post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

في غير ما مرة ينصح الأستاذ عبد السلام ياسين جلساءه وتلاميذه بقراءة هذا الكتاب الصغير في حجمه العظيم في فائدته، والذي لخص فيه الغزالي تجربته الروحية ومسيرته الفكرية واختياراته المعرفية، واعترف فيه بأخطائه ومراجعاته، وصرح فيه بموقفه الواضح من العلوم التي تلقاها ومن طوائف الناس الذين تعرف على مللهم ونِحلهم، وقدم شهادته في علم التصوف والسلوك والمعرفة والتزكية. وعنوان الكتاب هو &#8220;المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال&#8221;، وإن اشتُهر بنصفه الأول اختصارا، غير أن صاحبه أراده أن يجمع بين فضيلتين:&nbsp;



الفضيلة الأولى: نصيحة للنجاة من ضلال الطريق إلى الله، والحذر من مغالطات السفسطة.



الفضيلة الثانية: نصيحة للوصول إلى معرفة الله ذي العزة والجلال، وتحصيل المعرفة اليقينية.



وقد دوَّن الغزالي هذا الكتاب/النصيحة في الخمسين من عُمره، بعدما أنهى مؤلفاته الفلسفية والمنطقية والأصولية والكلامية والأخلاقية والحجاجية، وانتهى من الردود على الطوائف والفرق والمقولات المشتهرة في عصره، وعانى ما عاناه من أجل الخروج من الحيرة واليأس إلى اطمئنان القلب والنفس، ونشدان الحقيقة الفطرية الأصلية. فكتب هذه السيرة الفلسفية الخاصة في منهج استخلاص الحق من الباطل رغم صعوبته ووعورة مسالكه. وقد صرح بذلك في قوله: &#8220;أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذُور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأقتحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين مـُحق ومُبطل ومتسنِّن ومبتدع&#8230;&#8221;<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftn1">[1]</a>.



وقوة الغزالي من قوة إرادته في طلب الحق والحقيقة، واستعداده للتخلي عن معارفه السابقة إذا ظهر له بطلانها، وقدرته على التخلص من مراعاة صفو أصدقائه وأتباعه إذا ما لم يجد ما يطمئن إليه. حيث قال: &#8220;قد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وُضعتا في جبلتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رباطة التقليد، وانكسرت علي العقائد الموروثة&#8221;<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftn2">[2]</a>.&nbsp;



أما الأستاذ ياسين فقد قال عن الكتاب: &#8220;كتاب «المنقذ من الضلال» كتاب عظيم الفائدة على صغر حجمه. لخص فيه حجة الإسلام مسيرته وحيرته وأخطاءه وسلوكه&#8221;<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftn3">[3]</a>، ونقل نصوصا مختارة منه في كتاب الإحسان، منتقيا منها الفقرات التي بث فيها الغزالي معاناته وتردّده في مغادرة منصبه وجاهه وعوائده وأهله، لما &#8220;تحرك باطنه إلى حقيقة الفِطر الأصلية&#8221;<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftn4">[4]</a>&nbsp;باحثا عن نورٍ من الله يقذفه في صدره لينشرح للحق، إذ إن &#8220;ذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف&#8221;<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftn5">[5]</a>.



عانى الرجلُ في جسمه ونفسه، واجتمعت عليه الهموم ومرض مرضا شديدا، لكنه لم ينهزم ولم يستسلم، بل قاوم المثبطات بإباء وتجلُّد، إذ &#8220;الهمم العالية تنوء بحملها الأجسام. ويئس الأطباء فلم يبق ملجأ إلا الله الرؤوف الرحيم. وبرأ أبو حامد من أمراض جسمه ومِن تردُّده، فأوصى لعياله، ثم غادر بغداد متخففا يبحث عن رجلٍ من لحمٍ ودمٍ يدلُّه على الله بعد أن أعياه البحث عن الحق في بطون الكتب، وزحمه همّ الآخرة وهمّ الله&#8221;<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftn6">[6]</a>.&nbsp;



وبعد عناء البحث الحثيث عن العلم الحق عند المنتسبين للعلم وأدعياء الفلسفة وأهل الكلام، لم يجد&nbsp;عندهم&nbsp;جوابات شافية كافية لسؤالاته، ولا زال كذلك حتى حصل له اللقاء بالمتبوع واجتهد طالب الحق في العمل بتوجيهه، فوجد ما طلب، وما بقي لك وأنت بين يدي مُعلمك إلا أن &#8220;تجلس فارغ القلب، مجموع الهم، مُقبلا بذكرك على الله تعالى&#8221;<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftn7">[7]</a>، مواظبا مع الحضور والافتقار حتى تأتيك واردات المعارف من حيث لا تحتسب، فترتقي كما ارتقى الصادقون الموفقون في مدارج الإيمان والإحسان والولاية.&nbsp;



وقد انتقى الإمام ياسين ما يعضد به هذه المضامين نصا من كتاب &#8220;ميزان العمل&#8221; يحض فيه الغزالي على المواظبة على الذِّكر في جميع الظروف وملازمته في كل الأحوال، قبل أن يتساءل عن موقف العقل والفهم مما وقع لعالمٍ بعلمه وجاهِه بين يدي فقيرٍ من فقراء الصوفية يُعلمه كيف يذكر الله؟ ويقبَل منه أن يوقفَ قراءة القرآن إلى أن يستوي حاله!&nbsp;لأنه &#8220;ما منعه من المواظبة على التلاوة إلا بغية أن يهيئه بتصفية القلب بالذكر&nbsp;حين يعم قلبه الإيمان ويعقل قلبه القرآن، لمرحلة تكون فيها المواظبة على التلاوة عبادة كاملة. وهاك الدليل. روى الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: &#8220;يا رسول الله، إني أقرأ القرآن فلا أجد قلبي يعقل عليه. فقال رسول الله ﷺ: إن قلبك حشي الإيمان، وإن الإيمان يعطى العبد قبل القرآن<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftn8">[8]</a>&#8220;<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftn9">[9]</a>.



وعلق صاحبُ الإحسان على توفيق الله تعالى للغزالي في الصبر والتواضع والإلحاح والتعرض لعطاء الله وفضله، من أجل نيل الدرجات العلا في عالم العروج والولاية والقرب، بقوله: &#8220;الولاية التي لا تكسب بالدراسة والاطلاع، بل بنور يقذفه الله جل وعلا في قلوب أصفيائه، فيأتي من شاء الله له خيرا يقتبس من ذلك النور. والنفوس الصغيرة لا تقبل أن تعترف بمزية عليها لأحد، إنما يعترف بفضل أولي الفضل من كان أهلا لفضل الله الذي يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم&#8221;<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftn10">[10]</a>.



كما تم استدعاء المنقذ أيضا في كتاب رجال القومة والإصلاح<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftn11">[11]</a>، في فصل &#8220;العارفون بالله&#8221;، حيث ذكر تحت عنوان &#8220;الإمام الغزالي&#8221; شهادته في الصوفية من خلال تجربته في صحبة أكابرهم (مثل: الجنيد والشابلي والمكي)، يقول فيها: &#8220;علمتُ أنهم أرباب الأحوال، لا أصحاب الأقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصّلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والعلم، بل بالذوق والسلوك&#8221;<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftn12">[12]</a>. وهو ما كلَّف الغزالي عدم الاطمئنان إلى ما حصله من علم ومال وجاه، ودعاه إلى القطع مع مألوفات النفس، فشدَّ الرحال وطلب الكمال.



وفي هذه الشهادة ما يفيد بأن علوم الكتب لا تكفي طالب الحق لمعرفة الحق، وأن علوم القلب تُستمد -تكرماً من الله- بصُحبة من صحب قلبا عن قلب، سلوكا إلى الله وسيرا إليه. والصوفية رغم ما طال منهاجهم من تشويه وتحريف فهم أقرب الطوائف إلى الحق، إذ إن &#8220;طريقهم إنما تتم بعلم وعمل&#8221;، ولم يعولوا على مدركات العقول وحدها ولم يكتفوا بتقليد النقول بينما القلوب فارغة.



وهكذا كانت رحلة الغزالي درسا في إنهاض الإرادات وإيقاظ الهمم وشحذ العزائم.



يتبع&#8230;



<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity"/>



<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftnref1">[1]</a>&nbsp;&#8211; أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق جميل صليبا وكامل عباد، مطبعة دار الأندلس ، ط7، 1967، ص 57



<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftnref2">[2]</a>&nbsp;&#8211; نفسه، ص 58



<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftnref3">[3]</a>&nbsp;&#8211; عبد السلام ياسين، الإحسان، مرجع سابق، 1/41



<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftnref4">[4]</a>&nbsp;&#8211; المنقذ من الضلال، ص 48



<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftnref5">[5]</a>&nbsp;&#8211; نفسه، ص 54



<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftnref6">[6]</a>&nbsp;&#8211;&nbsp;الإحسان، 1/42



<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftnref7">[7]</a>&nbsp;&#8211; أبو حامد الغزالي، ميزان العمل، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة، ط 1، 1964م، ص 222-223



<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftnref8">[8]</a>&nbsp;&#8211; مسند الإمام أحمد، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، رقم 6604



<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftnref9">[9]</a>&nbsp;&#8211;&nbsp;الإحسان، 1/43



<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftnref10">[10]</a>&nbsp;&#8211; نفسه، 1/43



<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftnref11">[11]</a>&nbsp;&#8211; عبد السلام ياسين، رجال القومة والإصلاح، ص 86



<a href="applewebdata://FE7C6746-F7BB-42BA-BA84-AFE1F5C032E3#_ftnref12">[12]</a>&nbsp;&#8211; المنقذ من الضلال، ص 99

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

قضايا فكرية

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

الأستاذ أحمد الملاخ ثالث ثلاثة

همُّ الآخرة هو البداية الصحيحة

سيدي محمد العلوي ومفاتيح الصُّحبة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

في الذكرى 50 لرسالة الإسلام أو الطوفان

مقالات ذات صلة