يمثل الجهاد في مسيرة الأمة الإسلامية علامة حياة متجددة بالإيمان والقوة والعطاء العمراني، وفي مسيرة المؤمن والمؤمنة مفتاحا حقيقيا لحياة طيبة تحت رعاية الله تعالى ورضوانه. وقد كان الجهاد في سائر المراحل التاريخية لأمة الإسلام شعلة متجددة بتجدد إيمان الدعاة المجاهدين والعلماء العاملين، وبتجدد الاجتهاد المنطلق من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد أثار الأستاذ عبد السلام ياسين في سياق اجتهاده المنهاجي جملة من الأسئلة الجوهرية بشأن مفهوم الجهاد ومقدماته وأبوابه ومقتضياته، فكانت مقاربته الفكرية قائمة على أسس ومداخل يتعين على كل باحث أن يضعها بموضع الاعتبار والاهتمام.
لهذا سنجتهد في الفقرات التالية من هذا المقال، في بيان هذه الأسس والمداخل العلمية المؤسسة لعلم الجهاد في الإسلام:
1. الجهاد والمعراج السلوكي
اجتهد الأستاذ عبد السلام ياسين في إعادة الاعتبار للتربية الإيمانية الإحسانية في تأسيس النظر العلمي إلى قضية الجهاد ومتعلقاته؛ فأعلن أنه “لا جهاد بدون تربية”، وأنه يجب أن يكون الهم الأول لكل مؤمن ومؤمنة نيل رضى الله، ورضى الله أشبه أن يناله المجاهدون. فمن ثم ينبغي للتربية الإيمانية الإحسانية أن تربط جهاد النفس لترويضها على الحق بجهاد العلم والعمل. وينبغي للتنظيم المنهاجي أن يؤسس حركته الأفقية اليومية والتاريخية على ذلك الشوق الذي يحث العبد على اقتحام العقبة إلى الله.[1]
إن نبذ جند الله لحب الدنيا، رأس كل الخطايا، لهو سبيل النجاة من التردي في منعرجات الفتنة وأوحال البعد عن الله عز وجل. ولا يتصور عمل ولا جهاد بدون تجديد المعاني الإيمانية في قلوب المؤمنين والمؤمنات المتراصين في صفوف الطليعة القائمة لخدمة الإسلام، وخدمة أمة الإسلام.
2. الجهاد والقراءة التاريخية
في المشروع التجديدي الذي بناه الأستاذ عبد السلام ياسين، نجد الربط جليا بين البناء العلمي للجهاد والسلوك العملي للمجاهدين من جهة، وبين القراءة التاريخية لمسيرة الأمة الإسلامية وفق إخبار النبوة الذي نجده في حديث الخلافة على منهاج النبوة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت.” [2]
ليس الجهاد المقصود في فقه التجديد عملا جزئيا محصورا في مجال مخصوص، بل هو جهاد شامل يستضيء بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم الذين بنوا صرح دولة القرآن في مرحلتي النبوة والخلافة الأولى، والذين جمعوا أطراف الإحسان وأقطار المجد الدنيوي والأخروي من كل جانب.[3]
هو جهاد شامل يخرج الأمة مما فعله المستبدون الوراثيون الذين انقضوا على الحكم، وأجهزوا على قيم العدل والشورى والإحسان، وأدخلوا الأمة في متاهات البغي والظلم والعنف تحت سياط الملك العاض والملك الجبري.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين موضحا الأفق الجهادي المستقبلي ونوعية الرجال الذين تحتاجهم جهود البناء الإسلامي: للنهضة الثانية، نهضة الخلافة على منهاج النبوة، نحتاج رجالا، ونساء، أقوياء أمناء، مسلحين بالعلم والخبرة والكفاءة العملية ليحملوا للعالم رسالة الإسلام، ليُغيروا وجه العالم،ليُجيبوا عن الأسئلة من الحجم الضخم التي يطرحها العصر على الإنسانية، ليقاوموا في مقدمة المستضعفين طغيان الرأسمالية العاتية التي تستعبد أربعة أخماس الإنسانية ليعيش القلة المستعلية في الترف واللذة.[4]
يكون الجهاد مفتاحا للتقرب من الله تعالى، ومرقاة إلى الهداية والخير، للمؤمن العامل والمؤمنة. وهو للأمة طريق النصر والفلاح والعزة بين العالمين.
3. تكامل مسارات الجهاد
تتكامل مسارات الجهاد المطلوب في حاضرنا الغثائي الذي تجتمع فيه عناصر الوهن والبغي والتظالم الداخلي، وعناوين الذلة بين الأمم القوية المصنعة. فيكون من الأولويات أن يجاهد المؤمن نفسه لتستقيم على طاعة الله ورسوله، مندمجا في صف المؤمنين المتواصين بالحق المتواصين بالصبر.
إنه جهاد جماعي يسعى لتحقيق قومة شاملة، وهذا يقتضي أن تندمج الطليعة في الأمة، وتتحرك الأمة بكاملها، كل في خندق رصده للعدو، أو ورش بنائه للمستقبل. وإن تحرك الأمة في هذا الاتجاه باستقلال إرادة، ووضوح رؤية، ومضاء عزيمة، لهو البرهان القطعي على أن الأمة بدأت زحفها الجهادي للخروج من ورطة المهانة والهزيمة، والفقر والجهل والمرض، بقوة من ذاتها، وبمواهب من نفسها وجهدها.[5]
فمن الضروري إذن أن ندرك أن القضية الجهادية لا تعطي النتائج المرجوة إلا بتضافر الجهود الفردية والجماعية واندماجها في جهاد الأمة الشامل. وهذا التكامل بين مسارات الجهاد هو الكفيل بتتويج الأمة بإكليل النصر والعزة والريادة في العالم، وبتمكين الأمة من حمل رسالة الرحمة والهداية للناس كافة. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
[1]ياسين عبد السلام: المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص 23، الطبعة الثالثة، الشركة العربية الإفريقية للنشر والتوزيع، لبنان 1994.
[2]رواه الإمام أحمد.
[3]ياسين عبد السلام: الإحسان، ج 1، ص 54، الطبعة الأولى، مطبوعات الأفق الدار البيضاء 1998.
[4]ياسين عبد السلام: العدل، الإسلاميون والحكم، ص 169-170، الطبعة الأولى، أفريقيا الشرق 2000.
[5]ياسين عبد السلام: في الاقتصاد، ص 19-20، الطبعة الأولى، مطبوعات الأفق الدار البيضاء 1995.
أضف تعليقك (0 )