مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

سماع القلب

0
سماع القلب

سماع القلب

يلبي نداءك من سمعك أو سمع عنك حقاً. ولا يلبي النداء ويستجيب لداعي الحق إلا من ألقى سمع قلبه فلم يكن به وقر ولا صمم ولا كبر في نفسه. نعوذ بالله. قال ربنا عز وجل: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [الأنعام: 36].

من لنا بهذا السمع الفطري القلبي المستجيب لداعي الفلاح، سمع تستزيد به القلوب من أنوار الإيمان وتطلب القرب من حضرة ذي الجلال والإكرام، مع الذين أنعم الله عليهم من الرسل عليهم السلام والصالحين في كل زمان، وأنعم عليك بنعمة السمع فلبيت نداء ربك تائبا في زمرة المحبين المحسنين العاملين المجاهدين طالبي الحق، الذين اتخذوا التوبة شعار حياة وجعلوا غاية السعي التحقق بمقام العبودية لله وحده. و”أي شيء أعظم وأشرف وأعلى من همة سمعت السماع القلبي أن الله يتخذ من عباده أولياء أصفيَاء فتلوّعت واكتوت. وتروعت وفقدت الراحة وأظلم نهارها كمدا وابيض ليلها أرَقاً! وما استقر لها قرار حتى وضعت قدمها على أول الطريق، وهو العُثور على الرفيق”.[1]

سبحان من اجتبى سمع أحبابه وبلغ بهم أسنى الغايات، فاختصهم بجميل الكلام منه وحيا وقرآنا، وفتق رتق أسماعهم فلم يطربوا لغيره، أبصارهم تتملّى وتتملأ من لذيذ صفاته، وأرواحهم أبدا له مشتاقة، ونواصيهم على بساط الذل له ساجدة، وقلوبهم أبداً تكرع من معين جلاله وجماله. سبحانه.  

ما تزال الأرواح الطاهرة المنورة في حنين أبدي لسماع النداء الرباني الأول: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 172]. هنالك خاطب الجليل سبحانه خلقه بخطاب الربوبية وسمعوا النداء بوصف العبودية، وما كانت دعوة الرسل عليهم السلام وخلفاؤهم من بعدهم رضي الله عنهم إلا تذكيرا للأرواح الطاهرة بنداء الجميل سبحانه. 

تحن القلوب لسماع ربها فتأوي إلى كتابه العزيز، تسمع من صوت الوحي من قريب، فتجبر وتلتئم وتبرأ وتطمئن وتحيى بذكر ربها وحديثها إليه. فـ “إن للروح تطلعا إلى الجمال المطلق وهو الله تعالى. تحن الروح إلى أصلها في قربه. أما الفِطَر السليمة فأشواقها إلى ربها ترفعها ولو بعد فتَراتِ حب اللهو إلى مقامات الإحسان، فيصبح كلام الله بَلْسَمَ حياتها وربيعَ قلبها. وأما الفِطَرُ المطبوع على قلوبها فيتكسر ذلك التطلع الفطري فيها إلى الجمال على صخور قسوة القلب. لا يكاد يرتفع قليلا حتى تقتنصه الغرائز، وتجتذبه الشهوات، وتأسره النزوات، فإذا هو في قبضة الفن الماجن. تطلّع سماوي أفقه القرآن، وغذاؤه القرآن، وسماعه القرآن، وطربه القرآن”.[2]

تطلّع سماوي وهمة تواقة ترنو إلى بارئها وتربية حافظة للفطرة التي فطر الله عباده عليها، لا تكاد تفتنها زلقات الغريزة أو النزوة السخيفة أو تشغلهما مدلهمات العصر حتى تؤوب إلى كتاب الله ورسالته لكل عبد وأمة، تصحح القصد وتجدد العهد وتطلب القرب من الحليم الكريم. نبلغ هذه الغاية التربوية السامية والمطلب العزيز إن سلكنا بالناس مذهب التدرج والرفق، حتى يزايلوا ما ألِفوا من فنون استهلاكية وأصوات نشاز، لنرقى بالذوق الجمالي والسمع القلبي الإيماني حتى يلتذ بسماع القرآن الكريم ويأنس به.

 فمطلوب إلينا “أن نتدرج بالرَّكب الإسلامي جميعه إلى السماع الإحساني، وهو الاستماع والإنصات إلى كتاب الله عز وجل يُتلى، ويُرتل، ويُجوَّد، ويتغنَّى به المؤمنون، من الاستغناء به عن غيره، ومن الغنة وتحسين الصوت. ونتجنب هذه الأصواتَ المسجلة المحترفة المتعرِّجة الـمُخَنَّثَةَ، بعضها لا كُلَّها”.[3]

نتغنى بالقرآن الكريم ونترنم، ونعوّد آذاننا على سماعه من أصوات تحبّره تحبيرا، فعن عبد الله رضي اللّه عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اقْرَأْ عَلَيَّ»، قَالَ: قُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»، قَالَ: فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾، قَالَ لِي: «كُفَّ -أَوْ أَمْسِكْ-»، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ»[4]. ننصت إلى القرآن الكريم بأصوات شجية لكبار القراء كالشيخ محمد رفعت، والشيخ سيد متولي، والشيخ محمد صديق المنشاوي وغيرهم رحمهم الله جميعا. ونتعلم قواعد التجويد وآداب التلاوة والتدبر، ونعقد العزم على حفظ كتاب الله تعالى وأن أكون مدرسة قرآنية متنقلة عبر الأجيال.

تكون لنا وقفات ثابتة مع كتاب الله عز وجل آناء الليل وأطراف النهار، نقرأ الحزبين في المصحف وردا نلازمه كل يوم مع أهل المسجد أو البيت ما أمكن، ونقرأ من آيات التحصين والسور والآيات الفاضلة في صباح اليوم ومسائه. وقد كان الإمام رحمه الله يقرأ الحزبين من المصحف ثم يقرؤهما مرة ثانية في قيام الليل، ثم يقرؤهما مرة ثالثة بدون مصحف، محافظا على قراءة السور والآيات الفاضلة خمس مرات في اليوم. وترك لنا تسجيلا صوتيا للقرآن الكريم بصوته الفريد، فيحمد الله في مواطن الحمد ويستعيذه عند ذكر العذاب، ويكرر آيات معتبرة تدبرا واستمطارا لما أودعه فيها سبحانه من معانٍ متلطفة وفضل خص الله به كل سورة وحرف من كتابه العزيز.

وكان رحمه الله ورفع قدره يردد على مسامعنا كلمة جامعة: “ذكر الكُمَّل القرآن”. كيف وهو الذي عاش حياة قرآنية فحفظ القرآن الكريم في طفلا وتربى على يد تلاميذ محمد المختار السوسي رحمه الله بمدرسته القرآنية في مراكش، ولم يزل مصاحبا للقرآن فكان له خير جليس في دياجي السجون.

 نستمع إليه رحمه الله يحدثنا عن أنسه بالقرآن الكريم وملازمته له “فترة الاعتقال الأولى في سنة 1974م [1394هـ] كانت فترة هدوء وتأمل وتفكير في الظاهر. وفترة ذكر عميق وفترة خلوة. كانت هي من أسعد فترات خلوتي، لا أقول أسعد فترات حياتي. كانت من أسعد فترات خلوتي. فكانت السنوات الثلاث والنصف مناسبة لملازمة الأذكار، ولمراجعة ما كان فقد من القرآن الكريم. كان هذا أهم شيء من به الله علي في ذلك الوقت، استرجعت القرآن وأعدت حفظه، وكان سهلا على كل حال لأني حفظته منذ الصبا، فاسترجعت القرآن استرجاعا جيدا ولله الحمد”.[5] وفي سجن العلو سنة 1984م “كنت لشهور طويلة أختم القرآن يوميا في جلسة واحدة”.[6]

فكيف لمن أنس بكلام الله عز وجل أن يطربه شيء من ألحان الدنيا وزخرف القول؟ وكيف للأرواح الطيبة أن تميل عن أنوار القرآن الكريم وقد ألفت فيه غذاءها وروحها وأنسها بذي الجلال والجمال. سبحانه. 

أَنْصِتْ إِلَى الرَّحْمَةِ يَا عَانِي
.هَاكَ الشِّفَا مِنْ آيِ قُرْآنِ
كُلُّ سَمَاعٍ دُونَهُ رَغْبَةٌ
.لِلنَّفْسِ فِيهَا وِزْرُ بُهْتَانِ
عَدَا النَّشِيدُ لِضِعَافِ المَلاَ
.يَنْسَلُّ للقَلبِ بِسُلطَانِ [7]

 
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا. ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا. آمين.

 


[1] . ياسين، عبد السلام (2018) الإحسان، ج1، (ط. 2). بيروت: دار لبنان للطباعة والنشر. ص. 110.
[2]. ياسين، عبد السلام (2018) تنوير المؤمنات، ج1، (ط. 4). بيروت: دار لبنان للطباعة والنشر. ص. 171.
[3] . الإحسان، ج1، ص. 308.
[4] . ياسين، عبد السلام (2017) شعب الإيمان، ج1، (ط. 2). بيروت: دار لبنان للطباعة والنشر. ص. 172.
[5] . ياسين، عبد السلام (2014) حوار شامل مع الأستاذ المرشد (ط. 1). امريكا: دار العدل والإحسان. ص. 24.
[6] . حوار شامل مع الأستاذ المرشد، ص. 49.
[7] . ديوان شذرات، ص. 66.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد