قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ (النساء، 135). قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم، لا يحابوا غنيا لغناه، ولا يرحموا مسكينا لمسكنته». وأخرج ابن جرير عن السدي أنها نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم: اختصم إليه رجلان، غني وفقير. فكان حلفه مع الفقير (أي ميله) يرى أن الفقير لا يظلم الغني. فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير. قلت: كلام السدي يتضمن أن حكمة التشريع اقتضت إبراز هذا الحكم بهذه الصورة. وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم أبصر بالأمر، كيف وهو عبد يوحى إليه، منزه عن أن يكون له حلف مبني على الظن.
وقال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُوا﴾ (المائدة، 8). قال السيوطي في «الدر المنثور»: أخرج ابن جرير عن عبد الله بن كثير أنها نزلت في يهود خيبر: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعينهم في دية فهموا أن يقتلوه. فذلك قوله: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ﴾.
يتخلص لنا من كل هذا وجوب إقامة ميزان العدل والقسط بين الأغنياء والفقراء، والأقارب والأباعد، بلا حلف، ولا هوى نفس، ولا رغبة انتقام. وسواء في وجوب ذلك العدل القضائي المتمثل في أداء الشهادة أمام القاضي، والقسط في القسمة. وفي الآيتين الكريمتين إسناد القيام لله عز وجل في قوله: ﴿قَوَّامِينَ لِلهِ﴾ وإسناد الشهادة له سبحانه في قوله: ﴿شُهَدَاء لِله﴾.
فمن هذا نأخذ أن عمدتنا ولسان ميزاننا في إقامة العدل والقسط هو إخلاصنا الوجهة لله عز وجل، ذلك الإخلاص الذي يعصمنا من الميل مع الهوى، ومن الظلم في الحكم والجور في القسمة.
تزعم الرأسمالية أن نظامها القائم على حرية الفرد، وعلى الديمقراطية، وعلى الباب المفتوح في الاقتصاد، هو النظام الصالح لتوطيد العدل السياسي القضائي والقسط الاقتصادي الاجتماعي. وتزعم الاشتراكية أن ذلك لا يتأتى إلا في ظل نظامها الجماعي المرتكز على استبداد البرولتاريا.
ونشاهد عند القوم وعندنا أن باستمرار الحكم الرأسمالي والاقتصاد الرأسمالي تزداد طبقة الأغنياء غنى، ولا تنتزع الطبقة العاملة الناصبة حقوقها، أو بعض حقوقها، إلا بالعنف النقابي أو تحت تهديد الأحزاب الاشتراكية الاجتماعية. وهي خلاف الاشتراكية الثورية.
ونشاهد أن باستمرار الحكم الشيوعي تتحول الطبقة المحرومة من قبل إلى طبقة جديدة تستأثر بالملكية والمال والسلطان والمتاع.
الكفتان هنالك في الأنظمة الجاهلية راجحتان لصالح الطبقة الأقوى والأدهى. وفي دولة الإسلام يجب أن يكون القيام لله، والشهادة لله، والمرجع لله، والقانون شرعه المقدس الذي يجد فيه المجتمع توازنه، ويجد فيه كل ذي حق حقه.
الصراع في بلاد الرأسمالية مستمر بين الطبقات الاجتماعية. صراع يحرك السياسة والاقتصاد، يتحكم في الانتخابات والإضرابات والتحالفات. وتحت الجاهلية الأخرى نسمع جماعة من المحتجين، سموهم «متمردين»، ينازعون مشروعية الحكم البرولتاري المستبد، ويطلبون شمة من العدل، ونسمة من القسط، وهبة من الحرية.
العدل والقسط هنالك، كما هما في ظل أنظمة الجور عندنا، مطلبان دائمان، بهما وعليهما وفي أمل الحصول عليهما تحيى الشعوب. والخلاف على معنى العدل، وماهية القسط، وقاعدتهما، ومن الكفيل بهما، والحكم في شأنهما، خلاف عجاج رجاج.
وفي دولة الإسلام، يقوم جند الله لله، ويشهدون لله فيثبت الميزان في أيديهم، وينتهي الخلاف، إن نشِب، إلى حكم الله الذي أنزل الكتاب والميزان. قال عز من قائل: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد، 25). وقال سبحانه: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾ (النحل، 64).
وقد بين صلى الله عليه وسلم ضوابط العدل وقوانينه، وأصوله، وفروعه، وأنصباء القسط، وقسمته، وأمناءه، فلا مجال أن يحيف حائف عن العدل، ولا أن يتقول متقول في وجوب القسط، وكيفيات كل ذلك وقواعده. وما سكتت عنه الشريعة ولم يرد فيه نص من شؤون العدل والقسط، مما يتلبس بالظروف الطارئة، فالاجتهاد وفق الضوابط والقواعد والأصول شرع.
فالحق الذي لا مراء فيه هو أن الشريعة الإسلامية كلها عدل، وكلها قسط، وكلها رحمة بمن أدى أمانته وحقوق الله والناس عليه، وكلها جفاء وزجر لمن عطل ذلك وحاف.
أورد الآيتين من سورتي النساء والمائدة الآمرتين بالقيام والشهادة لله بالقسط. ثم ضع الشطر الأول من الأولى قبالة الشطر الأول من الأخرى، واقرأ أن القيام بالقسط يقابل القيام لله، وأن الشهادة لله تقابل الشهادة بالقسط. معناه أن القيام لا يكون لله إلا كان القسط في حق الناس عديله. وأن الشهادة بمعناها القضائي وبكل معنى تحتمله اللفظة، لا تكون لله إن لم يكن القسط بين الناس موازيا لها.
كلمة «اشتراكية» مشحونة بالآمال المتطلع إليها الإنسان في عدل وقسط يريحانه من ظلم الساعة وجور الواقع. ولشيوع الكلمة على لسان المحرومين والرافضين والسياسيين المحترفين، واغترارا بهم على لسان أصناف المستضعفين، تجد من اللصيقين بالإسلام من يتخذ الكلمة لما لها من بريق لحنا في القول يراود به أفئدة المظلومين وعقولهم، مثلما يفعلون بالكلمات الأخرى الواردة علينا كالديمقراطية والحرية وما شابه. وإن الإسلام لله، والشهادة بوحدانيته تعالى وحاكميته، والشهادة له، والقومة لنصرة دينه، تتضمن في جانب الإنسان إنصافه، والقسط والعدل في حقه. فإذا قلنا «القومة الإسلامية»، و«دولة القرآن»، فقد نطقنا بالأمرين متعانقين: حق الله علينا أن نعبده وحده لا شريك له، وحق العباد أن نؤتيهم ما لهم بالقسط والعدل.
ملاحظة: فعل «قسط» بالصيغة الثلاثية معناه: ظلم ولم يوف بالقسط. وأقسط بالصيغة الرباعية معناه: عدل ووفى بالقسط. قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ (الجن، 15). وقال جل اسمه: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات، 9).
عبد السلام ياسين، في الاقتصاد، البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية، ص 193-196.
أضف تعليقك (0 )