مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

مقالات في سيرة الإمام

حصادُ السِّنين…في التجربة السِّجنية للإمام عبد السلام ياسين -15-

0
حصادُ السِّنين…في التجربة السِّجنية للإمام عبد السلام ياسين -15-

حصادُ السِّنين…في التجربة السِّجنية للإمام عبد السلام ياسين -15-

التناوب على الحصار..

وجيء بما سمي بـ”عهد التناوب”، فعيَّن الملكُ واحدا من المناضلين المنفيين سابقا وهو الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي وزيرا أول يوم 4 فبراير 1998م، توظيفا لما عُرف عنه من نضالية ونزاهة سابقة، وتسمَّت حكومته بــ”حكومة التناوب”[1]! (1998-2002م)، وهو تناوبُ مخاتلةٍ؛ صُنع في ظاهره لإنهاء الصراع بين الملك والمعارضة عن طريق “التوافق”، وجُعل في باطنه لاحتواء المعارضة من أجل تفادي “السكتة القلبية”[2]، واستئناف الحكم والتحكم.

ولا تناوب في الحقيقة وقع.

 وها قد عاد الملك أخيرا إلى المضطَهدين والمنفيين والمعارضين لعتق رقبة الحُكم، بعد فشل دهاء “الثعالب العجوزة”[3] المحيطة به في حفظ قاطرة النظام وضمان استمراره، فالذي خطط له مهندسو المرحلة هو استمرار الحكم، بتدبير حيلة سياسية مفادها إظهار تنازلٍ شكلي وطفيف لجهةٍ ما تساعد في إسعاف انتقال الـمُلك وليس انتقال السياسة. وهو ما تأكد للجميع فيما بعد بتعيين الملك محمد السادس لوزير أول من خارج الأحزاب السياسية، أي خارج عن منطق التوافق، وتم طي صفحة الكلام عن التناوب بلا رجعة. واستحالت “المنهجية الديموقراطية” المعشوقةِ الممتنعةِ “منهجية مخزنية” متأصلة مستأنفة.

تراجع اليوسفي المناضل النحرير عن القول بأن “حجر الزاوية في نظام المخزن هو السلطان وريثُ العرش بِحُكْمِ الوِراثة السلالية، والذي يرافق تنصيبَه على العرش مهزلة احتفالات الولاء التي يشارك فيها ذَوو المناصب العالية المنصاعون كليا. هذه السلطة المطلقة التي يزيد من خطورتها خرافة “تمثيل الله على الأرض” التي صاغتها وتوارثتها أجيال من الاستبداد الشرقي، والتي لا تستند في الواقع على أي أساس ديني أو شرعي”[4]، وعاد إلى تصديق دعوى السماح بانتهاج “منهجية ديموقراطية” تنتصر لإرادة الشعب عبر صناديق الاقتراع، عرضها الحسن الثاني عليه وألزمه بعدم البوح بتفاصيلها التي بقيت سرا لا يعرفه الشعب[5]، قبل أن يستيقظ -بعدما قضى المخزن وطره- على ارتداد السلطة إلى سالف عهدها في الاستفراد بكل شيء، و”انتهت التجربة بدون أن تفضي إلى ما كنا ننتظره منها”[6]. آنذاك لا ينفع الاحتجاج من بروكسيل، ولا الاعتراف المتأخر بأن التجربة “لم تكن ثمرة تحالفات حرة بين الأحزاب المشكلة لها لقد كانت تجسيدا لقرار اتخذه الحسن الثاني”[7].

وظن بعض المغاربة مع حكومة اليوسفي (رحمه الله، وقد توفي اليوم 29 ماي 2020م) أن السلطة سيصيبها بعض الرُّشد بإسناد “حكومة التناوب” إلى مناضل ومثقف نزيه، فتُطلِق سراح عالم حُوصر حصار رأي وحصار فكر وحصار دعوة، وتُشرك الأمة حقا وبتدرج ووفق منهجية واضحة في تدبير الشأن العام، لكن التناوب -ويا للأسف! – كان اسما بينما المسمى “سلطانية” تقليدية؛ تحكُّمٌ في كل شيء، واستحواذٌ على كل شيء.

ومما ينبغي ذكره بهذا الصدد أن كثيرا من السياسيين، بل ومن زعماء اليسار المغربي[8] رفضوا مبدئيا المنهجية التي تعيَّن بها اليوسفي، وحذروا من الألعوبة التي ستُفوت على المغاربة فرصة هائلة للتغيير الحقيقي، لكن الاستعداد للمخزنة والتوثب نحو السلطة الذي راكمته فئات عريضة من المناضلين، جعلها تنظر إلى العرض السخي نهزة مواتية لممارسة السلطة، وإن خرجت عن خط النضال المشترك بين القوى السياسية المطالبة بالتغيير.

تبخرت الوعود الجميلة، واستمر الحصار والتضييق ونشطت المتابعات في كل مكان، فمُنعت عشرات الجمعيات ذات الصلة بالعدل والإحسان رغم قانونيتها، وصُودرت جريدة العدل والإحسان القانونية، وتضاعف قمع السلطة للحركات الاحتجاجية للمعطلين والطلبة والأساتذة والأطباء، واستأنفت السلطة انتهاكاتها لحقوق الإنسان، وبيعت قطاعات عمومية مهمة للخواص. وتبين أن حيلة التناوب عبر حكومة اليوسفي كانت لتلميع الصورة ليس إلا. 

قول بلا فعل..

استمر الاستفراد بالحكم وتأكد للمتتبعين انعدام الإرادة السياسية الحقيقية عند المالكين لزمام الأمور في الإصلاح عن طريق عقد توافق حقيقي، ينشئ دستورا تعاقديا جديدا، ويضمن إشراك الجميع في التداول الحقيقي على السلطة. فخاب ظن الأغرار وانجرت عربة الطامعين والمستعجِلين مع قاطرة النظام، وتبخر حُلم الوطنيين الصادقين، بإنجاز “كتلة تاريخية” تفي بعهد النضال والتحرير الذي سطرته ملاحم المجاهدين الأبطال في الحركة الوطنية، والذين أيقظوا الشعب من غفوته، بل أيقضوا “الملكية ورموزها من سبات طويل”[9]، وقد أجمل القول من قبل الأمير الخطابي[10] في منفاه وهو يتابع خطوات الاستفراد عندما قال: “إن الأمة المغربية ما فتئت بعيدة كل البعد عن المشاركة في إدارة شؤون البلاد”[11].

الأُمة بعيدةٌ عن المشاركة الحقيقية لأنه حيل بينها وبين الحكم، باستصناع نخبة سياسية مزورة، فاقدة للشرعية والثقة، وباستدراج فئات من أنصاف السياسيين إلى مربع الموت، لا هي حافظت على قاعدتها الشعبية ولا هي قدرت على مواجهة رأس الحية السامة[12]، وأكمل الباقي استغفالُ نخبة صدَّقت أوهام المرحلة وظنت أن السراب ماء حتى إذا جاءته مترهلة لم تجد سوى التحكم بسيفه التقليدي وطاووسيتة الـمُرَيَّشَة بزينة الديمقراطية.

استعجلَت بعض النخب التغيير، وحسبته هيِّنا وسريعا، وفاتها أنه عمل مجتمعي جماعي شامل ومتدرج، لما فاتها أن “مشاكل الأمة متشعبة، ومهمات البناء ثقيلة، ولا ينهض لها إلا الأمة كلها حين تستيقظ وتشارك، حين تحيى من موت الاستسلام، حين تمسك أمرها بيدها”[13]، ولا تقدر على تحمل عبئه وعناء مسيره نخبة يقعقع لها بالشنان فتنجر إلى شهادة الزور وقول البهتان.

…………..

[1] – تم الإعلان عن حكومة التناوب يوم 14 مارس 1998م، وتضم أحزاب الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية، بالإضافة إلى حزبي الحركة الشعبية والتجمع الوطني للأحرار.
[2] – عبارة وردت في خطاب الملك الحسن الثاني سنة 1998م، بعد تقرير للبنك العالمي بشأن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
[3] – ياسين، عبد السلام. مذكرة إلى من يهمه الأمر، دون ذكر مطبعة، سلا، ط1، 2000م، ص 4
[4] – اليوسفي، عبد الرحمن. في كلمته بمناسبة الاحتفال بذكرى ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي، سنة 1970، نقلا عن: ياسين، عبد السلام. حوار الماضي والمستقبل، مرجع سابق، ص 270
[5] –  انظر: مجموعة مؤلفين. النخب والانتقال الديموقراطي: التشكل والمهمات والأدوار، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط1، 2019م
[6] – اليوسفي، عبد الرحمن. محاضرة بروكسيل، يوم 25 مارس 2003م. نقلا عن “وثيقة: محاضرة بروكسيل 2003م.. أو عندما يقيم اليوسفي تجربته بنفسه”، من موقع (lakome2.com)، منشورة بتاريخ 3 غشت 2016م، وشوهد في 29 ماي 2020م.
[7] – المرجع نفسه.
[8] – هناك أحزاب وجمعيات وفعاليات كثيرة لم توافق على قبول عبد الرحمن اليوسفي للعرض الملكي بترؤس الحكومة بعيدا عن المنهجية الانتخابية. انظر مثلا: كريستين السرفاتي (ت2014م) في حوار لها بجريدة المساء المغربية، منشور يوم 27 ماي 2009م، وشوهد في 29 ماي 2020م.
[9] – حمودي، عبد الله. الشيخ والمريد، مرجع سابق، ص 39
[10] – وللتاريخ نذكر أن أول ندوة فكرية عن محمد بن عبد الكريم الخطابي نظمت في بيت الأستاذ عبد السلام ياسين بسلا، يوم الأحد 23 فبراير 2003م، سيرها الأستاذ محمد حمداوي وشارك فيها كل من الأستاذ سعيد الخطابي ابن الأمير برسالة تلاها الأستاذ عبد السلام الغازي من جامعة الجزائر، والأستاذ محمد العبادي، والفقيه البصري، والأستاذ علي الإدريسي، والأستاذ زكي مبارك، والأستاذ عمر أمكاسو. راجع تقرير الندوة بعنوان “احتفاء بمرور40  سنة على وفاته: البعد المغاربي في شخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي”، منشور بموقع (aljamaa.net)، بتاريخ 25 يونيو 2003م. وقد تحدث عن ذلك المؤرخ علي الإدريسي في تصريح له بعنوان “أول ما احتُفل بالمجاهد عبد الكريم الخطابي كان في بيت الإمام عبد السلام ياسين”، منشور يوم 15 يناير 2013م في موقع (yassine.tv)، وشوهد في 12 ماي 2020م.
[11] – الخطابي، محمد بن عبد الكريم. تقديم “ترجمة الشيخ الشهيد محمد الكتاني المسماة أشرف الأماني”، تحقيق نور الهدى عبد الرحمن الكتاني، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1426ه/2005م، ص 54
[12] – تشبيه المخزن بأفعى سامة استعمله عبد الله العروي في مذكراته، واستعمله عبد السلام ياسين في برنامج مراجعات (مرجع سابق).
[13] – ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي، مرجع سابق، ص408

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد