مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

معالم التربية والجهاد في ذكرى الإسراء والمعراج

0
معالم التربية والجهاد في ذكرى الإسراء والمعراج

معالم التربية والجهاد في ذكرى الإسراء والمعراج |

الحمد لله الذي أكرم المصطفى ﷺ بمعجزة الإسراء والمعراج ، وأشهد أن لا إله إلا الله المستحق لكل مدح وثناء، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي جلب إلينا الخير والسراء، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم اللقاء.

أَمّا بَعْدُ، فإن الإسراء والمعراج ذكرى نبوية مباركة، ذكرى ليتذكر متذكر، ذكرى للذاكرين، ذكرى تنفع المؤمنين بإذن الله تعالى، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

سياق الرحلة المباركة

في البداية وقبل الحديث عن دلالات ودروس الإسراء والمعراج، لا بد من التعريج على سياق وظروف هذه الرحلة المباركة، ولابد من الانطلاق من قول ربنا عزوجل: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)

هو إخبار من المولى عز وجل بهذه الحقيقة التي لا مرية فيها أنه سبحانه وتعالى أكرم عبده بهذه المعجزة الكبرى وهذه المكانة العليا التي لم يبلغها أحد قبله من الأنبياء والمرسلين، وختمت الآية بقوله سبحانه “إنه هو السميع البصير”، فهو سبحانه سميع بصير بما لقيه الحبيب المصطفى ﷺ من أنواع الأذى وصنوف الابتلاءات، من تقتيل لأصحابه وحصار في الشعب وتهجير قسري للمستضعفين وأذى مباشر للجناب الشريف. ثم ازداد البلاء بفقدان زوجه الكريمة وسنده في دعوته ﷺ، إذ ماتت أمنا خديجة رضي الله عنها، وهي التي كانت تنصره بمالها وتعينه على نوائب الحق وتأسو جراحه بأرق وأصدق الكلمات: ” كلا والله، ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.” فكان لفقدها أشد الأثر عليه ﷺ.ثم توالت عليه المحن والإحن، ففقَد عمه أبا طالب نصيره وحصنه الحصين ومانعه في وجه أذى قريش، فسميت هذه السنة في كتب السيرة بعام الحزن. فلما أراد أن يفتح بابا للأمل، ذهب إلى الطائف ليبلغهم دعوة الحق ويجد فيهم النصير، فإذا بهم يغرون به سفهاءهم وأطفالهم، فرموه بالحجارة حتى دميت قدماه الشريفتان، فلما ضاقت عليه الأرض بما رحبت واستحكمت عليه حلقات المحن، توجه بقلب ضارع خاضع منكسر متبرئ من الحول والقوة مفتقر لرب المستضعفين بذلكم الدعاء المشهور: ( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكِلني ؟ إلى بعيدٍ يَتَجَهَّمُنِي أمْ إلى عدو ملَّكْتَه أمْري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحل بي سخطك، لك العُتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله.)

ولأن الله سبحانه تعالى يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، ولأن مع العسر يسرا، ما كان الله ليذر حبيبَه ﷺ يشكو بثه وحزنه دون جواب، فكانت رحلة الإسراء والمعراج نعم التسلية ونعم العزاء، وكما قال الإمام محمد متولي الشعراوي في أحد الحوارات وكأن القدر يقول له: إن كان أهل الأرض قابلوك بالقساوة، فإن أهل السماء سيقابلونك بالحفاوة. وإن كان أهل الأرض قابلوك بالجفوة فإن أهل السماء سيقابلونك بالإيناس والحظوة.

ويجد الناظر في ثنايا هذا الحدث العظيم دلالات ودروسا، ما أكثرها وما أجلها، نقتصر على سبع منها:

1. الصحبة مفتاح الوصول

يقول الحق سبحانه في سورة النجم: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى *

جاء في تفسير ابن كثير لهذه الآيات: “فهبط عليه جبريل، عليه السلام، وتدلى إليه ، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح ، ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، يعني ليلة الإسراء ، وكانت الرؤية الأولى في أوائل البعثة،  وفي قوله قاب قوسين أي اقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض حتى كان بينه وبين محمد ﷺ قاب قوسين أي : بقدرهما إذا مدا . قاله مجاهد ، وقتادة .وقد قيل : إن المراد بذلك بعد ما بين وتر القوس إلى كبده.

إن صحبة جبريل عليه السلام لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مدى الرحلة مسرى وعروجا دلالة واضحة على محورية الصحبة في فتح أبواب الوصل والوصول، فقد قرر أهل التربية أطباء القلوب أنه لا وصول إلا بدلالة عارف خبير يدلل لك الطريق، فكلما وقف الحبيب المصطفى ﷺ على مكان أو مشهد من المشاهد سأل جبريل عليه السلام، وكانت أسئلته ﷺ تتناسل وتتكاثر في المعراج لأنها أسئلة مصير العبد ومقامات القرب، ثم إن نزول الوحي على النبي ﷺ بواسطة جبريل عليه السلام يعني نزوله بواسطة صحبة، وكذلك الصحب الكرام تعلموا الدين بما هو إسلام وإيمان وإحسان بواسطة صحبة رسول الله ﷺ، وكذلك التابعون ومن بعدهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

  2. الجماعة عصمة واستفتاح، والمسجد منطلق المجاهدين

من قلب المسجد الحرام الجامع كانت الانطلاقة، وإلى المسجد الأقصى الجامع كانت النهاية في رحلة الأرض وبداية رحلة السماء، حيث صلى رسول الله ﷺ جماعة كإمام للصلاة بجميع الأنبياء وهم الأئمة في أقوامهم بما حباهم الله تعالى من كرامة النبوة وفتحها وأسرارها، في إشارة واضحة إلى أن الاعتصام والاستنصار بالجماعة عصمة واستفتاح وفتح أرضي للمجاهدين الذين يسعون لتحرير المسجد الأقصى في أرض أقصى أوفي أقصى الأرض، وأن الجماعة كذلك استفتاح لأبواب السماء وسند في العروج نحو سدرة الرضى والرضوان. ثم إن المسجد منطلق الدعوة والجهاد في سبيل الله، في السعي الأرضي الحثيث نحو تحقيق موعود الله تعالى في استخلاف أهل الصلاح والإيمان في الأرض، يقول الإمام المجدد رحمه الله في المنهاج النبوي عن المسجد: “محضن الرجال، ومدرسة العلماء، ومحراب المتبتلين، ودائرة قيادة الجهاد، ومجلس الشورى والإيمان المسجد”.[1]  

3. الصلاة عماد ومعراج

عند سدرة المنتهى وبين يدي رب العزة والجلال والإكرام، أكرم المولى سبحانه رسوله الكريم وأمته معه بأن فرض الصلاة هناك في الملإ الأعلى لتكون ميثاقا عليا سنيا بين العبد وربه يستجيب بها لنداء الروح المودعة أمانة في هذا الجسد المثقل والمنهك بفتنة الشهوات التي تثقله عن معانقة حقيقة “ألست بربكم”. فالصلاة سلوك ومعراج تخفف وطأة هذا الجسد ليرفرف عاليا بحثا عن معين الروح، والصلاة بهذا المعنى ارتفاع إلى سدرة منتهى كمال العبد ليدخل في سلك المصطفين الأخيار، وبذلك تكون كل صلاة غير ناهية عن الفحشاء والمنكر، وغير مجددة لعرى ميثاق الأزل، وغير مشوقة للعبد إلى مولاه، تكون خداجا، نسأل الله تعالى أن يجبر صلواتنا.

وفي الرحلة صلى رسول الله ﷺ غير ما مرة، وهي إشارة إلى عظمة أمر الصلاة. فقد صلَّى في يثرب حيث ستكون مهجرا له، ومستقرا لدعوته ومنطلقا لدولته، وصلَّى عند شجرة موسى عليه الصلاة والسلام في مدين، وهي الشجرة التي وردت في قوله تعالى : (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (سورة القصص)، حيث جاءت البشرى لنبي الله موسى بالأمان ، ثم صلَّى ببيت لحم؛ حيث شهدت هذه البقعة معجزة ميلاد سيدنا عيسى عليه السلام ؛ و في الرحلة وقف نبينا عليه الصلاة والسلام على قبر أخيه موسى عليه الصلاة والسلام وهو يصلي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ) رواه مسلم، وصلى نبينا إماما بالأنبياء في بيت المقدس. كل ذلك دلالة على أن الصلاة هي حادي ركبان السائرين إلى الله ومحل التقرب والمناجاة، فهي كما قال الإمام المجدد رحمه الله في وصيته: “الصلاة عمود الدين وعماده وفسطاط الدين وأوتاده.”

4. الصديقية صدق وتصديق في زمن التشكيك

لما رجع النبي ﷺ من الرحلة المباركة تلطف في إخبار قريش خشية التكذيب، فبدت عليه علامات التهمم حتى سأله أبو جهل فأخبره الخبر، فرأى في قصّته فرصة للسخرية والاستهزاء، فطارت بالخبر الركبان ليثير الحيرة في قلوب الكافرين المكذبين وليرتد حديثو الإسلام المشككون، وليخلد في ذكر الصديقين رجل الصدق والتصديق، سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه. فعن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (لمّا أُسْري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدّث الناس بذلك، فارتدّ ناس ممّن آمن، وسعوا إِلى أبي بكر فقالوا: هل لك في صاحبك، يزعم أنّه أُسْريَ به الليلة إِلى بيت المقدس! قال: أوَ قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: وتصدِّقه! قال: نعم، إِني لأصدِّقه بما هو أبعد من ذلك، أصدِّقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سُمِّي الصدِّيق) رواه الحاكم .

 الصِدْقُ والتصديق في زمن التشكيك والتكذيب، صديقية عالية وسنة نبوية راشدة وهي سنة ماضية في أهل الحق يثقون في القيادة الربانية التي اتخذت المنهاج النبوي طريقا لاحبا مستمسكين بنواظم الحب في الله والشورى والنصيحة والطاعة، فلمثل هؤلاء القادة الربانيين يقال: إن قالوا فقد صدقوا.

5. الأدب مع الله عماد الطريق إلى الله

لقد بلغ النبي ﷺ منزلة ما بعدها منزلة، وانتهى إلى مقام لم يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل، إذ عُرج به إلى سدرة المنتهى، فرأى من آيات الله تعالى الكبرى ما رأى، وكلمه الله تعالى فأوحى إليه ما أوحى. في هذا المقام المحمود والمنزل المشهود، لم يتجاوز بصر النبي ﷺ ما أُمر بالنظر إليه؛ أدبا مع الله تعالى، رغم أن ما رآه من الآيات قد تدعو لذلك. يصف الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام؛ مخبرا عن أدبه معه عز وجل، وهو أدب فاق كل أدب، فقال سبحانه: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما زاغ يمينا ولا شمالا ولا طغى، ولا جاوز ما أُمر به . وهذا كمال الأدب منه عليه الصلاة والسلام، أن قام مقاما أقامه الله تعالى فيه، ولم يقصر عنه، ولا تجاوزه، ولا حاد عنه، وهذا أكمل ما يكون من الأدب العظيم، الذي فاق فيه الأولين والآخرين.

وأدب آخر مع الله تعالى ظهر من النبي ﷺ ، لما فرضت عليه الصلوات خمسين صلاة، وأشار عليه موسى عليه السلام بمراجعة ربه عز وجل يسأله التخفيف على أمته، فراجعه حتى صارت خمسا في الفعل وخمسين في الأجر. أشار عليه بعد ذلك بمراجعته لتخفيفها، قال عليه الصلاة والسلام مخبرا عن ذلك”:فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي”، وفي رواية قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَا مُوسَى، قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ” رواه الشيخان. والحياء من الله تعالى قمة الأدب معه سبحانه.

6. كشف الغيب تشويق للعبد إلى مراقي الإيمان والإحسان

من الآيات الكبرى التي رآها النبي ﷺ في هذه الرحلة العلية السماوات والأرض والنور والملائكة والأنبياء وسدرة المنتهى، والجنة، وسماع صريف الأقلام، ومناجاته الله تعالى وغيرها. إن الخروج من عالم الشهادة إلى عالم الغيب والملكوت الواسع وعالم النور والرقائق تزيد العبد تشوقا إلى الترقي في مدارج الإيمان والإحسان، وهي مشاهد ومرائي تثبت السالك على طريق الحق، ما كان ليجرؤ أحد على الإخبار أنه سار مسافة شهرين في رمشة عين من الحرم إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماوات العلى ورجع، ليلقى فراشه ما زال دافئا من جسده الشريف ﷺ، إنه فتح الله وعطاء الله الذي لا تحده مدارك العقل، فهو قانون “سبحان”، أي سبحان الذي أسرى فهو الذي أسرى بعبده وهو على كل شيء قدير.

كذلك كان الصحب الكرام يعيشون تلك الفتوحات والفيوضات والأشواق في صدورهم كاتمين لمواجيدهم إلا ما صدر لماما من بعضهم كبوح سيدنا حارثة لرسول الله ﷺ لما سأله:” كيف أصبحت يا حارثة؟ ” قال: أصبحت مؤمنا حقا. قال: ” إن لكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ ” قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأظمأت نهاري، وأسهرت ليلي، وكأني ‌بعرش ‌ربي ‌بارزا، وكأني بأهل الجنة في الجنة يتنعمون فيها، وكأني بأهل النار في النار يعذبون. فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ” أصبت فالزم، مؤمن نور الله قلبه” رواه البزار.

يقول الإمام المجدد في كتاب الإحسان: “ثم يُفتح له-أي السالك- أفُق الإحسان فيطلق الدنيا جميعا، يُفْرغُها من قلبه، فلا يفرح بعدها إلا بالله، ولا يعمل إلا لله، شكرا لله، وتقربا إلى الله، ويقينا أن مردَّنا إلى الله. شغلته بهجة الإحداق فيما كُشف له من عالم الملكوت عن زينة الحياة الدنيا، وهبت عليه أرواح الأشواق إلى الملك الوهاب فانفتح القفل الأخير، قفل شح النفس، فانبسطت يده بالعطاء وكان من المفلحين”.[2]

7. الرحمة القلبية أساس الدعوة إلى الله

روى الإمام البخاري بسنده عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت للنبي ﷺ : هل أتى عليكَ يومٌ كان أشدَّ من يوم أحد؟ قال: “لقد لَقِيتُ من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيتُ منهم يومَ العقبةِ إِذ عرَضتُ نفسي على ابنِ عبد ياليل بن عبد كُلال، فلم يُجِبني إلى ما أردت، فانطلقتُ وأنا مَهمومٌ على وَجهِي، فلم أستَفق إلا وأنا بقرنِ الثَّعالب، فَرَفَعتُ رأسي، فإذا أنا بَسحابةٍ قد أظلَّتْني، فنظرتُ فإذا فيها جِبريل، فناداني فقال: إِن الله قد سمعَ قولَ قومكَ لك وما رَدوا عليك، وقد بعث اللهُ إِليكَ مَلَكَ الجبالِ لتأمرَهُ بما شِئتَ فيهم. فناداني ملكُ الجبال، فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد. فقال: ذلكَ فيما شئتَ، إن شِئتَ أن أطبِقَ عليهم الأخْشَبَينِ”. فقال النبيُّ: “بل أرجو أن يُخرجَ الله من أصلابهم من يَعبُدُ اللهَ وحدَهُ لا يُشركُ بهِ شيئًا”.

ما كان رسول الله لينتقم لنفسه وليدمر مكة ومن حولها وهم الذين بالغوا في الظلم والإذاية. لكنه ﷺ بعث رحمة للعالمين، فقد ملئ قلبه الشريف محبة ورحمة وشفقة على الخلق أن يومنوا بالله رب العالمين، وهو بعد آخذ بحجزهم أن يتقحموا في النار، لذلك دعا الله تعالى أن يخرج من أصلاب هؤلاء المشركين من يعبد الله.

وقد أجابه المولى عزوجل وهدى به خلقًا كثيرًا إلى قيام الساعة، وقد حقق رجاءه فكان من أولاد هؤلاء المشركين خيرة الصحب الكرام منهم خالد بن الوليد بن المغيرة وعكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام كبير المشركين وأم حبيبة بنت أبي سفيان زوجه وغيرهم.

فكل من ينبري لأمر الدعوة الى الله لابد أن يتضلع قلبه رحمة وشفقة يشع بها على الخلق ليجد القلوب القاسية قد لانت والآذان الصم قد أصغت والعيون العمي قد أبصرت، يقول الإمام المجدد رحمه الله في كتاب العدل:” على أسس الرحمة نبني وحدتنا وقوتنا لنحاور العالَم برحمة الإسلام. وببلاغ الآخرة وبيانها. بالرحمة لا بلغة الدموع والحروب”.[3]

وختاما أقول إن ذكرى الإسراء والمعراج ليست ذكرى نسترجع بها الحدث لنفرح فقط بما خص المولى به الحبيب المصطفى ﷺ، بل هي ذكرى تستقي منها أمته الدروس والعبر لتسري بها في أرض الواقع، لتدافع وتنافح عن الحق والعدل، وتعرج بها في مدارج الإيمان والإحسان.

 

[1] . ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا، الطبعة 5، إستانبول: دار إقدام للطباعة والنشر، 2022، ص 308
[2] . ياسين عبد السلام، الإحسان، الطبعة 2، بيروت: دار لبنان للطباعة والنشر، 2018، ج 1، ص 386.
[3] . ياسين عبد السلام، العدل: الإسلاميون والحكم، الطبعة 3، بيروت: دار لبنان للطباعة والنشر، 2018، ص 407.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد