مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

لبنات في ثنائيات

لبنات في ثنائيات

من المفاهيم المؤطرة لهذا العمل البناء، ثنائيات وثلاثيات وعشاريات.
أما الثنائيات فمنها الضدية، ومنها التكاملية، ومنها التفاضلية.

أولا: الثنائيات الضدية

1. الخلافة والملك

فأما الثنائيات الضدية التي يمكن اعتبارها مفاتيح لفهم مشروع البناء العمران الأخوي، فنجد الخلافة والملك، فالخلافة على منهاج النبوة رشد مؤسس على شورى، وهي سلسلة استوفت حلقات نسختها الأولى مع الخلفاء الراشدين الأربعة، لتكون صدر الإسلام النابض قلبه بحياة الإيمان، والمشع بنور الوحي والنبوة، والقائم بنيانه على وازعي القرآن والسلطان معا، إنها خلافة المستشارين المهديين الخيرين، الصديق والفاروق، وذي النورين عثمان إمام الخلق والحياء، والحلم والأناة، وباب مدينة العلم حامل اللواء، ورمز الفداء، أبا الحسنين وزوج الزهراء، علي كرم الله وجهه، ورضي الله عنهم جميعا وأرضاهم، هذا الذي وقع عليه الإجماع، ولمستدرك أن يضيف ما شاء من أئمة الهدى والصلاح، وإن كان الرأي الراجح أن من أتى بعد هؤلاء العظام الكرام، لم يكونوا إلا حلقات استخلاف راشد في سلسلة عض أو جبر، مازوا ضمن السلسلتين الزائغتين عن رشد الخلافة، بشهادة بالقسط وقيام لله بالحق، على رأسهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله، والنماذج من طراز هذا العلم الفذ قليل في تاريخ المسلمين بعد انكساره، بين يدي أن تتوج حلقات تجديد الدين على رؤوس المئين، بنسخة ثانية من الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، بشر بها الحبيب في حديث الخلافة المشهور، والذي بدأنا نتنسم عبير تحقيقه، وتتراءى لنا ملامح هلاله، في أفق تحجبه عنا ظلمات اليأس، وسحائب النكبات والنكسات المتكررة، كما تعمي عنا رؤيته غشاوة الغفلة عن الله، وسوء الظن به، وعدم اليقين في قدره الحكيم، فضلا عن القراءة غير المتبصرة في واقع الفساد والاستبداد، الذي بدأ يتحلحل ويتداعى كيانه، مؤذنا بالخراب الوشيك، وقيام عمران البيضاء على أنقاضه، وفق أسس مكينة من إرادة المريدين، وسعي الساعين، بصبر ويقين، جعلنا الله وإياكم من المبشرين المبشرين المستبشرين.
والملك بيعة مؤسسة على الإكراه عضا وجبرا، إنه توريث بغير وجه حق، وتسلط على رقاب العباد من دون وجه صدق، أمراء يرضون لأنفسهم ما لا يرضون للأمة، من أطاعهم أذلوه، ومن عصاهم قتلوه، أو حصروه، أو تداعوا عليه عادين مستعدين، وفي الأمة من رضي لنفسه أن يكون سيفهم أو سوطهم أو صوتهم، أو حلس بيتهم الساكت عن الحق، القانع بعافية الجبناء، اليتيم الحائم حول موائد اللئام، أستغفر الله وفي الأمة كرام، ينشدون مكانا قرب سيد الشهداء بقولة الحق عند السلطان الجائر، لا يخافون في الله لومة لائم، لم تعدم الأمة نماذج منهم، كأبي حازم، والعز ابن عبد السلام، وابن عرفان، وفقهاء المذاهب الأئمة الأعلام، وابن تيمية، والحسن البنا، وسعيد النورسي، وسيد قطب، وفي المغرب من هذا الطراز رجال أمثال لحسن اليوسي، وابن عبد الكبير الكتاني، والأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، وغيرهم كثير رحم الله من مات، وحفظ من بقي، ولكل أجره ونوره، بقدر ما قام وشهد، وجاهد واجتهد، وربى وجند، وكتب وانتقد، ودحض وفند، وأوذي واضطهد، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. [ref]سورة آل عمران، الآية 146.[/ref] رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. [ref]سورة الأحزاب، الآية 23.[/ref]

2. الفتنة والجاهلية

من هذه الثنائيات الضدية أيضا، الفتنة والجاهلية، الفتنة تجرم الراعي المسؤول، والرعايا ضحايا، فتنهم فاتن عن دينهم، وكاد الفقر أن يكون كفرا، والجاهلية دعوة على أبواب جهنم حكما وظنا وتبرجا وحمية، تفصل الدين عن الحياة ولا تبقي منه بقية، نحلة غالب ودين انقياد، أو ما أسماه رسول رسول الله جور الأديان في مقابل عدل الإسلام.

3. المعارضة الشرعية والمعارضة السياسية

ثنائية ضدية أخرى، المعارضة الشرعية والمعارضة السياسية، المعارضة الشرعية حق يعارض باطلا، أو دعاة حق يعارضون دعاة الباطل، فلا تطبيع ولا مطاوعة ولا مؤاكلة ولا مشاربة، بل إرادة تغيير، لا مجرد إصلاح وترميم، لأن البناء إذا تصدع وتداعى فهو إلى انهيار لا ينفع معه صبغة صابغ، أو زخرف مصانع أو مطاوع. وهذه المعارضة أبان عنها باللسان الفصيح المبين نبينا الصادق الأمين عليه أزكى صلاة وتسليم “يا عمّ، لو وُضعت الشمسُ عن يميني والقمرُ في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يُظهرَهُ الله أو أهلِكَ في طلبه”. [ref]حياة الصحابة للكندهلوي، ج1، ص35.[/ref]
أما المعارضة السياسية فمصلحية نفعية -في الغالب الأعم- تدين بفقه الممكن، وبوسيلة تبررها الغاية، وبحسابات حزبية ضيقة، وتحالفات مظروفة مسقوفة، قوامها المصلحة المشتركة، والتفاهم من تحت القبة، والعرق في الحلبة، وللأقوى الأغلبية والغلبة. مع استثناء المعارضة السياسية الممانعة المقاومة التي إن سكتت عن كثير من الحق جهلا منها به، أو مصانعة لظرف لم تقوى على تغييره، أو تدرجا في الأخذ بمشروع تستكمل حلقاته تباعا بلا قصور ولا تقصير، فإنها لا تقول بالباطل ولا ترضى به ولا عنه ولا تداهنه أو تهادنه، فأحرى أن تساوم في مبادئها فوق طاولة التطبيع، أو تحت طائلة ما لا يدرك كله لا يترك جله، وفوق طاقتك لا تلام)، وليس في الإمكان خير مما كان)، وغيرها من الشعارات التبريرية التي ما تلبث أن تتحول إلى اقتناعات يسال في تمريرها مداد ويدرجها أصحابها في سلك الاجتهاد.
من يهنْ يسهلِ الهوانُ عليهِ *** ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ
وكم من معارضة بدأت شرعية قوية نقية، ثم تحولت سياسية ممانعة ذكية، ثم تحلحلت وتخلخلت فأضحت سياسوية مصلحية نفعية، ثم تردت رجعية تتخذ الأنظمة التي عارضتها سندا ومرجعية.

4. الإرادة والحماس

ثنائية أخرى ضدية، الإرادة والحماس، الإرادة صدق واقتحام وانضباط والتزام، وتخطيط استراتيجي عام، بعيد المدى، قاصد المشي والخطى، لا ينثني إلا بانحناء خامة الزرع أمام العواصف الهوج، كالرمح سوي في ذاته، مستقيم في مسيرته، مصيب لغايته.
وأما الحماس فرخيص وشعلة تبن ما تلبث أن تنطفئ وابتذال وارتجال واستعجال وانفعال وحال، وشرة هي إلى فترة وتلاش واضمحلال، وسحابة صيف إلى زوال، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [ref]سورة الرعد، الآية 17.[/ref] .

5. القومة والثورة

القومة وضع القوة في يد الشرع، ولا يقوم إلا عبد الله، الذي أقام وجهه لدين الله، لا يريد قصاصا ولا انتقاما، ولا ثناء ولا إنعاما، ولا مناصب ولا رواتب ولا مكاسب ولا مراتب، وطن نفسه على المقاصد لا على المطالب، وعلى أداء الواجب، لا على التطوع الكفائي، والتعب الناصب.
وأما الثورة فوضع القوة في يد الهوى، عنفا وثأرا للنفس، واندفاعا كاندفاع الثور من مخبئه المظلم، لا يهمه إلا النطح والعفس، ومغالبة الخصوم، وإهلاك الحرث والنسل.
والمنهاج نماذج من هذه الثنائيات اقتصرنا على ذكر بعضها مما نرى له حضورا مكثفا في صفحاته التنظيرية، وعلى أرض واقعنا الميداني العملي.

ثانيا: الثنائيات التكاملية

1. العدل والإحسان

وأما الثنائيات التوافقية التكاملية، فمنها العدل والإحسان، العدل في الحكم والقضاء والقسمة، والإحسان، عبادة ومعاملة وعملا.

2. الدعوة والدولة

ومن هذه الثنائيات أيضا، الدعوة والدولة، لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، والجمع بين الوازعين هو الحق والصواب والحكمة وفصل الخطاب، على أن يكون للدعوة رجال تربية ونصيحة، وللدولة رجال علم وعمل، قول وفعل، والجمع بين الدعوة والدولة يكون لقلة قليلة، هم الشاهدون بالقسط، كما أفصح عن معدنهم الأستاذ المرشد في منهاجه النبوي، وهم حجر الزاوية في البناء، كما سبق ذكرهم.

3. القوامة والحافظية

ثنائية أخرى من هذا الطراز، ثنائية القوامة والحافظية، قوامة الرجل، قياما لله، واستقامة على الجادة، وتقويما للاعوجاج، وتقييما للأمور بميزان الشرع، وقياما بالحقوق حيث القوامة رفقا بالقوارير، وعملا بوصية من أوصى بالنساء خيرا، فلا يفرَكهن، ولا يكسرهن، بل يكون خيرا لهن يكرمهن ولا يهينهن، ويرعاهن لأنه مسؤول عنهن.
والحافظية، أن تحافظ المرأة على صلاتها، وتحفظ الرجل في غيبته مالا وعرضا، وتحفظ له أسراره لتكون له لباسا وسكنا، تطيع إذا أمر وتسره إذا نظر، وهي المحافظ على الفطرة زوجا وأما، أول من يصحب، وأولى من يصحب، والأجدر أن تبذر فيه بذرة البشر، وهي خير البذور وأغلاها، فتحملها وترعاها جنينا في بطن، قبل أن تخرج هذه البذرة شطأها، لتتنامى بسقيا لبان الأم الحاضنة، ودفئ كنفها الراعي، لتنمو وتزكو طفلا يفطم ويحبوا ويترعرع، قبل أن يستوي على سوقه لتنكشف معالم شخصيته.

4. الرحمة والحكمة

ثنائية أخرى، الحكمة العقلية والرحمة القلبية، الحكمة أن لا تقول الحق ضربة لا زب، وأن لا تآكل وتشارب، تسدد وتقارب، تحافظ على المكاسب، وتصانع ظرفك بما يناسب.
والرحمة، أن تكون رحيما بنفسك، فتقيها خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وأن تكون رحيما بالناس فالراحمون يرحمهم الرحمان، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، ورحمة ربك وسعت كل شيء، وإنها لقريبة من المحسنين، المتوادين المتراحمين، الواصلين لأرحامهم، المترحمين على موتاهم وموتى المسلمين، الذين يختارون من الأمر أيسره، وييسرون لا يعسرون، ويبشرون لا ينفرون، وهل الرحمة إلا أم الصفات التي اتصف بها الحق سبحانه قبل أن يغدقها نعما على الرحمة المهداة للعالمين، وهل المؤمن إلا قلب رحيم يسع الناس بحلمه ورفقه وصبر صدره، وهل المؤمن إلا الموطأ كنفا الذي يخفض جناحه لوالديه من رحمة، وللمؤمنين عفوا عن أخطائهم واستغفارا لذنوبهم وخطاياهم واستشارة لهم، لا استبدادا برأي ولا استعلاء بأمر أو نهي.

5. الوضوح والتدرج

وضوح الطريق اللاحب ليكون السير فيه على بينة وبصيرة، لا تخبط عشماء وتورط ظلماء، والطريق المجهولة تكون الخطوات بها بطيئة كم يقول الصينيون.
والتدرج حكمة ومصانعة لكل ظرف بما يناسبه، وتدرج في الأخذ بالدين وتنزيله على أرض الواقع “إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ”. [ref]رواه الإمام أحمد رحمه الله.[/ref] وكما نهينا عن فترة المقصرين نهينا أيضا عن شرة المتحمسين المتهورين. تدرج متنام اقتحاما وصعودا إلى قمة العقبة، حيث الإحسان شهادة بالقسط، والقياما لله بالحق، خلوص نية وإتقان عمل ونشدان كمال.

6. اليقظة القلبية والمنهاج النبوي

إن أول مراتب التوبة يقظة قلبية من موت القلوب، وتغول النفوس وتوغلها في أدغال الاغتراب عن الدين، والضياع في متاهات الفتن والمحن والإحن ما ظهر منها وما بطن، يقظة ثم حضور شاهد قاصد على بصيرة ونور، ثم مراقبة هي الحياء من الله حق الحياء أن لا يراك حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك، وأن لا تجعله أهون الناظرين إليك إن خلوت فلم يرك الناس ورآك، وأن لا تتأخر عن تلبية النداء إذا دعاك الله ورسوله لما يحييك خوفا أن يحول الله بينك وبين قلبك، فإذا الإرادة مشلولة وإذا الأعمال معلولة وإذا القلوب مكبلة مغلولة، والمراقبة أيضا يقظة قلبية في أسمى معانيها وأعلى مراميها بين يدي أن يصبح العبد وقد تقرب إلى المعبود المقصود، حتى أحبه فأضحى له، كما يليق بجلاله وعظيم شأنه، ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مما تضيق عن وصفه الألفاظ، وتعمى عن رؤية نوره الألحاظ، ما إن عبرت عنه الألسنة قطعتها الأسنة.
أما المنهاج النبوي فلا يسكن إلا قلبا يقظا، ولا يسلس قياده إلا لم أوتي اليقظة القلبية، لأنه ليست رؤى منظر، ولا أفكار مفكر، ولا ترتيبات مدبر، ولا تقنيات مؤطر، بل إنه توفيق من الله المبارك الميسر المقدر، من يعلم عبده العلم النافع المنشئ للعمل الصالح، ويلهمه الحق والصواب والحكمة وفصل الخطاب، ويجري من قلبه على لسانه ينابيع تلك التي من أوتيها أوتي خيرا كثيرا، ليكون داعيا إلى الله بإذنه على بينة وبصيرة من أمره، منهاج من لا يرضى دون النبوة دليلا، ودون الصراط المستقيم سبيلا، منهاج البِناء الرباني والبَناء الرباني الذي هيأ الله له أسباب الفلاح، وأهله ليمتلك ناصية النجاح، وأورثه الكتاب علمه وفهمه، وجعله على قدم المتبوع الأعظم صلى الله عليه وسلم، ليحي السنة المعرفة بأل، والمعرفة بما كان عليه الصحب والآل، الذين رأوا وصحبوا فكانوا الجيل القرآني الفريد، جيل التلقي للتنفيذ، ما منهم إلا قائم وشهيد، ولله الأمر من قبل ومن بعد، يقيض للأمة على رؤوس المئين، من يحين هذا المنهاج النبوي في سياقه التاريخي، بفقه اجتهاد وتجديد، منقح ومزيد، لا ممسوخ يؤاكل ويشارب ويتبع هوى كل جبار عنيد، وسبل كل شيطان مريد.

7. الاستقرار الأسري والاستقرار الدعوي

يقول الحبيب المرشد: لا استقرار دعوي إلا باستقرار أسري)
الاستقرار الأسري مؤسس على استخارة عاصمة من الخيبة، قبل استشارة واقية من الندم، واقتصاد مانع من العيلة، فاظفر بذات الدين تربت يداك، استقرار من وجد لباسا وسكنا وحرثا ووجدت، ومن اجتمعا على المودة والرحمة فكان الطيب للطيبة، أنعم بها من صحبة، صحبة الأبد، فزوج الدنيا زوج الآخرة، فلتكن علاقة المرأة ببعلها علاقة إحسان، خميرتها عبادة الله، ودقيقها الحب في الله، وماءها ذكر الله، ليكون خبزها الطازج وأكلها المتوج والمتوَج نسل هو من عمل الوالدين الصالح، الذي لا ينقطع حتى بعد انقطاع حبل العمر، وحسنتهما التي تُذهب السيئات، وهو لأعلى الدرجات سلم ومرقاة، استقرار أسري لمن استقرت نفساهما على تحصين يقيهما من معاول شياطين الإنس والجن وجنودهما أجمعين، وتأصيل يكون الميثاق الغليظ الذي لا تنفصم عراه ولا ينحل عَقده وتنفك عقده، بوعظ هادئ هادف، لا يحرج ولا يزعج، ولا يحوج المتعاقدين المتخاصمين إلى ضرب أو هجر أو استعانة بغير، للم الشعث وجمع الشتات، ووصل ما انفصل وتأليف ما انحل وتصويب ما اختل، وبعد التحصين والتأصيل لابد من تحصيل مودة ورحمة، يتنامى رصيدها المشفر بالحب المضمر، ورصيدها المعلن بالتعاون على البر وأبواب الخير، من علم نافع وذكر مطمئن ودعوة بانية وشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وليس بعد التحصيل إلا توصيل الخير الذي ملأ القلوب وعم أرجاء البيت ما بين أرضه وحيطانه وسقفه، ليشع نورا على الوالدين والأقربين وأبناء الحي وكل حي.
أما الاستقرار الدعوي فالاسقرار الأسري له نواة وإكسير حياة. وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ref]سورة الشعراء، الآية 214.[/ref] وأقرب الأقربين إليك نفسك التي بين جنبيك، هي أول من ينبغي أن يشملهم وعظك وإنذارك وتبشيرك، وهي من لا يستثنى عند وعظ الغير وإنذاره وتبشيره، وهل ينسى المؤمن نفسه إلا أن ينسى الله نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ. [ref]سورة الحشر، الآية 19.[/ref] الاستقرار الدعوي يكون أرضا معبدة وطريقا واطئة واضحة لمن كفاه الله تعالى هم الدنيا فحيزت له بحذافيرها، عافية بدن، وقوت يوم، وأمنا في سرب، ثم ألهمه إرادة الآخرة وأن يسعى لها سعيها، بأن يجعل بيته وتجعل بيتها نائبا عن بيت الله في وقت أصبح المسجد فيه ضرارا، بعد أن أفرغ من محتواه، وأصبح يحارب فيه ذكر الله، ويذكر فيه غير الله، بل يمجد ويعظم من يحارب الله ويحارب دين الله وعباد الله، وما من خير فعل في هذا البيت إلا وللزوجين من الأجر كفاء، وحتى وإن لم يذكر الزوجان ولم يذكر الأولاد فإن ذكر المؤمنين والمؤمنات الله في البيت حصانة للزوجين وللأولاد، فكيف إن ذكرا هما والأولاد. رحم الله رفاعي سرور من ألف كتاب عنونه بهذا العنوان المثير الأثير المذكر المنير “بيت الدعوة”، من هذا البيت يخرج النور ويشع ويُطْعم المؤمنون والمؤمنات وينتشرون بالخير، ولو نظر إلى هذا البيت ذو الفراسة لرآه من يرى بنور الله، بيتا ليس كباقي بيوت الحي، بل هو حي بين البيوت الإسمنتية، بأنوار وأسرار وطيبات وأخيار، يفيد مما آتاهم الله كل جارة وجار، بدعوة صامتة تمشي في الناس حية تسعى، فتُقذف حقا على باطلهم فتدمغه فإذا هو زاهق، وتبني بلبنات أخلاقها ومعاملاتها وأحوالها وأقوالها وأفعالها بناء الدعوة الربانية، فإذا هو شاهق سامق يروج لسلعتها الناس بذكر يرفعه الله على ألسنتهم، وبدعوة ناطقة تتبع حسنة الدعوة الصامتة فتثبتها وتنبتها في الأمة نباتا حسنا، فإذا محضن التهييئ أسرة دعوة ومدرسة تأهيل، بدرة تتنامى من حبة إلى سنبلة إلى زرع يهيج فيكون مخضرا، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار.

8. الصحبة والجماعة

الصحبة والجماعة، الصحبة نسبة إلى سلسلة رباينة أصيلة شريفة، ودوحة نبوية وارفة الظلال مُنيفة، والصحبة محبة في الله هي أوثق عرى الإيمان، وهي خرق للصحبة الفاسدة، الوجه الثاني لعملة هذه العروة الوثقى البغض في الله، براء ومفارقة ومباينة، ومدافعة ومقاومة وممانعة، والصحبة طاعة لله وللرسول ولأولي الأمر من المؤمنين، وهي تصديق وتسليم، حتى لا ينازع أحد الأمر أهله، وأفضل الصحبة الخلة، والمرء على دين خليله، والصحبة مفتاح، مفتاح العلم والفهم والغزو وأبواب الخير، وأقفال القلوب ومغالق الأمور والآفاق.
والجماعة، ما وافق الحق ولو كنت وحدك، وهي اجتماع على الله، وانجماع عليه، وجمع عليه، وتعاون على البر والتقوى، وتحقيق لدستور المحبة، وتناصح وتشاور، ومساواة ومواساة وتآزر وتغافر وتواصل، وللمرشد الحبيب مزيد فهي صحبة وجماعة مقترنين لا ينفصل بعضهما عن الآخر، إذ الصحبة دعوى والجماعة برهان، ولا يأكل طعام الصحبة إلا في إناء الجماعة، بل إنها صحبة في الجماعة، أن ترى في إخوتك من تصحب، فتعظمهم وتوقرهم، وتتخذهم للآخرة لتكونوا على أتقى قلب رجل واحد، ذاتا واحدة، جسدا واحدا، فيتفرق في الجماعة ما اجتمع عند المصحوب، ليكون جمعه من الصاحبين هو المطلوب، وأرقى من هذا وذاك جماعة في الصحبة، وهي لآحاد أفراد، من ألف ألف إلى انقطاع النفس واحدم، من كان أمة وحده، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [ref]سورة النحل، الآية 120[/ref] .
هذه الصحبة هي التي جعلت من كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلبا وقالبا، مصحفا وسيفا، رخاء وشدة، عددا وعدة، الجيل القرآني الفريد، والعصبة المؤمنة المنصورة المؤيدة، التي بني عليها صرح البعثة النبوية، والخلافة الراشدة الوارثة الشاهدة، قبل أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة، ويؤول الأمر إلى ملوك العض والجبر بالهوى والعسف، لكن الصحبة ظلت سارية في الأمة سريان الدماء في العروق، والماء في الجداول، والكهرباء في الأسلاك، ليسلك بها إلى الله على هدي رسول الله صىلى الله عليه وسلم، من حافظوا للدين على مائه الصافي العذب الزلال، النابع من قلوب الرجال أهل الكمال، أجيالا تعقبها أجيال، لا انقطاع لهذه الحبال، التي تصلنا بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. صحبة أهل الله العارفين به الدالين عليه الذين حافظوا لنا على لب الدين، وأوصلوه لنا زكيا نقيا من كل الشوائب والمثالب، صحبة من صحب ورؤية من رأى هي الاتباع بإحسان لمن تبعوا من صحبوا، هم أطباء القلوب لمن أقر بمرضه، والتمس عندهم وصفة لدائه، فصان دنياه عن اللعنة، بعلم يأخذه من أفواههم، وذكر يصفونه له ترياقا من صيدلية النبوة، فإذا هو المعافى من داء الأمم الوهن، حب الدنيا وكراهية الموت، وإذا هو المصافى بكلمة السر، لا إله إلا الله، التي هي مفتاح القلب، وإذا هو الموافى بفتوح الغيب، والبرهان المؤيد، والأنوار القدسية، وقوت القلوب الزكية، والمنح العطائية الربانية، وغيرها من نفحات الربِّ، ونسمات القرب، لا حرمنا الله وإياكم من نعمة الاستهداء اهدنا الصراط المستقيم، ونعمة الاقتداء صراط الذين أنعمت عليهم، ووقانا وإياكم من نقمة البعيدين المبعدين غير المغضوب عليهم، وشقوة من أخطأ السبيل وافتقد الدليل ولا الضالين، آمين.

9. اختيار واختبار

العاملون على إقامة هذا البناء نماذج من الرجال الأقوياء الأمناء هم في النحل يعسوب، وفي الخيل جياد، وفي الإبل راحلة، ووسط الأقران شامة، تميزهم أكثر من علامة، والعاملون في هذا البناء أعضاء لزم اختيارهم بعناية لا تخلو من صرامة، لأن المال والرجال عصب الدعوة، وإذا وجب أن يكون المال من حلال، وجب أن يكون الرجال من صنف طالب الكمال، الذين لديهم قابلية للتنمية والتقويم، والصالحين للتربية والتعليم، الذين وقاهم الله من الأمراض المزمنة والمعدية، والمثالب الهجينة والمؤذية. وهذا الاختيار يتم وفق مساطر انتخابية شورية سليمة، وميزان عمري قويم، وفراسة من خبير حكيم. وقد يفيد وقد لا يفيد إلا التعيين في الاختيار إن تعلق الأمر بمسؤولية وازنة وموقع حساس، فليكن أنت لها يا حذيفة هو المقياس والنبراس. والتهاون في الاختيار يؤدي إلى أكثر من مرض ووباء سمِّه الغموض في الانتماء، أو التجميع التكاثري الغثاء، أو الارتجال في إسناد الأعمال وتوظيف الرجال.
وبعد الاختيار لابد من اختبار، لا نعني به التجسس وإنما نعني به امتحان النفوس، على محك الصبر واليقين، والضبط والإنجاز، والإرادة والسعي، والمبادرة والنجاح، وتحمل أعباء الدعوة والجهاد، بلا توان ولا تملص ولا تهور ولا إثقال هو عدو الإتقان.

ثالثا: ثنائيات تفاضلية

1.من ذكر التربية إلى تربية الذكر

لا يكفي أن تذكر التربية لتكون مربا فأحرى مربيا، بل لابد من تنمية الذكر ومن ليس إلى زيادة فهو إلى نقصان، والقناعة من الله حرمان.

2.من مجالس النصيحة إلى رجال النصيحة

لا يكفي أن تحضر مجالس النصيحة، لتكون رجل نصيحة، بل لا بد أن تستعد للمجلس – ومجالس المؤمنين كلها مجالس نصيحة، وهل الدين إلا النصيحة- وليكن استعدادك استعدادا قلبيا وإعدادا قبليا، وأن تكون في المجلس وتدا ثابتا، منضبطا ومشاركا، وأن تكون بعد المجلس مشعا من باب هل فيكم رجل رشيد، أي هل في المتجالسين المتناصحين من تميز برجولة ورشد، تسمع النصيحة وتقبلها وتعمل بها وتؤديها كما سمعتها وتلقيتها أو أعطيتها وبذلتها.

3.من زمن العادة إلى زمن العبادة

الناس تأكل أوقاتهم العادة، وهي من الفتنة الجارفة المعدية، والتي يصبح من يتعاطاها مدمنا، لا يملك عنها فكاكا إلا أن يجد مَعين صحبة دالة منهضة، ومُعين جماعة مذكرة مجاهدة يقفان بك على الصراط المستقيم، ويتعهدانك لتصبح سويا مسددا مؤيدا، لا محجورا عليه مقيدا، ولتندرج في سلك زمن العبادة، زمن من لا يضيع وقته في الترهات، وتفوته دقائق الليل الغالية في النوم والغفلات، فإذا سبح النهار تجربة غربة وضياع في العادات والمتاهات.

4.من الأماني المعسولة إلى الجهاد

ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، ومعسول الأماني لا يغير ما بنفسك فأحرى أن يؤهلك لتسهم في تغيير ما بالأمة، وإنما المطلوب الجهاد، ولا جهاد إلا بجماعة منظمة، ولا جماعة منظمة إلا بقيادة ربانية بانية، ومنهاج نبوي هو الأساس النظري للعمران الأخوي.

5.من صحبة وجماعة إلى صحبة في الجماعة

الصحبة مفتاح كل خير مغلاق لكل شر، مفتاح للعلم والفهم والغزو وأقفال القلب وأبواب الخير، والجماعة هي الحاضنة التي يعيش في كنفها المؤمن رضيع لبان ونزيل حنان، قبل أن يفطم ويحبو ويشتد عوده ليسعى سعي الرجال في طلب الكمال، لكن فصل الصحبة عن الجماعة إن ماز عن صحبة بلا جماعة إسلام زهادة وصلاح وانعزال، وفصل الجماعة عن الصحبة إسلام فكر وحركة بلا يقظة وذكر حلاوة إيمان، يعد نقصا في فهم الدين وقصورا في تمثل منهاج سيد المرسلين، إذ المطلوب دمج الصحبة في الجماعة، وجعلها منها بمثابة الروح من الجسد، وهذا لا يتأتى إلا إذا كان الصاحبون جماعة على أتقى قلب رجل واحد، ذاتا واحدة، جسدا عضويا كاملا متكاملا متلاحم الأعضاء متراحمها، يجسد الصحبة في سلوكه الجماعي المنظم، ويشع بنورها من باب “يَأْتِي زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقَالُ نَعَمْ فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقَالُ نَعَمْ فَيُفْتَحُ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقَالُ نَعَمْ فَيُفْتَحُ” [ref]رواه البخاري ومسلم رحمهما الله.[/ref] ، ومن باب “إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، هم مني وأنا منهم” [ref]رواه الطبري.[/ref] ، ومن باب “إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله قوم يتحابون بروح الله من غير أرحام ولا أموال يتعاطونها بينهم والله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ “ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ref][يونس : 62][/ref] ، [ref](ابن أبى الدنيا فى كتاب الإخوان ، وابن جرير ، وابن حبان ، والبيهقى فى شعب الإيمان عن أبى هريرة)[/ref] جعلنا الله وإياكم منهم آمين، والحمد لله رب العالمين.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد