مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

طريقة الشكر

بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾. اللهم إني أسألك من كل خير خزائنُه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنُه بيدك.
يمر المريد من حيث نوعيةُ معاملتِه مع الله سبحانه بثلاث مراحل، قد يقف عند واحدة منها لا يتجاوزها، وقد تُطوَى له طيّاً كما يحدث للمراد الذي تحمله القدرة الإلهية على رَفْرَف العناية واللطف فلا يعرف مجاهدة ولا مراحل ولا غيرها إلا بعد الوصول، فيرجع وبصيرته نيرة ليستوفي آداب الطريق ويطَّلِعَ على معالم التوفيق.
المرحلة الأولى يكون فيها المريد متقد الشِّرَّة، حاد الهمة، كثير الاعتماد على نفسه وكسبه. وهذه المرحلة تتناسب مع المجاهدة، يسير فيها السالكون بالجوارح والأشباح. والصبر والمصابرة خلقها. والاستقامة حُداؤُها.
المرحلة الثانية تفتُر فيها الشرة ويغيب شهود السّالِكِ قُوَّتَه، وينكشف له ضَعْفُهُ وعَجْزُهُ، فلا يجد مستعاناً إلا بالله الكريم الوهاب، ولا يعتمد إلا على جوده وتوفيقه وعطائه سبحانه. هذه المرحلةُ خُلُقُها الشكر، وحُداؤها الهدايةُ.
المرحلة الثالثة يتعاظم في قلب المريد حقُّ الله عز وجل، وتتضاءل في عينه نفسُه، ويتلاشى فيها ما كان معتَبَرا من شؤون الخلق وأمور الدنيا، ويَحْقُر عنده كل ما كان ذا بالٍ غير الله. هذه المرحلة هي دهليز المعرفة ومقدمة تحقيق العبودية.
وطريقة الإمام الشاذلي رضي الله عنه تأخذ بتسليك المريد من المرحلة الأولى بأسرع ما يمكن ليتجاوزها إحساساً قلبيا دون التفريط في شيء من الطاعات ودون الإغراق في المجاهدة. المرحلة الأولى خطيرة لما تتضمنه من اعتداد النفس بما عندها. وذلك نَوْعُ التفات عن باب الجود الإلهي. فإن طال بالمريد الـمُقامُ في هذه المجاهدة الملتفتة صعب عليه التخلص من مشاهدة حوْله وقوته، ولزم أن يكون حدَّاد نفسه كذا وكذا سنة. وكم من حداد نَفَخَ في كير المجاهدة ولم تَنْقدح له شرارة إِخلاصٍ فبقي مع نفسه يلاحقها وتلاحقه، ويخبِطُها وتَخْبِطُه.
في طريق المجاهدة، ويمكن القول بإجمال إنها أكثر ما وجدت في القرون الستَّة الأولى، كان الشرط الراجح في السلوك هو عمل المريد وَأوراده وتطريقه نفسه العصيَّة يضربها بصمصامة التوحيد ويقاتلها برماح مخالفتها. ويأتي شرط الصحبة كاللاحق المكمل.
في طريقة الشكر التي تتجلى في سلوك الصوفية منذ الإمام الشاذلي يترجح شرط الصحبة، وتحمل همَّة الشيخ وإشعاعه الروحي قلوب تلامذته حملا من مواطن الخطر وكأنه سفينة نوح عليه السلام.
تلك تجليات القدرة الإلهية على طالبي الحق المترشحين لمقامات الإحسان في عهد ما بعد النبوة والخلافة الراشدة. ابتلَى الله عز وجل من شاء من أوليائه بسلوك المجاهدة، ووسَّع على آخرين فشكروه. فتح لأصحاب المجاهدة في الآفاق الكونية كوناً بعد كون، فجالت عيون قلوبهم في الأسرار والأنوار من عالَم الملكوت، وما منها كونٌ طالعه السالك إلا أغراه جمالُه وأسراره بِالـمُكث. ومن تولى شيئا غير الله لم يفُزْ بالله. فكم قتيل وجريح. وطوى لآخرين الـمَهيعَ فلم تَحُطَّ قلوبهم الرحالَ إلا عنده، ولم تبصر عيونها إِلا نورَه. فإذا التفتت تلك البصائر بعد مشاهدة أنوار الربوبية هان عندها كل شيء دون الله جلت عظمته.
والمرجو من كرمه عزت قدرته وتقدست حكمته أن يَحْبُوَ أَجْيال الخلافة الثانية بما حبا به مجاهدي الأولى من سلوك جهادي تُطْوَى لهم فيه المراحل ليفرغوا لإعادة بناء الأمة وتوحيدها، وتشييد صرح الخلافة، وحمل رسالة الإسلام إلى العالمين. ويكونُ الله عز وجل وكيلا عمن اشتغل بمصير الأمة وحمل الرسالة ليصلح شأنه الخاصَّ، ويرفع درجتهُ. حتى إذا اكتمل سلوكُه وبلغ الكتاب أجلَه واستوت نشأته الثانية فتحَ لهُ ليجد نفسه في عِداد الواصلين، وقد سبق أهلَ المجاهدة بالجهاد، وسبق أهل الشكر بشكر العاملين كما سبق داود الشاكرُ بالعمل، خليفةُ الله في الأرض عليه وعلى نبينا وعلى إخوانهما جميعا أفضل الصلاة وأزكى السلام.
قال الإمام الشاذلي رضي الله عنه: «الناس على ثلاثة أقسام: عبد هو بشهود ما منه إلى الله، وعبد هو بشهود ما من الله إليه، وعبدٌ هو بشهود ما من الله إلى الله».1
قلت: الذي يشهَدُ ما يصدُر منه هو إلى الله عز وجل هو العابد والسالك المبتدئ على طريق المجاهدة. فقلما يشهد هذا القصورَ في أعماله. والذي يشهدُ ما من الله إليه هو الحاضر مع مِنَّة المولى، الشاكرُ للعطايا. والثالث هو العارف العبد الذي ينطق لسان حاله: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وللعارف نصيبٌ من شهود المرحلة الثانية. قال الإمام أبو الحسن: «العارف من عرف شدائد الزمان في الألطاف الجارية من الله عليه، وعرف إساءة نفسه في إحسان الله إليه. ﴿ فَاذْكُرُواْ آلاء اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.2
وقال: «قليل العمل مع شهود المنَّة من الله خير من كثير العمل مع رؤية التقصير».3
قلت: إذا كانت رؤية تقصير العبد في أعماله محمودةً في حق العُبَّاد والمبتدئين، وكان الاستغفار من التقصير والخطإِ والعمدِ والزلَلِ محموداً، فإن التفات المرء إلى عمله، مع ملازمة الأمر والنهي، ولو برؤية التقصير فيه نوع اعتداد بذلك العمل. وهذا سقوط من المرتبة العلية التي يغلب فيها شهودُ المنة، شهود ما من الله إلى العبد، كلَّ اعتبار، ويغلب شكر المنعم على كل اهتمام.

تابع القراءة في: عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 2، ص 403-405.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد