post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

الارتباط بين الأخلاق والمال هي النقطة الحيوية التي يجب أن نسلط عليها الأضواء، لأن الشح والتعلق بالربح صفتان ملازمتان للفرد الفاسد الذي يقرعه القرآن الكريم، كما أن الخضوع للمال هو لب الرأسمالية التي تعيث في الأرض الفساد.
فلنصغ أولا إلى الحكم الخلقي الذي يصدره القرآن على المستكبرين. لنتدبر مثلهم ثم نتفحص حالة الاستكبار الرأسمالي المتعاظم، المتمثل في &#8220;العولمة&#8221;. قال الله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ [أيها النبي وكل ذي قلب واع]كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ[أمة بائدة] إِرَمَ [أمة أخرى حق عليها العذاب] ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾.
لا اختلاف بين مثال الرأسمالية الحديثة والأمثلة التي يسردها القرآن الكريم عن الأمم السابقة، فكل الشروط متوفرة: الاستكبار، الإفساد، السطوة والقوة، الادعاء. لذلك لن يلبث العقاب الرباني المناسب لفداحة الجرائم المعاصرة أن يصيب المسؤولين عن الفوضى المعاصرة والجور الـمُعَولَم.
وعيد الله عز وجل موجه إلى العالمين في جميع الأزمنة أن يتراجعوا قبل أن ينهار بهم شفا الجرف في الهاوية. فهل تسترجع الرأسمالية المعاصرة وعيها بعد أن انسدت الآفاق في وجهها، وتغير وجهتها قبل أن يحل العقاب بسببها بالبشرية جمعاء؟ وهل هي قادرة على التحكم في ذاتها؟
بعد الفحص السـريري الذي أجراه للمريض، توصل الدكتـور جـاك روبـان -صاحب كتاب &#8220;تغيير العهد&#8221;- إلى تشخيص الوضع المتفاقم للداء، وأعلن أن علاجه مستعص جداً. فلقد جس هذا الطبيب نبض القلب الرأسمالي ونشر تشخيصا متشائما نستنطقه بتمعن لنرسم ملامح المثال الملموس المجسد للنموذج التاريخي الذي يسرد القرآن مأساته المتكررة:
&#8220;اليوم يمتد اقتصاد السوق الرأسمالية ليشمل مختلف قطاعات الأنشطة البشرية في جميع بلدان الكرة الأرضية -مهما تفاوتت درجات تقدمها- ليقودها إلى وضعيات تضاهيه [الاقتصاد الشيوعي] قساوة، وليصطدم بِعاهاته الذاتية.
&#8220;فالسوق لا يزعم فقط أنه يمثل كل الاقتصاد، بل يدعي أنه يُؤَمِّنَ له الضبط الذاتي. وهـو ادعـاء ينهار عنـد أول نظـرة متفحصة، بـل إن الاقتصـاديين الليـبراليـين -الأنجلوسكسونيين منهم خاصة- يظنون أن لهم الغلبة حين يؤكدون بعجرفة أن اقتصاد السوق الذي تقوده &#8220;اليد الخفية&#8221; يحسن تدبير الإنتاج والتوزيع حسب رغبة الفاعلين. بينما يبرهن على عكس هذه الأطروحة وجودُ عشرين مليون عاطل في الاتحاد الأوربي، وأربعين مليون فقير جديد في الولايات المتحدة، ومليار أو ثلاثة ملايير منكوب في بلدان الجنوب&#8221;.
قلت: لكن الرأسمالية -الجهاز الذي ينتج ملايين المنكوبين في العالم- لها وظائف أخرى في ديارها:
&#8220;فاقتصاد السوق -كما يقول ج. روبان مستنكراً- يخدم أولا الأغنياء والأقوياء، والدول تتعامل مع السوق باعتباره أداة منفذة لاستراتيجيتهما الشاملة، خاصة حين تستعمل التقلبات النقدية. إذ أن عمليات التحكم في الدولار الأمريكي تؤثر على الميزان التجاري العالمي أكثر مما تؤثر عليه اتفاقيات الأوروغواي راوند. وكما يعلم الجميع، تتحكم دول الشمال في الأسعار العالمية للمنتوجات الزراعية الأساسية&#8221;.
ثم يعرض طبيبنا -الذي ينادي بتعويض العهد الرأسمالي بعهد آخر أكثر رأفة بالإنسانية وأكثر عدلا- أخطر الأعراض التي يعانيها مريضه: &#8220;والعيب الثالث أكثر خطورة، فاقتصاد السوق يكتشف اليوم عجزه عن التحكم في التحول الجاري، علما أن الأزمات السابقة لم تجد لها مخرجا سوى العنف والبؤس والحرب.
&#8220;أما اليوم، فنحن لا نواجه أزمة عارضة، بل نواجه تحولا تكنولوجيا وثقافيا عميقين، إذ أسفر ضغط التكنولوجيات المعلوماتية عن إنتاج لم يسبق له مثيل للخدمات والممتلكات، مع تقلص متزايد للعمل البشري. كما أننا نشهد تدهور قيمة العمل باعتباره لحمة المجتمع المتماسك.
&#8220;وبذا أصبحت السوق عاجزة عن توزيع الثروات الغزيرة التي تنتجها السوق المدبَّرة معلوماتياً، وتحولت العملة إلى أداة للاحتكار. كما تسارع تدهور البيئة بسبب التصنيع، لنعلم يقينا أن اقتصاد السوق هذا الذي يتمدد باستمرار يجرنا إلى وضع مناقض له تماما&#8221;.
الإسلام والحداثة، ص: 274-277

السياسة والحكم

الرأسمالية المعاصرة والجور المعولم

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

صور من محبة رسول الله ﷺ

خطاب الروح الصليبي وبطشه

الأنانية والجشع وصناعة الفساد

في الذكرى 77 للنكبة.. “إسرائيل الابتلاء” وشروط النصر

خير نساء طلعت عليهن الشمس

أفق النظام العالمي

مقالات ذات صلة