قبسات من إرث النبوة (6) الأمانة الإيمانية كنز في قلوب الأمناء
على أن دولة القرآن إن لم تَنْبَنِ على قاعدة إيمانية عميقة متجسدة في “جند الله” الربانيين، جماعة أو جماعات متعاونة متشاورة، فإن الشريعة المفروضة قانونا من أعلى لن تجد قلوبا تتأصل عليها ولا ذِمَماً ترسو فيها. وقد شهد الصحابة رضي الله عنهم أنهم أوتوا الإيمان قبل القرآن. قال جندب بن عبد الله وابن عمر وغيرهما: » تَعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا”. وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث لعبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “وإن الإيمان يُعطى العبدَ قبل القرآن”.
إذا كان الإيمان لا تعطيه تلاوة القرآن فأحرى أن لا تعطيه قراءة الكتب البشرية. الإيمان والدين يسريان من قلب الداعي والمصحوب وسلوكه إلى قلب الصاحب وسلوكه.
عنون البخاري بابه الثاني في “كتاب الإيمان” هكذا: “باب دعاؤكم إيمانكم” وفسر العلماء تبويبه بتفسير ابن عباس الذي قال في قوله تعالى: “قلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ”،1 قال: يقول: إيمانكم. قال الحافظ ابن حجر: “وقال غَيره (أي غير ابن عباس): “الدعاء هنا (أي في الآية الكريمة) مصدر مضاف إلى المفعول، والمراد دعاء الرسل الخلق إلى الإيمان. ليس لكم عند الله عذر إلا أن يدعوكم الرسول ف يؤمن من آمن ويكفر من كَفَرَ”.
وبناء على هذا التفسير واستنادا إلى الحديث الصحيح: “الرجل على دين خليله” أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن أبي هريرة بسند صحيح، نقول: دعاؤكم إيمانكم يمكن أن تفهمنا أن مقدار إيمان المدعو ودرجته وعمقه تقاس بوجود الداعي وبدرجة إيمانه على قدر ما اقتبس منه المدعو سماعا فطريا، وصحبة عملية، وملازمة وأخذا. وقد سبق أن شرحنا أن أخذ الدين عن الأكابر هو المنطلق الصحيح.
الإيمان أمانة، والأمانة الإيمانية كنز ومعين في قلوب الأمناء، والعلماء هم أمناء الرسل كما جاء في الحديث. والقرآن أمانة تكليف عظيمة، ونور وهداية وبيان. نرى القلوب الخَرِبَةَ تقرأ القرآن باللسان العربي المبين لكن القلوب عجماء صماء لا أثر فيها لأمانة الإيمان، فهي أعجز عن تحمل أمانة القرآن. أوتي الأحباب الصحابة الإيمان قبل القرآن فكانوا رجالا. ولا يَنقَطع نسل تلك الرجولة إلى يوم القيامة، ولنتذكر شوق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى رؤية إخوانه من بعده.
من حديث رواه الشيخان والترمذي عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الأمانة قد نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من الكتاب وعلموا من السنة”.
ويقول رب العزة والجلال في محكم كتابه: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾.1
عقيدتنا أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقُصُ كما جاء بذلك الوحي. أهم ما يزيده سماع القرآن. فإذا لم يوت العبد الإيمان قبل القرآن، ولم يكن في القلوب أصل إيماني سابق فكيف تتصور الزيادة؟
إن وُجد أصل إيماني في القلوب، وهذا الأصل لا إمكان لاكتسابه إلا بالتربية وهي إيقاظ الفطرة وتقويمها، يفعل الأبوان في ذلك والمصحوب والجماعة الفعل الأول بعد هداية الله تعالى وشرحه صدر من شاء للإسلام، فإن بالإمكان تقوية ذلك الأصل وتزكيته وترقيته في معارج العقبة الإحسانية إلى أن يبلغ العبد المرتبة التي سبقت له بها الحسنى عند الله عز وجل. الإحسان، ج 1، ص 113-115.
أضف تعليقك (0 )