من أحب لقاء الله
من كتاب: العاقبة في ذكر الموت لعبد الله الأزدي الإشبيلي المالكي رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي. قال الشيخ الإمام الأوحد الزاهد أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي الإشبيلي المالكي‑ المتوفى سنة 581هـ‑ رضي الله عنه:
الحمد لله الذي أذل بالموت رقاب الجبابرة، وكسر بصدمته ظهور الأكاسرة، وقصر ببغتته آمال القياصرة، الذي أدار عليهم حلقته الدائرة، وأخذهم بيده القاهرة، فقذفهم في ظلمات الحافرة، وصيرهم بها رهنا إلى وقفة الساهرة، فأصبحوا قد خسروا الدنيا ولم يحصلوا على شيء من الآخرة. مصيبتهم والله لا يجبر مصابها، ولا يتجرع صابها، ولا تنقضي آلامها ولا أوصابها. لم يمنعهم ما حصنوه من المعاقل والحصون، ولا حرسهم ما بعثوه من الحرس والعيون، ولا فداهم من ريب المنون ما ادخروه من علق مصون وذهب مخزون، بل صدمهم بركنه الشديد، وصبحهم بجيشه المديد، وأنفذ فيهم ما كتب عليهم من الوعيد. نقلهم من لين المهود إلى خشونة اللحود، وصيرهم بين حجرها المنضود وجندلها المعقود أكلا للهوام وطعما للدود. نظر إليهم بعينه الشوساء، وأرسل عليهم كتيبته الخرساء، فأذل عزتهم القعساء، وأبدل من نعمتهم بؤسا، وأنطق بالعويل ألسنة خرسا، وصيرهم حديثا يذكر على مر الزمان ولا ينسى. نزلوا عن الأرائك والكلال، والأسرة والحجال، إلى الحجارة والرمال، والأراقم والصلال، وشظف العيش وضيق المجال، وحلوا بربع غير محلال، بحيث لا زوال ولا انتقال، ولا عثرة تقال ولا يسمع فيها مقال، ولا يلتفت عندها إلى من قال. أرسل عليهم ربك جنوده العاتية، وأخذهم أخذته الرابية، وسلك بهم مسلك الأمم الخالية والقرون الماضية، فهل تحس منهم من أحد أو هل ترى لهم من باقية. وفيهم قيل وفي أمثالهم:
حدث حديث القوم مـن فـارس***ومن بني قبط ويـونــان
ومن بني الأصفر أعجب بـهم***وسيد الأتراك خـاقــان
والأقدمين الأعظمين الألـــى***من حمير أبناء قحطــان
من تبع العرب ومن قيصر***الـــــــروم وكسرى آل ساسـان
مـن كـل قرم شامخ أنـفــه***وكل فرعون وهـامــان
وإن نسيت اليـوم شـيـئـا فلا***تنس نبطا أخت كـلـدان
واذكر ملوك الأرض مـن بعدهم***من عرب صيد وعجمـان
مـن كل منصـور اللـوا أروع***سليل أطواق وتيـجــان
مـجتمع الشمل عـلى عــزة***شـيدت بأساس وأركــان
قد زلزل الأرض وراع الـورى***من جيشه الضخم بطوفـان
وذلـل الخلـق بسلـطـانــه***كـأنـه رب لـهم ثــان
انـظر إليهم هل ترى مـنهـم***غير أحـاديـث بأفنــان
وانظر إلى الموت وأعـمالــه***فيـهم تر الهلك ببرهــان
وأبصر القوم ومـاذا لـقــوا***بالمــوت من ذل وخسران
قد صفعتهـم يـده صفـعــة***خـروا لآنـافٍ وأذقــانِ
ودك في الأرض بتيـجانهــم***وألبســوا تيجـان صمان
مـن حجر صلد ورخو ومـن***تـرب وحصبـاء وصيـدان
وأنزلـوا بطن الثـرى بعدمـا***كانـوا قـعودا فوق كـيوان
وأطعم الـديـدان لحمـا نهـم***يـالك مـن لحـم وديــدان
فـكـم هناكـم من فتى نـاعم***ومــن فــتـاة ذات أردان
ومن هزبر مرح فـي الوغـى***وظبـيـة تسرح فـي بـان
كـانوا كـذا ثم اغـتدوا عبرة***لـنـازح الــدار وللـدان
ولم يدافع عـنهـم جـحـفـل***قـد طـبق الأرض بفرسان
ولا بـيـوت مـلئـت كـلـها***مـن لـؤلـؤ بحت وعقيان
بـل مـر ذاكم كـله مـسرعا***كـالـريح مرت بين قضبان
وأصبح الملك لـمـن مـلكـه***بـاق وكـل غـيـره فـان
فسبحان من تفرد بالعزة والكبرياء، وتوحد بالديمومة والبقاء، وطوق عباده بطوق الفناء، وفرقهم بما كتب عليه من السعادة والشقاء، وجعل الموت مخلصا لأوليائه السعداء، وهلكا لأعدائه الأشقياء. خلق خذلانا وقدر توفيقا، وأنهج سبيلا وأوضح طريقا، فهدى إليه فريقا وأضل عنه فريقا. ﴿لا يسأل عما يفعل وهم يسألون﴾[1]. ﴿فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون﴾[2].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من وفق لها في الأزل، وكتب له بها في القسم الأول، ففتح لها كل باب، وهتك دونها كل حجاب، وخلصها من الشبهة والارتياب، وظهرت عليه فيها نعمة العزيز الوهاب، الغفور التواب، ملك الملوك ورب الأرباب. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المرفوع عليه علم التحقيق، المختص بخصائص التوفيق، الداعي إلى أنهج سبيل وأوضح طريق، صلى الله عليه صلاة تزيده شرفا وترفعه زلفى، وتوردنا مورده الذي عذب وصفا، وعلى آله الطيبين، وصحابته الأكرمين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم وكرم، وشرف وعظم.
أما بعد: فإن الموت أمر كبار لمن أنجد وأغار، وكأس تدار فيمن أقام أو سار، وباب تسوقك إليه يد الأقدار، ويزعجك فيه حكم الاضطرار، ويخرج بك إما إلى الجنة وإما إلى النار. خبر علم الله يصم الأسماع، ويغير الطباع، ويكثر من الآلام والأوجاع. واعلموا أنه لو لم يكن في الموت إلا الإعدام وانحلال الأجسام، ونسيانك أخرى الليالي والأيام، لكان والله لأهل اللذات مكدرا، ولأصحاب النعيم مغيرا، ولأرباب العقول عن الرغبة في هذه الدار زاجرا ومنفرا، كما قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: ” إن هذا الموت نغص على أهل النعيم نعيمهم فاطلبوا نعيما لا موت فيه!”. فكيف ووراءه يوم يعدم فيه الجواب، وتدهش فيه الألباب، وتفنى في شرحه الأقلام والكتاب، ويترك النظر فيه والاهتمام به الأولياء والأحباب.
واعلموا رحمكم الله أن الناس في ذكر الموت على ضروب؛ فمنهم المنهمك في لذاته، المثابر على شهواته، المضيع فيها مالا يرجع من أوقاته، لا يخطر الموت له على بال، ولا يحدث نفسه بزوال، قد اطرح أخراه، وأكب على دنياه، واتخذ إلهه هواه، فأصمه ذلك وأعماه، وأهلكه وأرداه. فإن ذكر له الموت نفر وشرد، وإن وعظ أنف وبعد، وقام في أمره الأول وقعد. قد حاد عن سواء نهجه، ونكب عن طريق فلجه، وأقبل على بطنه وفرجه. تبت يداه، وخاب مسعاه وكأنه لم يسمع قول الله عز وجل: ﴿كل نفس ذائقة الموت﴾[3]، ولا سمع قول القائل فيه وفي أمثاله حيث قال:
يـا راكــب الروع للذاتـه***كـأنه في أُتُـن عَيْــرُ
وآكـلا كل الذي يـشتـهـي***كـأنه في أَكْلِـهِ ثــور
وناهضا إن يدع داعي الهوى***كـأنـه مـن خـفة طير
وكل ما يسمع أو مـا يـرى***كأنمـا يعنى بـه الغيـر
إن كؤوس الموت بين الورى***دائرة قـد حثهـا السـير
وقـد تـيقنت وإن أبـطـأت***أن سوف يأتيك بها الدور
ومـن يـكن في سيره جائرا***تالله ما في سيرها جـور
ثم ربما أخطر الموت بخاطره، وجعله من بعض خواطره، فلا يهيج منه إلا غما، ولا يثير من قلبه إلا حزنا، مخافة أن يقطعه عما يؤمل، أو يفطمه عن لذة في المستقبل، وربما فر بفكره منه، ودفع ذلك الخاطر عنه. ويا ويحه! كأنه لم يسمع قول الله عز وجل: ﴿قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم﴾[4]، ولا قول القائل:
فر من الموت أو اثبت لـه***لا بـد من أنك تـلقـاه
واكتب بهذي الدار ما شئته ***فإن في تلك ستـقـراه
وكذلك من كان قلبه متعلقا بالدنيا وهمه فيها ونظره مصروفا إليها وسعيه كله لها، وهو مع ذلك من طلابها المحرومين، وأبنائها المكدودين، لم ينل منها حظا، ولا رقى منها مرقى، ولا نجح له فيها مسعى، إن ذكر له الموت تصامم عن ذكره، ولم يمكنه من فكره، وتمادى على أول أمره، رجاءَ أن يبلغ ما أمل، أو يدرك بعض ما تخيل، فعمره ينقص وحرصه يزيد، وجسمه يخلق وأمله جديد، وحتفه قريب ومطلبه بعيد، يحرص حرص مقيم، ويسير إلى الآخرة سير مجد، كأن الدنيا حق اليقين، والآخرة ظن من الظنون. وفي مثل هذا قيل:
أتحرص يا ابن آدم حرص بـاق***وأنت تمر ويحك كل حيـن
وتعمل طول دهرك فـي ظنـون***وأنت من المنون على يقين؟
وهذا إذا ذكر الموت أو ذكر به لم يخف أن يقطع عليه مهما من الأغراض قد كان حصله، ولا عظيما من الآمال في نفسه قد كان أدركه، لأنه لم يصل إليه ولا قدر عليه، لكنه يخاف أن يقطعه في المستقبل عن بلوغ أمل يحدث به نفسه، ويخدع به حسه، وهو يرى فيه يومه كما قد رأى فيه أمسه. قد ملأ قلبه بتلك الأحاديث المشغلة، والأماني المرذلة، والوساوس المتلفة، قد جعلها ديدنه ودينه وإيمانه ويقينه. وربما ضاق ذرعه بالدنيا، وطال همه فيها، من تعذر مراده عليه، وقلة تأتيه له، فتمنى الموت إذ ذاك ليستريح بزعمه، وهذا من جهله بالموت وبما بعد الموت! والذي يستريح بالموت غيره، والذي يفرح به سواه، إنما الفرح من وراء الصراط، والراحة بعد المغفرة.
توفيت امرأة كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمازحونها ويضحكون معها فقالت عائشة رضي الله عنها: ” لقد استراحت”. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إنما يستريح من غفر له”. ذكره أبو بكر البزار في مسنده.
فلا يزال هذا البائس يتحمل من الدنيا بؤسها، ويتلقى نحوسها، ويلبس لكل شدة لبوسها، وهو يتعلل بعسى ولعل، ويرى جنده الأفل، وحزبه الأقل، وناصره الأذل، فلا يرعوي ولا يزدجر، ولا يفكر ولا يعتبر، ولا ينظر ولا يستبصر. حتى إذا وقعت رايته، وقامت قيامته، وهجمت عليه منيته، وأحاطت به خطيئته، فانكشف له الغطاء، وتبدت له موارد الشقاء، صاح واخيبتاه! واثكل أماه! واسوء منقلباه! هيهات هيهات! ندم والله حيث لا ينفعه الندم، وأراد التثبيت بعدما زلت به القدم، فخر صريعا لليدين وللفم، إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم. فنعوذ بالله من الحرمان، ومن ضحك العدو وشماتة الشيطان. وهذا والذي قبله إن لم يكن لهما عناية أزلية، وسابقة أولية، فيمسك عليهما بالإيمان، ويختم لهما بالإسلام، وإلا فقد هلكا كل الهلاك، ووقعا بحيث لا دراك، ولا مخلص ولا انفكاك. فنعوذ بالله من سوء القضاء، ودرك الشقاء، بفضله ورحمته.
ورجل أخر، وقليل ما هم، من أزيل من عينه قذاها، وكشف عن بصيرته عماها، وعرضت عليه الحقيقة فرآها، وأبصر نفسه وهواها، فزجرها ونهاها، وأبغضها وقلاها، فلبى المنادي، وأجاب الداعي، وشمر لتلافي ما فات، والنظر فيما هو آت، وتأهب لهجوم الممات، وحلول الشتات، والانتقال إلى محلة الأموات. ومع هذا، فإنه يكره الموت أن يشهد وقائعه، أو يرى طلائعه، أو يكون ذاكرا حديثه أو سامعه. وليس يكره الموت لذاته، ولا لأنه هاذم لذاته، ولكن يخاف أن يقطعه عن الاستعداد ليوم المعاد، والاكتساب ليوم الحساب، ويكره أن تطوى صحيفة عمله، قبل بلوغ أمله، وأن يبادر بأجله، قبل إصلاح خلله، وتدارك زللـه. فهو يريد البقاء في هذه الدار، لقضاء هذه الأوطار، والإقامة بهذه المحلة، بسبب هذه العلة، كما روي عن بعض العالمين وقد بكى عند الموت، فقيل له: ” ما يبكيك؟” فقال: “والله ما أبكي لفراق هذه الدار حرصا على غرس الأشجار، وإجراء الأنهار، لكن على ما يفوتني من الادخار ليوم الافتقار، والاكتساب ليوم الحساب”. قال في هذا أو معناه:
أهون بداركم الدنيا وأهلـيـها***واضرب بها صفحات من محبيها
الله يعلم أنـي لست وامقــها***ولا أريـد بقاء سـاعة فـيهـا
لكن تمرغت في أدناسها حقبـا***وبت أنشرهـا حيـنا وأطويـها
أيام أسحب ذيلي في ملاعبـها***جهلا وأهدم من دينـي وأبنيهـا
وكم تحملت فيها غير مكتـرث***من شامخات ذنوب لست أحصيها
فقلت أبقى لعلِّي أنْ أهدم مــا***بنيـت منها وأدناسـي أنقـيـها
ومن ورائي عقاب لست أقطعها***حتى أخفف أحمـالي وألقـيهـا
يا ويلتي! وبحار العفو زاخـرة ***إن لم تصبنـي برش في تثنيـها
وهذا إذا مات فيالله دره من ميت! ما أفضل حياته وأطيب مماته وأعظم سعادته وأكرم وفادته وأتم سروره وأكمل حبوره! واعلم أن هذا لا يدخل تحت قوله عليه الصلاة والسلام: ” من كره لقاء الله كره الله لقاءه”، لأن هذا لم يكره لقاء الله تعالى لذات اللقاء، إنما كره أن يقدم على الله عز وجل متدنسا بأوضاره، ثقيل الظهر بأوزاره، ملآن من عاره وشناره، فأراد أن يتطيب للقاء، ويستعد لفصل القضاء.
قال أبو سليمان الداراني: ” قلت لأم هارون العابدة: أتحبين أن تموتي؟ قالت: لا. قلت: ولم؟ قالت: والله لو عصيت مخلوقا لكرهت لقاءه فكيف بالخالق جل جلاله؟”
وقال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم: “يا أبا حازم ما لنا نكره الموت!؟ فقال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب! قال: كيف القدوم على الله عز وجل؟ فقال: أما المحسن فكالغائب يأتي أهله فرحا مسرورا، وأما المسيء فكالعبد الآبق يأتي مولاه خائفا محزونا”.
قال أبو بكر الكتاني: “كان رجل يحاسب نفسه فحسب يوما سنيه فوجدها ستين سنة، فحسب أيامها فوجدها واحدا وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ صرخة وخر مغشيا عليه. فلما أفاق قال: يا ويلتاه أنا آتي ربي بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب! يقول هذا لو كان ذنب واحد في كل يوم فكيف بذنوب كثيرة لا تحصى؟ ثم قال: آه علي! عمرت دنياي، وخربت أخراي، وعصيت مولاي، ثم لا أشتهي النقلة من العمران إلى الخراب! وكيف أشتهي النقلة إلى دار الكتاب والحساب، والعتاب والعذاب، بلا عمل ولا ثواب، وأنشد:
منازل دنيـاك شـيدتـها***وخربت دارك في الآخرة
فأصبحت تكرهها للخراب***وترغب في دارك العامرة؟
ثم شهق شهقة عظيمة فحركوه فإذا هو ميت”.
على أن هذا الحديث “من كره لقاء الله كره الله لقاءه” قد جاء مفسرا، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. فقلت: يا نبي الله أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت. قال: ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه وعقوبته كره لقاء الله فكره الله لقاءه”. ذكره مسلم بن الحجاج وقال البخاري في هذا الحديث: ” ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله فكره الله لقاءه”.
ورجل آخر هو من القليل قليل، قد عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلَى، وشاهد ما شاهد من كمال الربوبية وجمال الحضرة الإلهية، فملأت عينه وقلبه، وأطاشت عقله ولبه، فهو يحن إلى ذلك المشهد، ويحوم على ذلك المورد، ويستعجل إنجاز ذلك الموعد، وقد علم أن الحياة حجاب بينه وبين محبوبه، وستر مسدل بينه وبين مطلوبه، وباب مغلق يمنعه من الوصول إلى مرغوبه، فلو أصاب سبيلا إلى هتك ذلك الحجاب هتكه، أو رفع ذلك الستر رفعه، أو كسر ذلك الباب حطمه وكسره، فعذابه في الحياة، وراحته في الممات. كما يروى أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لما نزل به الموت قال: ” حبيب جاء على فاقة”. وقد قيل إن الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب. وأنشد بعضهم:
يا حبذا الموت وأهوالــه***وسكـرة منه تـلي سـكـره
وزفرة في أثرهـا زفـرة***كأنها في كـبـدي جـمـره
وروعة تقطع مني الـحشا***كأنها في أضلعـي شـفـره
يا حبذا يا حبذا كـل مــا***لاقيت من ضر ومـن عسره
أهون به ثمت أهون به ولو***غدا مثـل الحـصى كـثـره
إذ كان ذاكم معقبي نـظرة ***في وجه ذي العز وذي القدره
يـا لَلأمـانـي تمنيتهــا***مَيَّزت نفسي دونهـا حـسره
والموت جسر للقاء المنـى***فـليعمل الـغـافـل ما سره
ويروى عن علي بن الفتح أنه رأى الناس في يوم عيد يتقربون بقرابينهم يعني بضحاياهم فقال: ” يا رب وأنا أتقرب إليك بأحزاني”. ثم غشي عليه. فلما أفاق قال: “إلهي إلى كم ترددني في هذه الدنيا؟” فمات من ساعته.
ومقدمات هذا وأمثاله تدل على ما وراءها من الوصال والاتصال، والأنس بذلك الجلال والجمال.
وآخر قد شاهد ما شاهد ذلك وربما زاد عليه، ولكنه فوض الأمر إلى خالقه وسلم الحكم لبارئه، فلم يرض إلا ما رضي له، ولم يرد إلا ما أريد به، ولا اختار إلا ما حكم فيه، إن أبقاه في هذه الدار أبقاه، وان أخذه إليه أخذه.
قال أحمد بن أبي الحواري: ” قال أبو سليمان الداراني: ” الناس رجلان: رجل أحب الله تعالى فأحب الموت شوقا إلى لقاء الله. ورجل أحب البقاء لإقامة حق الله تعالى. قال: فوثب إليه غلام لم يحتلم فقال: ورجل ثالث أو قال: ورجل آخر. فقال أبو سليمان: ومن هو يا بني؟ قال: من لم يختر هذا ولا هذا، اختار ما اختار الله عز وجل له. فقال أبو سليمان: احتفظوا بالغلام فانه صديق”.
واجتمع يوما وهيب بن الورد وسفيان الثوري ويوسف بن أسباط رحمهم الله تعالى، فقال الثوري: “كنت أكره موت الفجأة ووددت اليوم أني مت”. فقال له يوسف بن أسباط: “لم؟” قال: “لما أتخوف من الفتنة في الدين”. فقال يوسف: ” لكني أحب الحياة وطول البقاء”. فقال له سفيان: “لم؟” قال: “لعلي أن أصادف يوما أتوب فيه وأعمل صالحا”.
فقيل لوهيب: “أي شيء تقول أنت؟” فقال: “أنا لا أختار شيئا، أحب ذلك إلي أحبه إلى الله عز وجل”. فقبل الثوري بين عينيه، وقال: “روحانية ورب الكعبة”.
وقال علي بن جهضم عن علي بن عثمان بن سهل: “دخلت على عمرو بن عثمان وهو في علته التي توفي فيها، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال: أجد سري واقفا مثل الماء لا يختار النقلة ولا المقام (يعني مثل الماء في الإناء أو القرار من الأرض) يقول: لا يختار الحياة ولا الموت”. وقال القائل في هذا المعنى:
كـل ما يفعل الحبيب حبـيب ***والذي شاء بي فشيء عجيب
إن سكون أراد بي فسكــون***أو وجيب أراد بي فوجـيـب
وإذا مـا أراد موتي فموتــي***أو حياتي لكل ذاك أجـيــب
كـل ما كـان من قضاء فيحلو***بـفؤادي نـزولـه ويـطيب
فهذا إذا مات لا يسأل عن حاله، ولا يقال ما فعل به.
ومنهم من يتمنى الموت ويشتهيه، ويسأله ربه تعالى ويرغب إليه فيه، وقد علم أن وراءه يوما ثقيلا وحبسا طويلا ومقاما يقوم فيه ذليلا. لكن لما رأى نفسه منصوبا للمحن، معرضا للفتن، مرتهنا بما هو به مرتهن، وأبصر تفريطه في الزاد ليوم المعاد، وفي الاستعداد ليوم الإشهاد، وخاف أن يقتطع عن سبيل المؤمنين، ويختلج عن طريق المسلمين، تمنى الموت لينجو من هذا الخطر، ويسلم من هذا الغرر، وأن يقدم على الله عز وجل بالإيمان، كائنا منه بعد ذلك ما كان. وهذا إن شاء الله إذا مات خرجت له البشرى بالأمان، وأن يحتل في جوار الرحمن حيث شاء من دار الكرامة والرضوان. واعلم أن هذا لا يدخل تحت قوله عليه السلام: “لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به”، فإنه عليه السلام إنما أراد الضرر الدنيوي الذي ينزل بالإنسان من محن الدنيا في النفس والأهل والمال، وهذا إنما تمناه مخافة أن ينزل به الضرر الأخروي، وأن يقتطع بالمعاصي عن الله، وأن يصد بالفتن عن سبيل الله.
[1]. الأنبياء، الآية 23.
[2]. يس، الآية 83.
[3]. آل عمران، الآية 185.
[4]. الجمعة، الآية 8.
أضف تعليقك (0 )