post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

كيف، ولِمَ، وبأية آليات تربوية وقيمية نبني جيل المستقبل؟ وهل لنا القدرة لنحافظ على الفطرة التي جبل عليها كل مولود دون أن تدنسها أيادي الباطل وبهرجه؟ بل بأية إرادة نتعامل مع أبنائنا وبناتنا فننتشلهم من الهرج الاجتماعي إلى سكينة الأسرة وحضن المدرسة وروح المسجد؟  



<h1 class="wp-block-heading">1.&nbsp;&nbsp; الاستعداد الفطري للتعلم</h1>



خلق الله الإنسان على فطرة مستقيمة، فطرة سمت به في معارج الكمال وميزته عن المخلوقات الأخرى؛ فـ&#8221;الوليد الآدمي في نشأته السليمة الفطرية يعبد الله عز وجل كما تعبده سائر البهائم وسائر المخلوقات ويسبح بحمده، فهو على الاستقامة الفطرية الأولى. هذه الاستقامة الفطرية الأولى تعبر عنها الآية الكريمة في قوله عز وجل آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[1] [الروم: 30] .



لذلك كان للإنسان استعداد فطري لتلقي المعرفة بما أودعه الله فيه من ملكات التعلم والإدراك والمحاكاة، فيسعى في معرفة ما تدركه حواسه من صنوف المادة والمعقولات، وما وراء العقل مما غاب عن البصر فأدركته البصيرة. وفي ذلك يتفاوت الناس ويتمايزون تبعا للبيئة الحاضنة، وانسجام مؤسسات التنشئة الاجتماعية وتوافقها في شأن طبيعة شخصية الفرد والتربية المقصود بها.



وبهذا تختلف طبيعة شخصية الفرد واستعداداته، بالنظر إلى الخلفية السياسية ونمط الحكم الغالب المتحكم، فيسعى النسق السياسي عبر طاحون التعليم إلى صناعة مواطن «على المقاس» يخدم أجنداته ويضمن استمراره إلى حين.



أما عندنا فنرى أن &#8220;صناعة جيل لمستقبل حياة أمة ينبغي أن تعتمد على تحرير التلميذ والطالبة من عقدة القصور أمام أستاذ يعلم كل شيء. تُنمّى طاقات الجيل ويُفتح الصدر، ويفتح المجال للمناقشة والمجادلة والاحتجاج بأدب لتكبَر الشخصية الحرة المسؤولة. وإلا فالفظاظة من جانب المعلمين، والقمع السياسي من جانب الدولة، عصاً لا تربي إلا الحمير. وعلى رأس الضارب تعود الضربة&#8221;.[2]



يمثل الحوار الجاد والتفاعل التعليمي والتبادل بين المدرس والمتعلم أو الفظاظة والقمع والسلطوية التربوية ملامح النموذج البيداغوجي المعتمد في ثنايا السياسة التربوية المتبعة من لدن الدولة، سياسة تروم في خلالها الدولة إلى إعادة إنتاج البنى الاجتماعية التي تسوسها وترعى مصالحها.



<h1 class="wp-block-heading">2.&nbsp;&nbsp; آفة السلطوية في التربية العربية</h1>



وفي المدارس العربية تعكس طريقة التدريس النسق السياسي الحاكم، وتبرز بجلاء القالب الذي اصطنعه لرعاياه، فـ&#8221; طريقة التدريس الرئيسية التي تستخدم على نطاق واسع في معظم المدارس في الوطن العربي هي التلقين، أو ما أسماه باولو فريري «التعليم البنكي» الذي ينحصر دور الطلاب فيه في الحفظ والتذكر وإعادة ما يسمعونه، من دون أن يتعمقوا في مضمونه، واستقبال المعلومات وتخزينها من دون وعي، فيتحولون بذلك إلى أوان فارغة يصب فيها المعلم كلماته، ويصبح التعليم نوعا من الإيداع&#8221;.[3]&nbsp;



هذا النظام التعليمي التعليبي يخشى الفكر الحر والمعرفة التي تهدّ الجهل، المستند إلى صروح السلطوية والاستبداد، وأدرعه الثقافية والإعلامية التي تنفث سموم التفاهة الأخلاقية والميوعة القيمية وتلمّع سحنة الأنظمة الشوهاء. لذلك، تثبط الأنظمة التعليمية المتخلفة الملكة الإبداعية لدى المتعلم، تقيده بأكداس من المواد التعليمية وممارسات بيداغوجية مغرقة في التقليد، هي وليدة حقبة الثورة الصناعية لم تحقق التحول في البراديغم التربوي المطلوب في عصر الرقمنة وما بعدها.



تحتاج الأجيال المعاصرة واللاحقة إلى بيئة تربوية تحضن شخصية المتعلم -خصوصا في سني الطفولة- وتنمي كفاياته جميعها، وتذكي دافعية التعلم لديه. نجد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله يحث على ذلك -كيف وهو البيداغوجي والخبير التربوي- مؤكدا أن &#8220;الطفل في حاجة إلى الجو الذي ينمي فيه مواهبه، ويبرز شخصيته، في حاجة إلى اختبار قوته ومعرفة حدودها. وهذا الجو المناسب لنموه هو جو الحرية والانطلاق الجو الذي يقدر فيه الطفل على ممارسة الأعمال المشروعة التي تستفرغ نشاطه، بحيث يعبر عن نفسه تعبيرا حرا، ويتناول الأشياء ليركبها ويحللها كما يشاء. لكن هذه الحرية قد تتعارض مع مصلحة الأسرة أو المدرسة عندما تمس بحقوق الغير، ومن هنا كان لابد من سلطة تحد من حرية الطفل. وليس شرا من الضغط على الطفل إلا الإفراط في تدليله والضعف أمام رغباته&#8221;.[4]



تعمل الأسرة بمعية المدرسة على تنمية الاستقلال الذاتي عند النشء، ومنحهم الحرية اللازمة للتفكير والتعبير والاختيار. حرية منوطة باحترام الغير وخصوصياته، فتنتهي حرية الفرد عند حدود التماس مع الآخر.



<h1 class="wp-block-heading">3.&nbsp;&nbsp; أطفالنا بين الرغبة والتمرد</h1>



ولا يغيب عن ذهن المربي أن الإفراط في حرية الطفل والتغاضي عن تجاوزاته، وكذا سعيه وراء تحقيق رغباته -دون الانتباه إلى العواقب على المستووين المتوسط والبعيد- كفيل بإفساد خلقه والانحراف به عن المنهاج التربوي السوي.&nbsp;



وإلى هذه المحددات التربوية يشير روسو متسائلا: &#8220;أتعلم ما هي أضمن وسيلة لإشقاء طفلك؟ أن تعوده الحصول على كل شيء؛ فرغباته ستزداد باستمرار بسهولة الترضية. وعاجلا أو آجلا ستجد نفسك عاجزا رغم أنفك عن تنفيذ رغبته، فيصدمه هذا الرفض الذي لم يتعوّده منك ويؤلمه أكثر من الألم الحقيقي للحرمان من رغبته. إنه قد يبدأ بالرغبة في الحصول على عصاك التي تمسك بها، ثم يطلب منك ساعتك، وبعدها سيطلب العصفور الذي يطير في السماء، وإن حصل عليه سيطلب النجم الذي يراه يلمع في القبة الزرقاء، سيشتهي -بالاختصار- كل ما تقع عليه عينه&#8221;.[5]



يتقلب الإنسان منذ ولادته في صيرورات يتكيف بموجبها مع متطلبات البيئة التي يعيش في نطاقها،&nbsp; تتراوح ذاته بين الالتزام بقانون الجماعة وخصوصياتها والتمرد عليها رغبة في الإعلان عن كيانه المستقل. ووفقا لذلك يحاول -تدريجيا- التعبير عن رغباته وفرضها، وإيجاد صيغ للتخلص من السلط الفوقية.



وتختلف طبيعة التمرد على الضوابط التربوية والتعبير عن الرغبة لدى الطفل، بحسب البيئة الأسرية والوسط الاجتماعي ومدى تأثير مؤسستي المدرسة والإعلام في سلوكه، خصوصا في مراحل نمو الطفل التي تسبق منعطف المراهقة؛ فـ&#8221;الطفل بطبيعته فعّال إلى درجة شديدة، ومسألة التربية هي مسألة الهيمنة على فعالياته نحو النتائج القيمة بدلا من أن تصبح مبعثرة أو متروكة فتعبر تعبيرا طائشا محضاً. فإذا جعلنا هذا نصب أعيننا فالصعوبة القصوى المستقرة في أدمغة كثير من الناس حول ما يسمى التربية الحديثة تحل، لا بل تختفي&#8221;.[6]



لا يقصد بممارسة الهيمنة على فعالية الطفل كبح دافعية التعلم لديه، أو حبسه عن التفكير النقدي والتعبير الحر، أو تعطيل مخياله عن السياحة في عوالم الإبداع. بل توجيه طاقته للتعلم الفعال وتربيته على قيم التعاون مع الغير والانخراط في خدمة المصلحة العامة.



&nbsp;وهنا تكمن حساسية المربي في التكيف المستمر والممارسة المتجددة لفعلي التربية والتعلم. فـ&#8221;إن من الجرأة والطيش أن ينصب المرء نفسه نبيا في شؤون التربية ويؤكد دون مراعاة لطبيعة الموضوع، كأن التربية عملية ملموسة تعرف مقدماتها ونتائجها المحتومة. والمربون يعرفون أهمية ما يبحثون عنه، وخطورة النتائج التي تلدها كلماتهم، لذلك يقتصدون ويزنون، فإذا وجدنا كلمة فاهوا بها، وفهمنا منها أنهم لم يقتصدوا ولم يزنوا؛ فلنتهم أنفسنا بالتقصير، ولنبحث عن طريقة أخرى لنفهم عنهم&#8221;.[7]



التربية ميدان دائم التحول والتجدد، إن لم نكن قادرين على مواكبته وتدبيره محافظين على مبادئ التربية وغاياتها، والتحرز اليقظ من التسرب اللطيف للمؤثرات الثقافية والإعلامية&nbsp;والتكنولوجية التي تجتاح فضاء أطفالنا ومنتديات شبابنا ومنصاتهم التواصلية الافتراضية.



<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity"/>



[1] . ياسين، عبد السلام. (1998)، الفطرة وعلاج القلوب (سلسلة دروس المنهاج النبوي 2)، وجدة: مطبوعات الهلال، ط 1، ص. 20-21.&nbsp; [2] . ياسين، عبد السلام. (1996)، تنوير المؤمنات، ج2، الدار البيضاء: مطبوعات الأفق، ط 1، &nbsp;ص. 273. [3] . السورطي، يزيد عيسى. (2009، أبريل) السلطوية في التربية العربية. مجلة عالم المعرفة، (362). ص. 16. [4] . ياسين، عبد السلام. (1963)، مذكرات في التربية، الدار البيضاء: دار السُّلمي، ط 1، &nbsp;ص. 90. [5] . روسو، جان جاك. (1958)، إميل أو تربية الطفل من المهد إلى الرشد، تر: نظمي لوقا، القاهرة: الشركة العربية للطباعة والنشر، ص. 87-88. [6]. ديوي، جون. (1978)، &nbsp;المدرسة والمجتمع، تر: أحمد حسن الرحيم، بيروت: دار مكتبة الحياة، ط2، ص. 56. [7]. ياسين، عبد السلام (1963)، كيف أكتب إنشاء بيداغوجيا، الدار البيضاء: دار السُّلمي، ط 1، ص. 47.

التزكية والدعوة

صناعة جيل المستقبل

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

أهلا رمضان

شعراء في حضرة الحبيب ﷺ

الوضوء: فضله وكيفيته وروحه

في شروط تحرير فلسطين عند الإمام عبد السلام ياسين

من دروس غزوة الخندق

رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان

مقالات ذات صلة