وخالق الناس بخلق حسن
حديث نبوي جامع بين التقوى والمُخالقة
ما أنصع وأجمل البيان النبوي الجامع بين الدعوة إلى تقوى الله ومخالقة الناس بخلق حسن، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».[ref]أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة النساء، رقم: 1987، واللفظ له. وأحمد، مسند الأنصار، حديث أبي ذر الغفاري، رقم: 21354. وهو حديث حسن.[/ref]
اتق الله حيثما كنت
نصحَ سيدُ المتقين ﷺ الصحابيَ الجليل أبا ذر الغِفاري رضي الله عنه أصالة، والأمة بالتبع، بالتقوى، وهي الخوفُ من الله، والخشيةُ منه الحاملةُ على ترك النواهي، وفعل الأوامر، في كل زمان ومكان، في البيت والمدرسة والعمل…، فالمؤمن والمؤمنة دائمَا التعظيم لحدود الله وشعائره، تحصيلا للتقوى، وتحصينا من ظلم النفس بتعريضها لسخط الله وعقابه، قال تعالى: “ومن يُعظم شعآئر الله فإنها من تقوى القلوب” (الحج: 32)، وقال عز وجل: “والحافظون لحدود الله” (التوبة: 112)، وقال جل وعلا: “ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه” (الطلاق: 1).
ولا تنحصرُ التقوى في حفظ وأداء حقوق الله، بل تشمل حفظ وأداء حقوق عباده وخلقه. وما دام كل بني آدم خطاء، فالمؤمن والمؤمنة مُعرَّضان للخطأ في أداء حقوق الله أو حقوق العباد، والكَيِّسُ من يُتبع السيئة الحسنة تمحُها توبة واستغفارا، وأوبة وانكسارا، وردا للمظالم والحقوق واعتذارا، ذلك أن محاسبة النفس ديدنُ المؤمن، لِيتحقق بالاستجابة للأمر النبوي “اتق الله حيثما كنت”، ولِيستأهل كرم الله للتائبين المستغفرين في قوله جل وعلا: “إن الحسنات يذهبن السيئات” (هود: 114). وحرصا على كمال التأسي، يجمع المؤمن والمؤمنة بين اتخاذ الأسباب والتوكل على الله، استمطارا لمدده بالدعاء النبوي الجامع بين طلب الاستقامة القلبية والجوارحية، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان يقول: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى». [ref]. أخرجه مسلم، أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل، برقم 2721.[/ref]
وخالِق الناس بخلق حسن
لم يكتف الرسول ﷺ بالحث على التعبد لله انتهاء عن النهي وائتمارا بالأمر، بل حضَّ على التخلُّق بالخلق الحسن لمخالقة الناس به. وقد ضرب ﷺ المثل في الجمع بينهما، لما أحسن الله تأديبه، ولما حباه به من كمال الإيمان، ولم يأل جهدا في نصح أمته بتحصيل الخلق الحسن لبلوغ كمال الإيمان، سواء مع الأهل، أو مع الأقرب فالأقرب، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله ﷺ: «أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ». [ref]. أخرجه الترمذي، كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، رقم: 1162. وأحمد، مسند المكثرين من الصّحابة، مسند أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رقم: 7402. وابن حبان، كتاب النكاح، باب معاشرة الزوجين، ذكر البيان بأنّ من خيار النّاس من كان خيرا لامرأته، رقم: 4176، واللفظ له. وهو حديث صحيح.[/ref]
لقد حمل البلاغ القرآني لأهل الإيمان دعوة صريحة إلى التخلق، فسُوره وآيُه شاهدة على ذلك، فسورة الحجرات “هذه المليحة الزاخرة بالآداب الإيمانية”، [ref]. عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط 1، 1996، ج 1، ص 47.[/ref] سورة تعليمية للمؤمنين والمؤمنات، تضمنت أمهات الأخلاق وأصولها، بدءا بالأدب مع الله ورسوله ﷺ، فالأدب مع المؤمنين، ثم الأدب مع الناس أجمعين، ويمكن تلخيص ذلك في النقاط الآتية:
– النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله ﷺ في الأمر والنهي، والحض على غض الصوت في حضرته، وحسن مخاطبته، امتحانا لتقوى القلوب. ومن حسن البيان الإلهي إتباعُ النهي عن سوء الأدب مع الله ورسوله ﷺ بالأمر بالتقوى في قوله عز وجل: “يآأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم” (الحجرات: 1).
– النهيُ عن رذائل الأخلاق من سُخرية ولمز وتنابز بالألقاب وسُوء ظن وتجسس وغيبة، والأمرُ بالتبين والتثبت من الأخبار، ليُحَكِّمُ المؤمن والمؤمنة هذا الميزان في تواصله المباشر مع الناس أو عبر وسائل الإعلام المختلفة، حذرا من الإذاية بدون علم وبينة، المُوقعة في الندم الذي لا ينفع معه الاعتذار ورد الاعتبار إلا أن يعفو المظلوم ويصفح. وليس المؤمنين هم المدعوون لتمثل الأخلاق الحسنة، وتجنب الأخلاق السيئة سلوكا ودعوة، بل يلزم المؤمنات تمثلها بأساس قلبي هو حسن الظن بالمسلمات، وفقه شرعي يمكن من معرفة معاني الاستقامة ومقتضياتها.
– التعارف مع الناس أجمعين، والتعايش معهم بغض النظر عن الاختلاف في الدين أو اللون أو اللغة أو الوطن…، تقريرا للكرامة الآدمية التي كرَّم الله بها بني آدم، وسعيا لتشمل الكرامةُ الإيمانية العالمين، فتتسع دائرة التقوى والمتقين، مصداقا لقوله تعالى: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير” (الحجرات: 13).
هذه الأخلاق الإيمانية اعتبرها الإمام عبد السلام ياسين “أمهات الآداب التي جعلها الله سبحانه مقدمة في سورة الحجرات ليخاطب بعدها الإنسان، من حيث هو إنسان، يدعوهُ لرفق الإسلام وظل الإسلام الذي يُؤوِي في تلطفه وتبشيره وتيسيره وآدابه النَّادّين عن الله الجاهلين برحمة الله. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات: 13).
… كأن ترتيب الآيات يشيرُ إلينا مِنْ طَرْفٍ لطيف لنستعِدّ بأجمل ما فينا من آداب نستقبل بها الوافد علينا من بني الإنسان”، [ref]. عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مرجع سابق، ج 2، ص 50.[/ref] الذي يستوجب معاملته بالإحسان والعدل، والبر والقسط بتوجيه القرآن، “فالبرّ بكل الناس، والقِسْط إلى كل الناس مهما كانت عقيدتهم مبدأٌ قرآني”، [ref]. عبد السلام ياسين، الشورى والديمقراطية، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط 1، 1996، ص 145[/ref] و”البر بمن تعرف ومن لا تعرف من إنسان وحيوان وشجر وأرض وبيئة فضيلة مرفوعة”.[ref]. عبد السلام ياسين، محنة العقل المسلم، ط 1994، ص 78[/ref] البر بباعث إيماني إحساني، ومقصد تربوي دعوي واجب شرعي، وفضيلة خلقية، وحق للإنسان، كل إنسان.
إن صفاء المعدن، وترقيق الحس، وتليين الطبع بالتربية والمجالسة لأهل الإيمان، عوامل تُثمر في المؤمن والمؤمنة محاسن الأخلاق المؤهلة والرافعة لهما إلى المخالقة الحسنة، إذ تطهر من الأعرابية التي تبقى صفة “وعلَما على غِلظة في الحِس لم يرققها الإيمان، وكثافة في الطبع لم تلطفها مجالسة أهل الإيمان، وجفوة في الحس والمعاملة والشعور والكلام واللهجة لم تستأِنسها ولم تمِّدْنها آداب الإيمان. هذا إلى سطحية في الفكر وسوء ظن بالعالمين”،[ref]. عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج 1، ص 47. [/ref]فالتخلق والمخالقة يخرجان من دائرة “التدين الأجوف” الذي “يقعد بصاحبه عن معالي الأمور”،[ref]. عبد السلام ياسين، سنة الله، الطبعة الثانية، 1426هـ/2005م، ص 281.[/ref] ذلك أن من “علت همته وخشعت نفسه اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته وطغت نفسه، اتصف بكل خلق رذيل”.[ref]. ابن قيم الجوزية، الفوائد، المكتبة الثقافية، بيروت، 1413هـ-1993م، ص 144. [/ref]
خاتمة
يضع الحديث النبوي الشريف الذي رواه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، المؤمنين والمؤمنات على مفتاح مهم له وظيفتان: أولاهما: الوظيفة الوقائية للفرد والمجتمع من الميل إلى التعبد على حساب التخلق، أو الميل إلى التخلق على حساب التعبد، ليتحقق التدين الفردي والجماعي بشكل سليم، وثانيهما: الوظيفة العلاجية أو الإصلاحية التي ينبغي أن يقوم بها الفرد والمجتمع على حد سواء، لإعادة التوازن بين التقوى والمخالقة، تآمرا بالمعروف، وتناهيا عن المنكر، وتواصيا بالحق والصبر، وضربا للمثل، وتقديما للقدوة، بسلوك إيماني إحساني، أخلاقي ومروئي، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “إن البكائين في المساجد العاكفين على التلاوة والذكر لَنْ يكونوا هم أهلَ النور والربانية إن لم يكن سلوكهم العملي مع الناس، الأقرب فالأقرب، سلوكا أخلاقيا مروئيا، يزنون بميزان العقل واللياقة والكفاءة والجدوى وحسن الأداء كل أعمالهم”.[ref]. عبد السلام ياسين، سنة الله، مرجع سابق، ص 281.[/ref]
أضف تعليقك (0 )