾[1].

أي العجب الكامل من العبد الذي يهرُب – بضم الراء من باب نَصَر – أي يتباعد من ربه الذي لا انفكاك له عنه بأن لا يفعل ما يقربه إليه، مع توارد إحسانه عليه، ويطلب ما لا بقاء له معه وهو الدنيا وكل شيء سوى الله، بأن يقبل على شهواته، ويتبع شيطانه وهواه. وما ألطف ما قيل لمن هو من هذا القبيل:

تفنى اللذائذ يا من نال شهوته***من المعاصي ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقبُ سوءٍ لا انفكاك لها***لاخير في لذة من بعدها النار

وهذا إنما يكون من عمى البصيرة التي هي عين القلب، حيث استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وآثر الفاني على الباقي. وفي الآية إشارة إلى أن عمى الأبصار بالنسبة لعمى البصائر كالأعمى، فإن عمى الأبصار إنما يحجب عن المحسوسات الخارجية، وأما عمى البصائر أي عيون القلوب، فإنه يحجب عن المعاني القلبية والعلوم الربانية.

لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى يسير والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾[2]. وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم : “فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه”. فافهم قوله عليه الصلاة والسلام، وتأمل هذا الأمر إن كنت ذا فهم. والسلام .

أي لا تطلب بأعمالك الصالحة عوضاً، ولو في الآخرة. فإن الآخرة كون كالدنيا، والأكوان متساوية في أنها أغيار وإن وجد في بعضها أنوار، بل اطلب وجه الكريم المنان الذي كون الأكوان، وفاءً بمقتضى العبودية، وقياماً بحقوق الربوبية لتتحقق بمقام: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾. وهذا مقام العارفين الذين رغبوا عن طلب الثواب، ومحضوا النظر إلى الكريم الوهاب، فتحققوا بمقام الإخلاص الناشئ عن التوحيد الخاص. وأما من فر من الرياء في عباداته، وطلب بها الثواب، فقد فر من كون إلى كون بلا ارتياب، فهو كحمار الرحى -أي الطاحون- يسير ولا ينتقل عما سار منه لرجوعه إليه. وفي هذا التشبيه التنفير عن هذا الأمر ما لا مزيد عليه. وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله” أي نية وقصداً، “فهجرته إلى الله ورسوله”؛ أي وصولاً.

أنوار المعارف على قلوب الذاكرين الله كثيرا، قوم تسبق أنوارهم أذكارهم، وقوم تسبق أذكارهم أنوارهم .

يعني أن الواصلين إلى الله تعالى على قسمين: قوم تسبق أنوارهم أذكارهم، وهم المجذوبون المرادون الذين لم يتكلفوا شيئاً، بل واجهتهم الأنوار فحصلت منهم الأذكار .

وإذا حلت الهداية قلباً***نشطت للعبادة الأعضاء

وقوم تسبق أذكارهم أنوارهم، وهم المريدون السالكون، فمتى اجتهدوا في الأذكار حصلت لهم الأنوار واهتدوا لمرضاة العزيز الغفار. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا[3]. ثم بين حال الفريقين بعبارة أخرى فقال:

 ذاكر ذكر ليستنير قلبه، وذاكر استنار قلبه فكان ذاكراً.

الأول راجع للفريق الثاني وهم السالكون، والثاني راجع للفريق الأول وهم المجذوبون، وكل على نور.

ما كان ظاهرُ ذكرٍ، إلا عن باطن شهود وفكر.

يعني أن الذكر الظاهر -والمراد به الأعمال الظاهرة جميعها- لا تكون إلا عن باطن شهود الحق جل شأنه، والتفكر في آثار قدرته، فإن صلاح الظاهر تابع لصلاح الباطن. وإنما خص الذكر بالذكر من بين سائر الأعمال لأنه روحها والمقصود بالذات منها، قال تعالى: ﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي[4]. ثم وضح هذا المعنى بقوله:

 أشهدك من قبل أن يستشهدك فنطقت بإلـهيته الظواهر، وتحققت بأحديته القلوب والسرائر.

أي أطلعك سبحانه على وحدانيته بتجلي أنوار المعارف على قلبك، حتى شاهدت ذلك على حسب قدرك، من قبل أن يستشهدك – أي يطلب منك أن تشهد بعظمته وجلاله بذكرك وعبادتك – فإن الذكر والعبادة شهادة منك بعظمة المذكور والمعبود، فنطقت بألوهيته – أي ما يدل عليها – الظواهر – أي الجوارح – بأن أتت بالأعمال التي تكاد تنطق بعظمة ذي الجلال، وهذا راجع للاستشهاد.

أكرمك بكرامات ثلاث: جعلك ذاكراً له، ولولا فضله لم تكن أهلاً لجريان ذكره عليك. وجعلك مذكوراً به؛ إذ حقق نسبته لديك. وجعلك مذكوراً عنده، فتمم نعمته عليك.

يعني أن الله تعالى أكرمك أيها المؤمن بثلاث كرامات جمع لك فيهن أنواع الفضائل والمبرات: الأولى: جعلك ذاكراً له بلسانك وقلبك، ووجه حلاوة ذلك إليك، ولولا فضله لم تكن أهلاً لجريان ذكره عليك.

والثانية: جعلك مذكوراً به عند الناس، بأن يقال: هذا ولي الله وذاكره، إذ حقق نسبته -أي خصوصيته- لديك، وهي ما أظهره من أنوار الذكر والطاعة عليك.

والثالثة: جعلك مذكوراً عنده، فتمم نعمته عليك بمزيد الإكرام ومنتهى الفضل والإنعام. وفي الحديث القدسي: “من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه”. وقال صلى الله عليه وسلم: “ما جلس قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده”. والعندية هنا عندية مكانة – أي شرف – لا مكان، تعالى الله عن ذلك.‏

اشتغل بإصلاح عيوبك و لا تعلق همتك إلا بالله، اهتدى الراحلون إليه بأنوار التوجه، والواصلون لهم أنوار المواجهة. فالأولون للأنوار، وهؤلاء الأنوار لهم، لأنهم لله لا لشيء دونه، ﴿قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ[5].

أي اهتدى السالكون السائرون إلى الله تعالى بأنوار التوجه -أي الأنوار الناشئة من العبادات، والرياضات التي توجهوا بها إلى حضرة الرب- فإن الله تعالى يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا[6]. والواصلون إلى الله تعالى لهم أنوار المواجهة أي التقرب والتحبب -فالأولون عبيد للأنوار- لاحتياجهم إليها في الوصول إلى مقصودهم. وهؤلاء -أي الواصلون- الأنوار لهم، لأنهم لله لا لشيء دونه، عملاً بإشارة قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ أي توجه إليه، ولا تمل إلى أنوار ولا غيرها، ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ -أي اتركهم- ﴿فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ[7]. فإفراد التوحيد بعد فناء الأغيار هو حق اليقين. ورؤية ما سوى الله خوض ولعب.

تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب، خير من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب .

تشوفك، بالفاء في الموضعين، أي تطلعك بعين البصيرة إلى ما بطن، أي خفي فيك، من العيوب والأمراض القلبية؛ كالكبر والحقد والعجب والرياء والسمعة والمداهنة وحب الرياسة والجاه ونحو ذلك، حتى تتوجه همتك إلى زوال ذلك بالرياضة والمجاهدة، خصوصاً على يد شيخ عارف، خير لك من تطلعك إلى ما حجب عنك من الغيوب، أي ما غاب عنك، كالأسرار الإلهية، والكرامات الكونية، لأن هذا حظ نفسك، وذلك واجب عليك لربك. ‏

الاستقامة هي الكرامة الكبرى، ربما رزق الكرامة من لم تكمل له الاستقامة.

يعني: أن الكرامة التي هي الأمر الخارق للعادة لا عبرة بها عند المحققين، وإنما الكرامة الحقيقية هي الاستقامة. ومرجعها إلى أمرين: صحة الإيمان بالله عز وجل، واتباع ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً. ولذا قال أبو يزيد: لو أن رجلاً بسط مصلاه على الماء وتربع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه في الأمر والنهي.

وقيل له: إن فلاناً يمر في ليلة إلى مكة، فقال: إن الشيطان يمر في لحظة من المشرق إلى المغرب. وقيل له: إن فلاناً يمشي على الماء، فقال: الحيتان في الماء والطير في الهواء أعجب من ذلك.

من علامة إقامة الحق لك في الشيء إقامته إياك فيه مع حصول النتائج.

يعني: أن من علامة إقامة الله تعالى لك في الشيء كالاكتساب أو التجريد إقامته – أي إدامته- إياك فيه مع حصول النتائج -أي الثمرات- كسلامة الدين ووجود الربح من الكسب.

 من عبر من بساط إحسانه أصمتته الإساءة، ومن عبر من بساط إحسان الله إليه لم يصمت إذا أساء.

يعني: أن من انبسط لسانه بالنصيحة والموعظة والتكلم في علوم القوم وعبر من بساط إحسانه -أي من إحسانه للطاعة الشبيه بالبساط- أصمتته -أي أسكتته- الإساءة، فينقبض عن ذلك التعبير عند صدور المعصية منه لما يعتريه من الخجل والحياء من ربه، وهذه طريقة أهل التكليف الذين ينظرون إلى ما منهم إلى الله.

وأما من عبر من بساط إحسان الله إليه فإنه لم يصمت إذا أساء -أي لم يسكت عن التعبير إذا صدرت منه معصية- لأن غيبته عن نفسه ومشاهدته لوحدانية ربه أوجبت جراءته على ذلك، وهذه طريقة أهل التعريف الذين ينظرون إلى ما مِنَ الله تعالى إليهم.


[1] الحج، 46.
[2] النجم، 42.
[3] العنكبوت، 69.
[4] طه، 14.
[5] الأنعام، 91.
[6] العنكبوت، 69.
[7] الأنعام، 91.

أضف تعليقك (0 )



















0
يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد