post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

تواجه المعلم المربي صعوبة في بدء الطريق، عندما يستعد بعلمه وطرقه ليزاول عمله في تربية الأطفال. هذه الصعوبة هي أنه غير واثق من أن الطرف الآخر سيقبل عليه وسيهتم بعمله.
لا يحل هذه الصعوبة أن بوسع المربي وفي يده مبدئيا سلطة واسعة. أن يفرض نوع السلوك الذي يحبه التلاميذ. فمما لا يشك فيه أن كل عمل خارجي يفرض على الطفل يبقى عديم الجدوى إلا أن يجد في نفسه تجاوبا.
كما لا يحل هذه الصعوبة أن بوسع المربي أن يخترع من المغريات أشياء كثيرة، فيستعمل كتبا رائعة المظهر، حسنة التنسيق، واضحة الغاية، أو يعتمد على طريقة في الإلقاء شيقة مؤنسة أو يلجأ إلى غير هذه من الحبائل الجميلة التي لا تصطاد إلا فضولا عابرا من جانب الطفل. نقول إن هذه المغريات جميعا لا تضمن أن يقبل الطفل على الدرس ولا تضمن أن يقف الطفل الموقف الإيجابي الذي يقف عندما يهتم بأمر ما.
لابد أن يهتم الطفل بعمل المربي حتى يشاركه فيه كما يقتضي ذلك ناموس النمو، هذا الناموس الذي يدفع الناشئ القاصر في اتجاه المعرفة حتى يبحث عنها غير منقطع. ولا ترده الصعوبات مهما كانت.
وقد بدأ البحث في سيكولوجية الاهتمام بنظريات هربرت، ثم تطورت هذه السيكولوجية بآراء ديوي وكرشنشتاينر.
وتدور نظرية هربرت حول تداعي المعاني، لأنه يرى أن حقائق العالم كلها متصل بعضها ببعض، والمهم أن يجد المربي نقطة الوصول بين هذه الأجزاء، ويسخرها لجلب انتباه الطفل. ويزيد هربرت على هذا أن الانطباعات القوية كالألوان البراقة والحركات المفاجئة أو الصوت المرتفع تجلب الانتباه أكثر مما تجلبه الألوان الباهتة والأصوات الخافتة.
أما ديوي وكرشنشتاينر فقد نقدا نظرية هربرت ووصفاها بأنها سطحية تبني كل شيء على الأفكار والتفاعل الذي يحدث بينهما، مهمة الشخص الحي وميله الحقيقي. وبينا أن الاهتمام إنما ينتج عن حاجة الشخص الأصيلة وأننا لا نهتم إلا بما يجيب رغباتنا الخفية، ثم بينا أن التربية تهدف إلى تعويض الاهتمامات الطبيعية باهتمامات أخرى أنبل منها غاية لأن مهمة التربية ليست مسايرة الميول الغريزية بل تهذيب هذه الميول والسمو بها.
أما بعد فإن الاهتمام هو تعلقنا بالشيء وانصرافنا إليه وهو شرط للانتباه، حيث لا ننتبه إلا لما نهتم به. واهتمامنا بالشيء نتيجة عن حاجتنا الجسمية أو الخلقية أو العقلية. فنهتم بالطعام عندما نجوع، ونهتم بالألغاز التي تستغلق علينا بحكم فضولنا الطبيعي. وهذا مخالف تماما للاهتمام الظاهر الذي لا ينبثق عن الحاجة، وإنما يفرض بداع خارجي مثلما يحدث عندما نشاهد تمثيلية أو فيلما أو عندما نسمع محاضرة. لأن هذا الاهتمام الخارجي لا ينتج عنه انتباه حقيقي، وإنما هو توجه موقت القصد منه إرضاء رغبة في الاطلاع لا تلبث أن تزول.
الاهتمام الحقيقي هو الذي يدفع للعمل الإيجابي، ويستحوذ على كل الملكات لا يتوقف على محرض صناعي ولا يقنعه الانتباه السطحي. فهو إذا مستقل عن الإرادة عفوي، بمعنى أن المرء لا يستطيع أن ينصرف انصرافا كليا بمحض إرادته لشيء لا يجيب رغبة داخلية عنده أو هذا على الأقل ما يقوله أصحاب نظرية الاهتمام. فلابد من معرفة اهتمامات الطفل حتى نسوي عملنا التعليمي والتربوي ونجعله يجري في طريق حاجاته الطبيعية، فمتى عرفنا هذه الحاجة، وبدأنا منها، استطعنا أن نستعملها وسيلة لجلب انتباه الطفل ودفعه إلى العمل. أقول نبدأ من حاجات الطفل، لأن العمل المدرسي لا يمكن أن يطابق اهتمامات الطفل في كل جزئياته، وإنما يمكن أن نربط جزءا من هذا العمل باهتمام الطفل ثم نمضي به إلى الجزئيات الأخرى متسلسلين على نحو مما يراه هربرت فيكون عندئذ اهتمام رئيسي تتفرع عنه كثير من أوجه النشاط، وكلما اعترض مشكل جديد ازداد الاهتمام رسوخا واتساعا.
ومثل هذا ما طبقه ديوي نفسه بكيفية نموذجية في مدرسة المشروع. في هذه المدرسة يقترح الأطفال مشروعا ينجزونه، كبناء حجرة مثلا، فاهتمامهم الرئيسي هو الحجرة، لكنهم يحتاجون لكي يقدروا على الإنجاز إلى تعلم صناعات البناء والنجارة والحدادة إلى غيرها من العلوم الضرورية كالحساب والهندسة. وكلما تقدموا في بناء الحجرة كان اهتمامهم بها أزيد لأن حاجاتهم تتجدد في كل يوم، وفي كل يوم تعترضهم صعوبة يساعدهم المربي على التغلب عليها.
وإن تنشيط الأطفال بواسطة الاعتماد على الاهتمام يتطلب من المربي يقظة وفطنة.
وينبغي أن يعرف أن اهتمام الطفل لا يمكن أن يستمر بموضوع واحد زمنا طويلا، فإذا مارس الطفل عملا ما على وتيرة واحدة مدة طويلة، فإنه يوشك أن يسأمه ويعرض عنه حتى وإن كان في بدء الأمر مهتما به حدبا. ولذا يجتهد المربي باحثا عن طريق بها يقلب المسألة الواحدة على عدة وجوه، ويعرضها في حلل متنوعة يبعث اهتمام الطفل باستمرار ويحفز فضوله.
لا أعني أن يعتمد المعلم هذه الوسائل الخلابة من استعمال الألوان البراقة، والقصص الضاحك، أو شيئا غيرها مما نسميه بأدوات التشويق، لأن هذه إنما تعطي هذا الانتباه السلبي الموقت الذي لا يكتسي أية قيمة تربوية. وإنما ينبغي أن يتفهم المعلم منصرف انتباه أطفاله ثم يتتبع عملهم بدراية كبيرة، ويرشدهم إلى ما عسى أن يكونوا أغفلوه، موقظا حبهم الطبيعي للاطلاع.
وكما تحد الرتابة من اهتمام الطفل يحد منها أيضا أن يجد الطفل نفسه أمام عقبة لا يستطيع اجتيازها. إذ ليس أدعى إلى الملل من أن يجد المرء نفسه أمام باب مغلق لا يجد له مفتاحا، ولا يقدر على اقتحامه. فإذا بلغ الطفل هذه النقطة من بحثه، فإن من واجب المربي ألا يتركه في عنائه طويلا، بل يهديه إلى الوسيلة التي يحل بها مشكله، حريصا على ألا يبرد حماسه بموضوع البحث.
نعم، لا ننس أن للمجهود الذي يبذله الطفل قيمة في حد ذاته، وإن الناس إنما يتعلمون بكيفية ناجعة بقدر الجهد الذي يبذلونه في سبيل التعلم، ولهذا فمساهمة المعلم ينبغي ألا تأخذ كل الأهمية وتتحمل كل المشقة. وإنما ترحب بالطفل وتشركه في الأعمال، ومرة أخرى نكرر أن الاهتمام الحقيقي هو الذي يدفع إلى العمل، وأن الاهتمام العابر المفروض بعامل خارجي إنما هو خدعة لا تلبث أن يبين عدم جدواها.
هذا وإن حكمة أساسية ينبغي أن تكون رائدنا في هذا الميدان، ألا وهي أن نعطي الطفل فرصا لكي ينجح في محاولته، ونتفادى به كل إخفاق ينال من عاطفته ويثبطه.
مذكرات في التربية، ص: 143-146

الاهتمام أساس دافعية التعلم

كيف نتعلم من سنة الله في التاريخ؟

ما هي كلمتنا في حقوق الإنسان؟

المسخ التطبيعي مع الصهيونية

نموذج الحياة الجماعية

جهاد محمد بن عبد الكريم الخطابي بعيون الإمام ياسين

قضايا فكرية

الاهتمام أساس دافعية التعلم

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

خير نساء طلعت عليهن الشمس

أفق النظام العالمي

التعلق برسول الله ﷺ

الخصال العشر في صرح السلوك الإحساني

أصل الرجولة الشجاعة والتُّقى

هكذا قال الإمام في حرية الصحافة

مقالات ذات صلة