post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

العقل والوحي في نظرية المنهاج النبوي (49) 
 مقامات العقل في المنهاج النبوي 
 لقد تميزت كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين بمراجعة جملة من المفاهيم التي أثقلتها الدلالات اللغوية والاصطلاحية التاريخية والمستوردة من الغرب، ومن بين هذه المفاهيم مفهوم العقل، حيث ميز بين: عقل الهوى وعقل الإيمان وبينهما العقل المعاشي. ففي كتابه &#8220;محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى)&#8221; يتساءل: &#8220;هل من فرق جوهري بين عقل من يستقي من حوض اللاييكية وينظر بمنظار مستعار، وتجري في دمائه الثقافية تيارات فلسفية متطورة متدرعة بالحجة العلومية، وبين عقل غيره من الناس؟ أليس التركيب العقلي للناس واحدا، وهم إما ذكي مثقف، وإما أُمي في دركةٍ ما مِن دركات الأمية؟)&#8220;<a id="_ednref1" href="#_edn1">[1]</a> ليجيب الأستاذ ياسين أن &#8220;ما نُسميه عقلا لغة وتعريفا للمَلَكة المشتركة بين البشر ليس هو مُسمَّى العقل في القرآن)&#8220;<a id="_ednref2" href="#_edn2">[2]</a>. فما الفرق بين هذه العقول الثلاثة؟ 

<h2>أولا: العقل المشترك</h2>
فِعلُ التعقل كفعل التجريب مُتاح ومُيسر للإنسانية، أي أنه مشترك إنساني لا يصح الحديث بصدده عن عقل شرقي وعقل غربي، عقل قديم وعقل حديث، وهذا ما يصح تسميته بـ&#8221;وحدة العقل البشري)&#8221; أو اشتراك الناس في قواعد موحدة للتفكير، فالناس يمتلكون جميعا قدرة ذهنية واحدة محكومة بمُسبقات فطرية هي قوانين عمل العقل، كما أنه يفترض فكرة البديهة؛ أي وجود حقائق بسيطة وبديهية يدركها الناس جميعا، إذ للفرد كما للجماعة البشرية القدرة على الملاحظة والاستقراء والتحليل والتركيب والتعليل والاستدلال والاستنباط والمقارنة والنقد&#8230;وتلك هي أفعال التعقل والتفكير ووظائف العقل والتمييز، التي يتفاوت الناس في درجتها ودقتها ولا يتفاوتون في امتلاكها واستعمالها. 
 وقدرات التعقل الهائلة الميسرة من الله تعالى للإنسان باعتبار إنسانيته، وإن كانت مشتركة بين جميع الناس، فإنها لا تحمي الإنسان من الوقوع في الأخطاء والسقوط في الزلات، إذ بعقله قد يضل ويزل ويرتكب الرذائل، ولا يُختصر إدراك الكائن البشري في العقل فقط وإنما يحيا في أبعاد متعددة، وتُحركه بواعث مختلفة، وتتنازعه رغبات متباينة، وتشده مصالح متكاثرة. وقبل ذلك وَهبه الله قوى إدراكية متفاعلة ومتكاملة لا يلغي بعضها بعضا، ولا يعوضه. وقد يطغى بعضها على العقل فيستعمله، كما هو الحال عند قيادة الأهواء والميول لاختيارات الفرد ومواقفه. 
 هذا العقل المشترك هو الذي يسميه الأستاذ ياسين بـ&#8221;العقل المعاشي المدبر للشؤون الحياتية)&#8220;<a id="_ednref3" href="#_edn3">[3]</a> أو &#8220;عقل المعاش المدبر لشؤون الحياة الدنيا)&#8220;<a id="_ednref4" href="#_edn4">[4]</a>،وهو عقل مشترك بين الناس جميعا، تركيب واحد بين البشر، ويخضع لقانون السنن الإلهية التي بثها الله في الكون، وهي &#8220;أسباب وضعها الله عز وجل لا تُحابي مُؤمنا ولا تبخس جهد كافر)&#8220;<a id="_ednref5" href="#_edn5">[5]</a>، يقول الله تعالى: ﴿ليسَ بأمَانيكُم وَلا أمَاني أهْل الكِتاب مَن يَعمَل سُوءاً يُجْزَ به ولا يجد لَه مِن دون الله وَلياً ولا نَصِيراً﴾ (النساء:123)، فـ&#8221;هذا العقل المعاشي المشترك بين البشر إما يكون آلة للقلب يخدم تطلعات القلب إلى خالقه، وإما يكون آلة للهوى المتألِّه، أو للنفس والشهوات، أو للفلسفة والتأملات، أو للفعل في المكونات، أو لجمع المعلومات واستنتاج حصيلة الماجريات)&#8220;<a id="_ednref6" href="#_edn6">[6]</a>. 

<h2>ثانيا : العقل المؤمن</h2>
أما العقل المؤمن فهو &#8220;العقل الذي مجَّده الله تعالى في القرآن، وهو فعلُ القلب المؤمن بالله وبالآخرة وبالنبوّة وبالشريعة.)&#8220;<a id="_ednref7" href="#_edn7">[7]</a>، يستقي مسلماته من &#8220;كتاب الله تعالى خالق الإنسان ومركب مداركه وهادي من يشاء إلى صراط مستقيم. من هنا تبدأ خصوصية العقل المؤمن واختلافه الجوهري عن العقل المشترك بين البشر)&#8220;<a id="_ednref8" href="#_edn8">[8]</a>، فهو يتفوق على العقل المعاشي بإضافة إتقان التدبير وفق السنن الكونية إلى اتباع الوحي الخالد اتباعا كليا، فهو مسلم للوحي بإطلاقه وكليته، لا ينازعه ولا يطاوله، وإنما يعيش تلميذا له. يقول الأستاذ: &#8220;وكمال العقل الآلة أن يخدم القلب وتطلعاته خدمة متزامنة متساوقة مترابطة هنا وهناك. هنا في الكون حيث يشترك مع كافة البشر في طرق تحصيل علوم الكون. وهناك وراء سجف الغيب من حيث لا تتأتى له معرفة إلا باستماعه للوحي)&#8220;<a id="_ednref9" href="#_edn9">[9]</a> 
 فليس العقل كيانا تأميل مجردا وإنما هو عقل كادح في الأرض &#8220;مشارك في علوم الكون وحصائل التجربة البشرية دون أن يَطعَنَ الحاصلُ البشريُّ في المتلقّى من الوحي، كان عقلا كاملا، مكتملا منجمعًا. لأن دين الإسلام كلمةُ الله إلى الإنسان جاءت بها الرُّسلُ، والكون مخلوق الله معروضٌ على مخلوق الله المميَّز بجوهرة العقل المطلوبُ إليه شرعا وقرآنا أن يسعى في الأرض. في الأرض رزقُه ومعايشه، لا بد أن يكدَح لتحصيلها، وفي السماء قَدَر رِزقهِ، يؤمن بالرَّازق دون أن يُعطل التكليف الشرعي بالسعي والكدح وإعمال العقل. عقل مجتمع متكامل كامل&#8230;لأنه عقل يسمع الرسالتين معا بسمعٍ واحد: رسالة القرآن المتلوة، ورسالة الكون المنشورة في الآفاق)&#8220;<a id="_ednref10" href="#_edn10">[10]</a>، فيجتمع التعقُّلان: تعقل في الوحي وتعقل في الكون، أو قلْ: تعقُّل تدبري في الوحي المنزَّل، وتعقُّل تفكري في الكون المسخَّر. وبذلك تتخلص العقلانية من آفتين: 
 &#8211; آفة التجريد التأملي الذي لا يقبل تجريبا، الذي يقطع الصلة بين العلم والوحي، باعتماد العقل المجرد وحده مصدرا للعلم والمعرفة، وهي الآفة التي أبعدت الفلسفة التأملية والعقلانية والوجودية عن الوحي 
 &#8211; آفة التحييد الذي لا يقبل وحيا منزلا من فوق الطبيعة المادية، أي قطع الصلة مع الوحي بالاقتصار على الانطباعات الحسية وحدها. وهي الآفة التي لم تتجاوزها الفلسفة التجريبية. 
 والعقل المؤمن في سعيه وكدحه لا يتنكر للفطرة المشتركة بين البشرية، ولا يدعي الانفراد بالعلم والمعرفة والحقيقة، وإنما هو واقف بباب ربه عبر العبادة القلبية الجوارحية المتسقة يسأله ليعطيه، يقول الأستاذ: &#8220;هذا العقل الذي وفد على عتبة الفطرة يسأل عن الحق لا يتركه الرب الخالق الرؤوف الرحيم في قاحلة جفافه. بل يذيقه حلاوة الإسلام يقتنع بحجة أسمى محتدا من حجة المنطق الفكري. يأتيه الإقناع من التحوُّل الكياني الشامل النافذ إلى نفسه من مفردات العبادة. عن كل عبادة جزاء معجل. عن كل سؤال فطري صادق جواب)&#8220;<a id="_ednref11" href="#_edn11">[11]</a>، وبالسؤال الفطري عن المعنى والغاية والمصير والكيف يقترب العقل من معرفة مقامه من الوحي ومن الكون، كتب الأستاذ ياسين بأسلوبه الخاص: &#8220;سألت أيها العقل المفتقر عن معناك وتريد أن تعرف؟ قيل لك في أول سورة نزلت) ﴿إن الإنسان ليَطغَى أَن رآه استَغنى﴾ (العلق: 6-7) وأنت تخليت عن كبرياء استغنائك بما عندك، وتريد أن ترجع إلى ربك. تريد الفلاح وطهارة نفسك:) ﴿قد أفلَح مَن زكاها وقَد خَاب مَن دسَّاها﴾ (الشمس: 9-10). خاب من طمر نفسه تحت ركام الكفر والمعاصي)&#8220;<a id="_ednref12" href="#_edn12">[12]</a> 
 بهذه الرؤية القرآنية النبوية تتقلص قيمة التصور المادي الوضعي والتصور السببي الصارم للعقل والعقلانية أمام القرآن الكريم وهو يحدد الغاية من خلق الخلق، &#8220;غائية الخلق والتكوين)&#8220;، ومسيرة الإنسان الكادح في الدنيا ومصيره الراجع إلى الحق ﴿ثُم إليه تُرجعون﴾، وينفي الصدفة والعبثية والغفلة التي أعمت العقل المعاشي عن النظر الاعتباري في الملكوت، والنظر الاجتهادي فيما يعرض للناس من أقضية ونوازل، في إطار الشريعة القرآنية النبوية لا خارجها، ذلك أن &#8220;الشريعة هي المصلحة وفي حدودها يجتهد العقل)&#8220;<a id="_ednref13" href="#_edn13">[13]</a> 

<h2>ثالثا: العقل الأعمى</h2>
ينعت الأستاذ ياسين العقل المعرِض عن الوحي بـ&#8221;العقل الأعمى)&#8220;، وهو العقل الذي لا يهتدي بالوحي. وباستكباره وادعائه العلم والمعرفة &#8220;صَمَّ عن سماع رسالة الأنبياء عليهم السلام، وتمرَّد على الله، وأنكر وجود الله، وتأله، وتمطَّى، واستكبر. لكنه مثل الذبابة في القارورة، محبوس بين أرض الله وسمائه. يُخيَّل إليه أن عقلانيته المخترعَة ستُسلِّح إرادته البْرُوميثية يوما ليخرق طباق السماءِ، وليستعمِر بعد قرنٍ أو قرنين المريخَ والزُّهرةَ.)&#8220;<a id="_ednref14" href="#_edn14">[14]</a> ، وبالإعراض عن الوحي لا يتخذ العقل مصدرا للمعرفة سوى الطبيعة والأهواء والميولات الشهوانية وتخمينات الفلاسفة وفرضيات العلوم. وعقل الهوى هو عقل مُصابٌ بـ&#8221;عاهة العمى الكلي)&#8221; عن الاستبصار بعلم الوحي الذي ينير الطريق ويسدد النظر ويؤيد العمل. نشأ في ساحة الأكورا &#8220;يستقي من حوض اللاييكية وينظر بمنظار مستعار، وتجري في دمائه الثقافية تيارات فلسفية متطورة متدرعة بالحجة العلومية)&#8220;<a id="_ednref15" href="#_edn15">[15]</a>، فيعيش العقل في محنة كبرى جراء تعنته وادعائه وإعراضه. فما مصدر هذه المحنة؟ 
 يجيب مؤلف محنة العقل المسلم: &#8220;جاءته المحنة من إعراضه عن الوحي، أو استخفافه بالعلاج الشامل وتجيئه العافية، ويجيئه الخلاص، وتجيئه الحرية من الإيمان والتصديق والعمل. قل لي! أعن محنة العقل نتحدث أم عن محنة الطهارة والصلاة ؟ ما هو العقل ؟ ما هو الإنسان ؟ أهو الجسم ؟ أهو هذا الغائب الحاضر المعروف المنكر الذي تسميه &#8220;أنا&#8221; ولا تدري ما أنا ؟ إذا كان الأنا هو العقل، وكان يفصل بين الجسد وما يتقمص الجسد، ويصدق حسه ولا يصدق الوحي فمحنته لا تنتهي)&#8220;<a id="_ednref16" href="#_edn16">[16]</a> 
 العقل الأعمى عن الوحي &#8220;ينصرف إلى حيرة لا تنتهي إن لم يستوهب الهداية من الخالق، وإن لم يسمع بالسماع القلبي الفطري كلام الله ينبئه عن مآله بعد الموت وعن وجوده)&#8220;<a id="_ednref17" href="#_edn17">[17]</a> وإذا نصرف بلا هداية الوحي المنزل على رسول الأسوة الحسنة -لمن تداركته العناية الإلهية ليرجو الله واليوم الآخر ويذكر الله الذكر الكثير- إلى دراسة الكون فإنه يظل &#8220;كالأعمى الدائر حول نفسه، لا وجهة له فيتقد إليها، ولا هادي له يبصِّره بنفسه وطريقه)&#8220;(<a id="_ednref18" href="#_edn18">[18]</a>، هائما بلا معنى يستهل كلام الناس وسكرانا بدراساته ومفاهيمه المقطوعة عن نور الإيمان، يتعاطاها كما تتعاطى المخدرات، فلا راحة له إلا بها، والويل لمن خالفها وخرج عن مقتضياتها المنهجية الصارمة. فـ&#8221;لا يسجد هذا العقل الأعمى أمام عظمة الخالق، لأنه جعل في أذنيْه أصابع استكباره، واستغشى ثياب عُثُوِّه وإنكاره)&#8220;<a id="_ednref19" href="#_edn19">[19]</a>. 
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
<a id="_edn1" href="#_ednref1">[1]</a> &#8211; ياسين عبد السلام، محنة العقل المسلم، ص:4 <a id="_edn2" href="#_ednref2">[2]</a> &#8211; نفس المرجع، ص:7 <a id="_edn3" href="#_ednref3">[3]</a> &#8211; نفس المرجع، ص:25 <a id="_edn4" href="#_ednref4">[4]</a> &#8211; نفس المرجع، ص: 4 <a id="_edn5" href="#_ednref5">[5]</a> &#8211; ياسين عبد السلام، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص: 87 <a id="_edn6" href="#_ednref6">[6]</a> &#8211; ياسين عبد السلام، محنة العقل المسلم، ص:7 <a id="_edn7" href="#_ednref7">[7]</a> &#8211; ياسين عبد السلام، العدل؛ الإسلاميون والحكم، المغرب، دار الآفاق، ط1، 2000م، ص:144 <a id="_edn8" href="#_ednref8">[8]</a> &#8211; ياسين عبد السلام، محنة العقل المسلم، ص: 4 <a id="_edn9" href="#_ednref9">[9]</a> &#8211; نفس المرجع، ص:8 <a id="_edn10" href="#_ednref10">[10]</a> &#8211; ياسين عبد السلام، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص:137-138 <a id="_edn11" href="#_ednref11">[11]</a> &#8211; ياسين عبد السلام، محنة العقل المسلم، ص:45 <a id="_edn12" href="#_ednref12">[12]</a> &#8211; ياسين عبد السلام، محنة العقل المسلم، ص:35 <a id="_edn13" href="#_ednref13">[13]</a> &#8211; ياسين عبد السلام، العدل؛ الإسلاميون والحكم، ص:144 <a id="_edn14" href="#_ednref14">[14]</a> &#8211; ياسين عبد السلام، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص:138 <a id="_edn15" href="#_ednref15">[15]</a> &#8211; ياسين عبد السلام، محنة العقل المسلم، ص: 4 <a id="_edn16" href="#_ednref16">[16]</a> &#8211; نفس المرجع، ص:46 <a id="_edn17" href="#_ednref17">[17]</a>&#8211; ياسين عبد السلام، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص:132 <a id="_edn18" href="#_ednref18">[18]</a> &#8211; نفس المرجع، ص:132 <a id="_edn19" href="#_ednref19">[19]</a> &#8211; نفس المرجع، ص:139

مقامات العقل في المنهاج النبوي

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

قضايا فكرية

مقامات العقل في المنهاج النبوي

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الاعتكاف إقبال فردي جماعي على الله

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

الأستاذ أحمد الملاخ ثالث ثلاثة

همُّ الآخرة هو البداية الصحيحة

سيدي محمد العلوي ومفاتيح الصُّحبة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

مقالات ذات صلة