تطرقنا في المقال الأول من هذا البحث – مفهوم العلم في النظرية المنهاجية – إلى مفهوم العلم عند الأستاذ عبد السلام ياسين وعرفنا أن العلم بالإفراد إذا أطلق يراد به العلم بالله تعالى وبمصيره ، ومصدره الوحي الإلهي ، وهو أشرف العلوم ؛ فعليه يتوقف مصيره وسعادته في الدار الآخرة ، أما ما اكتسبه الفكر البشري من العلوم الكونية فالأليق والأصوب أن تُسمى علوما بصيغة الجمع ، وهي فرض كفاية في حق الإنسان ، فرض عين في حق الأمة إن هي ابتغت العزة والتمكين والاستخلاف في الدنيا، وتطرقنا إلى المحاذير التي ينبغي التنبه إليها عند السعي لاكتساب هذه العلوم ، فإن حركية السوق العالمية وانغماس المسلم فيها كفيل بأن تقضي على ما تبقى فينا من مروءة وأخلاق ودين1 .
وهذا المقال سيتطرق إلى علاقة العلم بالتربية ، وكيف انفصلا ؟ ومتى ؟ وما انعكاسات هذا الفصام النكد بين العلم والتربية ؟ ثم سيتطرق إلى شروط العلم الرباني الذي يجمع بين نور الوحي على المستوى القلبي وبين نور الحكمة على المستوى العقلي ، وبناء على هذا سأتناول هذا الموضوع في محورين اثنين :
1 – الفصام النكد :
يؤكد الأستاذ عبد السلام ياسين أن العلم قد انفصل عن التربية ابتداء من الانكسار التاريخي (40هـ) ، فكان بداية الانفصام بين العلماء والحكام من جهة ، وبين العلم والتربية من جهة ثانية . فالفقيه قديما كان ذا قلب خاشع ؛ فانتفع الناس بوعظه وفتواه التي كانت على بيِّنة ؛ لأنه كان يراقب الله في السر والعلن ، وكان للفقيه نظرة شاملة عن الدين والدنيا ، وهذا ما نحتاج إليه الآن2.
كان العلم والتربية شيئين لا يفترقان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم . قال تعالى هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم ءايته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلل مبين الجمعة2 ، ولما توفي الرسول الكريم قام الخلفاء الراشدون بما كان يقوم به الرسول الكريم من مهمة تربية الناس وتعليمهم . قال عبد السلام ياسين : “ فأدَّت الصديقيَّة منذئذ ما كانت تؤديه النبوة من وظيفة الحضور والشهادة بين الناس والهداية والدلالة ، وكان التبليغ العلمي اللساني العقلي جزءا من المسألة لا كل المسألة. بقيت الوراثة القلبية والتحــــــــــــــــــاب في الله بين المؤمنين جوهرَ الدين. بقيت سنة الله في التابع والمتبوع قائمة ، وستظل إلى يوم القيامة) “3.
وبعد الانكسار التاريخي انعزل أغلب العلماء عن الشأن العام بسبب فساد نظام الحكم اللهم ما كان من علماءٍ أغلبهم من علماء السوء ، ثم تخصص العلماء بعد ذلك ،كل في علم معين من نحو وفقه وحديث ، ثم ظهرت طائفة من الناس سُموا بعد ذلك صوفية4 كان همهم الاعتكاف على العبادة وتربية النفس على المنهج القويم ، والابتعاد عن الدنيا وزينتها ؛ فضاع بهذا ذلك التلاحم الذي كان مع الرعيل الأول ألا وهو التصاق وامتزاج العلم بالتربية .وإنه لشيء ضروري وآكد ونحن نروم إعادة البناء أن يسلك علماؤنا كما سلك من قبلهم من الصالحين ، وعلى رأسهم الصحابة رضوان الله عليهم .
2- شروط العالم الرباني :
باستقراء كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين استنبط الأستاذ عبد السلام ياسين شروطا للعالم المتحقق أوجزها في شرطين :
أ- صحبة الشيوخ المربين:
وذلك بأن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم ؛ فإن المتعلم يستفيد من معلمه لطول ملازمته وأخذه عنه ، مع المحبة ؛ فإن المرء على دين خليله . وحسن الأدب عمن نأخذ عنه مع الاقتداء بهديه ، وما هديهم إلا هدي المعصوم صلى الله عليه وسلم جسدوه على أرض الواقع علما وعملا وتشربا قلبيا ، فإن أولياء الله تعالى خلفاءٌ ، وورثةٌ للرسول الكريم عليه السلام5 . ويذكر الشاطبي6 رحمه الله كيف استفاد الصحابة من طول صحبتهم لرسول الله وملازمته . قال عبد السلام ياسين محرضا على صحبة المربين الكمل : ” هذا يقال لمن يقرؤون في الصحف والمجلات والكتب الجليلة بلا فهم، لم يربهم الشيوخ ولم يأخذوا إلا عن قال وقيل، ولم يلزموا الأكابر؛ ففاتتهم الفوائد ، بل فاتتهم الدنيا والآخرة لما فاتهم العلم يأخذونه من أهله)“7. وقد كان عبد الله بن مسعود يوصي بأخذ العلم عن الأكابر قال : ” لا يزال الناس صالحين ما أخذوا العلم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم. ، فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا)“8. والأكابر هم أكابر العلم والتقوى والحظ من الله ، وليس المقصود بالأمر كبر السن .
ويوجه دعوة إلى العلماء للتواضع والبحث عن شيخ يتربون عليه ، ويورد حفظه الله في الفصل الأول من كتابه الإحسان9 شهادة علماء كبار من سلف هذه الأمة رُزقوا العلم فهما ومنزلة واتساع أفق ، لكن لم يُعطهم تدبرا ولا خشوعا ، ولم يفلح هذا العلم في أن يخرج من قلوبهم الدنيا حتى تربوا على يد أولياء الله تعالى ، ومن بين هؤلاء الإمام الغزالي حجة الاسلام ، والإمام السيوطي ، والفضيل بن عياض ، وأبو عبد الله الحاكم المحذث الكبير صاحب ” المستدرك ” ، والإمام النووي ، وابن حجر الهيثمي ، والعز بن عبد السلام ، وابن دقيق العيد مجدد المائة السابعة ، وتقي الدين أبو الحسن السبكي ، والمفسر ابن كثير ، والإمام القسطلاني ، والإمام الشوكاني مجدد القرن الثاني عشر وغيرهم كثير ، وكتب الطبقات تعج بأمثلة كثيرة لا تحصى ، وإنما اقتصر عبد السلام على هؤلاء فقط لعلو كعبهم ، واتفاق الأمة على صلاحهم ، وهذا يقال لمن يعرف الحق بالرجال .قال عبد السلام ياسين : ” تعج كتب الطبقات، سواء منها طبقات الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة بذكر العلماء العاملين المبرزين في علوم الحديث المشاركين في الفقه المتميزين أيضا في ميدان التصوف. الحنابلة لا يحبون اسم “الصوفي”، فتجدهم يستعملون ألفاظ “الصلاح” و”التقوى” و”الخيرة”. وكل كانوا صادقين) “10.
وقد استقر في عقل علمائنا أن كل عالم لم تتهذب شخصيته ، ولم ينل حظه من الرفق والرحمة النبوية إلا وعرفوا أنه لم يتأدب على شيخ ، وكمثال على ذلك نجد أبا حزم الظاهري11 ، وابن تيمية الذي كاد حاد اللسان ، مسرعا إلى تبديع من خالفه وتكفيره12.
ولمن عنده كلمة ابن تيمية هي الكلمة الفصل يورد عبد السلام ياسين رأي الرجل في المسألة قال ابن تيمية : ” وطلب أحدهما أن يحصل له هذه الواردات فعلمه الشيخ وأدبه حتى حصلت له “)13. فما معنى كلمة ” علمه ” و” أدبه ” إلا الجلوس بيد يدي المربين لتلقي العلم النافع ، العلم بالله تعالى .
ب- اقتران العلم بالعمل:
فمتى كان القول مطابقا للفعل كان جديرا بأن يُقتدى بهذا العالِم ، ولا يتحقق العلم والعمل في العالِم إلا بالتربية الإيمانية الإحسانية التي تسمو بالفرد ، وتجعله يترفع عن متاع الدنيا وإغراءاتها . قال عبد السلام ياسين : ” إن العلم والاطلاع يمكن أن يكونا باعثين على العمل، إذا كان في القلب كوامن واستعداد. أما إذا كان القلب خاليا متضلعا من حب الدنيا لا مكان فيه لحب الله فما تغني القراءة “)14.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال : “يَا حَمَلَةَ الْعِلْمِ! اعْمَلُوا بِهِ؛ فَإِنَّ الْعَالِمَ مَنْ عَلِم ثُمَّ عَمِلَ، وَوَافَقَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ، وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ الْعِلْمَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ، تُخَالِفُ سَرِيرَتُهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ، وَيُخَالِفُ عِلْمَهُمْ عَمَلَهُمْ، يَقْعُدُونَ حِلَقًا يُباهي بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ عَلَى جَلِيسِهِ أَنْ يَجْلِسَ إِلَى غَيْرِهِ وَيَدَعَهُ، أُولَئِكَ لَا تَصْعَدُ أعمالُهم تِلْكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ”)15.
وقال مالك : “الْحِكْمَةُ وَالْعِلْمُ نُورٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ: وَهُوَ التَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرور، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ”)16.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
1 – عبد السلام ياسين ، تنوير المؤمنات 1/ 113 .
2 – ياسين عبد السلام ، المنهاج النبوي 200- 201 .
3 – ياسين عبد السلام ، الإحسان 1/ 196
4 – أقصد العلماء الذين تفرغوا لعبادة الله وتزكية النفس على الكتاب والسنة أمثال الحسن البصري وعبد القادر الجيلاني وغيرهم .
5 – ياسين عبد السلام ، الإحسان 1/ 233- 239 . وكذلك الإحسان 1 / 85 .
6 – الشاطبي أبو إسحاق ، الموافقات 1/ 61- 62 .
7 – ياسين عبد السلام ، الإحسان 1/ 86 .
8 – رواه الطبراني في المعجم الكبير بإسناد صحيح.خطبة ابن مسعود ومن كلامه 9/ 114 ، رقم الحديث 8589 .
9 – ياسين عبد السلام ، الإحسان 1/ 44- 74 .
10 – المرجع السابق 1/ 46 .
11 – الشاطبي أبو إسحاق ، الموافقات 1/ 62 .
12 – المرجع السابق1/ 62 .
13 – ينظر النص كاملا في : ابن تيمية ، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ، مجموع الفتاوى ، عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ، المملكة العربية السعودية ، المدينة النبوية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، عام النشر 1995 م ، 13 / 70 . وينظر له أيضا الفتاوى 11 / 499 حيث جعل الشيوخ بمنزلة الائمة في الصلاة ، وينظر الإحسان لعبد السلام ياسين 1 / 156 و 212 .
14 – عبد السلام ياسين ، الإحسان 1/ 32 .
15 – أخرجه الدارمي في “السنن باب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله 1/ 382 رقم الحديث 394 . ورغم أن الحديث ضعيف الإسناد إلا أن معناه صحيح ، وهذا في الحقيقة هو حال كثير من علمائنا اليوم.
16 – أبو اسحاق الشاطبي ، الموافقات 1/ 47 .
أضف تعليقك (0 )