عدد العشرة رقم مبارك أطر الكثير من معالم هذا الدين الحنيف، والمنهاج النبوي المكتوب المقروء، والشفهي المنطوق يستن بكل سنة نبوية قولية أو فعلية أو تقريرية أو حالية أو عددية كعشرية المبشرين بالجنة، وغيرها من العشريات في الذكر، وفي الأجر، وفي أعمال الخير والبر.
سوف نقتصر من عشريات المنهاج النبوي على ثلاثة أساسية بانية:
الخصال العشر، وعشر أعمال اليوم والليلة، وعشر الإدارة الناجحة.
الخصال العشر
صحبة وجماعة: هما قدما الكيان وأساسه، بهما مضيه وتوازنه، والذكر قلبه، والصدق روحه، والبذل عَصَبُه، والعلم عقله، والعمل جوارحه، والسمت بشره ولباسه، والتؤدة لحمه ودمه، والاقتصاد فَقاره، والجهاد قوته.
كيان في مثل هذه الصحة والعافية لا يمكن إلا أن يكون ربانيا نبويا بانيا، آمنا في سربه، له قوت يومه وعافية بدنه. هي الدنيا حيزت له بحذافيرها ليتفرغ إلى الآخرة يريدها ويسعى لها سعيها، لتكون وجهته مولاه، يبارك إرادته ويوفق مسعاه ويسدد خطاه.
وأما أعمال اليوم والليلة:
1. فنوم على أفضل العزائم لا أفظع الهزائم، على نظافة وطهارة وتوبة ومحبة للقاء الله، وذكر يجعل القلب في حفظ الله، ويُسلِم النفس إلى باريها ليمسكها غافرا، أو يرسلها حافظا.
2. قيام في الثلث الأخير من الليل حين ينزل ربنا إلى السماء الدنيا -كما يليق بجلاله وعظيم شأنه- فيسأل: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟
والقيام واحد من ثلاث هن من أبواب الخير التي دل عليها الوالد المعلم صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه وكل معاذٍ جبلٍ من أهل العلم والعمل.
3. والثالثة الصلوات الخمس المكفرات لما بينها من الذنوب، والناهية عن الفحشاء والمنكر، والمقامة لذكر الله، ولذكر الله أكبر.
4. وهل القرآن إلا ربيع قلوب المؤمنين، وكتابهم المنير، وإمامهم المبين، وشفيعهم في الموقف العظيم، ومرقاتهم إلى مقامات الرجال أهل الكمال، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم. خراب جوف ليس فيه شيء من القرآن، ومن حفظه صدره كأنما أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه. أجرٌ تلاوته ونور، وأكمل الخير علمه وتعليمه، وأجمل الفضل فهمه وتفهيمه، وهو لسالكي سبيل الجهاد سلاح قويم، وللمجيدين به مقام كريم، وللمتعتعين أجران، وخلق الكمل القرآن.
5. النوافل والرواتب: وهل نوافل الصلاة وسننها الراتبة وغيرها من السنن كالبلاليتين: صلاة التوبة وصلاة الوضوء، والاستخارة والحاجة، والضحى صلاة الأوابين… إلا قربات ومكملات لما لا شك نحن مقصرون في أدائه، ساهون فيه لا عنه، حفظنا الله ووقانا من السهو عن العهد ما بيننا وبين رسول الله عليه صلاة الله وسلام الله..
6. والذكر: صقال رين القلوب.
ذكر تجديد: الاستغفار ذكر تطهير، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر تسكين وتنوير، ولا إله إلا الله ذكر تطييب وتعمير.
والقلب بيت الرب إذا طُهِّر ونور وعمر لم يبق إلا أن تفد عليه الضيوف تأوي إليه وتهفو وتشتاق إلى النزول به ولا تجفو، وله تخِف وتصفو وهل ضيوف القلوب من الرحمن إلا الأنوار والأسرار التي يودعها الحنان المنان الأفئدة الحية النقية الزكية ذكرى ويسرى وبشرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا. [ref]سورة الأنفال الآية 70[/ref]
ومع ذكر يتجدد به الإيمان ويقوى، ويتزود به الجنان ليكون أهلا للاطمئنان والتقوى، لا بد من ذكر ثواب محفز إلى تسديد النية قبل العمل، وإرفاق العمل بالحضور مع الله، واليقظة في معاملة العبد مولاه في سره ونجواه. وذكر تحصين يعيذك من الشر ومن كل ذي شر. وذكر ثناء وتمجيد حيث التسبيح والتحميد. وذكر هادم اللذات، وبذكر الصالحين تتنزل الرحمات، وذكر التفكر والتدبر في الآيات…
7. الدعاء: الذي هو العبادة بل مخها، وهل خلقنا إلا لنعبد الله، وعبادة بلا دعاء كذات بلا مخ، هو أرق ما فيها، وألذ ما فيها، وأخفى ما فيها، وبه نشاطها، وحياتها خاصة في الأوقات المباركة، والأماكن المباركة، وبالألسنة التي لم نعص الله بها، وفي حالات الاضطرار والافتقار والانكسار، والتبؤس والتقنع والفرار. ودعاء الرابطة واسطة عقد هذا الدعاء، به نترحم على الأموات، ونصل الرحم بهم وبالأحياء، ونذكر الجميع بخير، ونشكرهم، وما شكر الله من لم يشكر الناس، نكافئهم -إن قدرنا- على ما أسدوه لنا من معروف، وهيهات هيهات. ونخص بالدعاء من تربطنا بهم روابط القرابة والمحبة والجهاد. نذكر ونسمي، نوزع هذا الدعاء أجزاء بين السجدات كما كان يفعل أبو الدرداء رضي الله عنه، أو نحصي به أسماء من نصحب ونحب قبل النوم كما كان يفعل الصحابي الجليل خالد بن معدان رضي الله عنه، أو نقبل عليه في أوقات الاستجابة كما ندبنا إلى ذلك سيد الأنبياء عليه الصلاة والسلام، أو نستدفع به البلاء وحالقات القلوب الشحناء والبغضاء.
8. ولا بد من ورد من العلم والتعلم والتفقه، وهل يعبد الله بجهل؟ يلتمس هذا العلم من أفواه الرجال قبل بطون الكتب ومعها، كما يطلب بوسائل العصر ما أتيح منها. والسؤال نصف العلم، ونصفه الآخر لا أعلم، وفوق كل ذي علم عليم، وقل رب زدني علما.
وخير العلم ما كان متعديا لا لازما، وأنفعه ما كان عملا غير مقطوع بعد انقطاع حبل العمر ثالث ثلاثة مع الولد الصالح والصدقة الجارية، تتركه إرثا لأهلك وولدك مع باقي الموروثات وتتناقله الأجيال تعمم نفعه الباقي مع الباقيات الصالحات. الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا. [ref]سورة الكهف الآية 45[/ref]
9. الدعوة: ومن يكنز الذهب والفضة أقل خطرا حالا و مآلا ممن يكنز العلم، ويكتم الشهادة، لذا وجب التماس مجالس العلم والتعليم، والتفقه والتبليغ تجالسا في الله، وتبادلا فيه، وتبليغا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخبر عنه، وما ذكرنا به، ودعانا إليه. والدعوة نصيحة، والدين النصيحة، ومجالس المؤمنين كلها مجالس نصيحة، تعددت الأسماء والمسمى واحد: في الله، تحابا وتجالسا وتزاورا وتبادلا وتواصلا…
10.أداء الحقوق والواجبات: ولا توازن إلا لمن أعطى لكل ذي حق حقه، وإن لجسدك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لولدك عليك حقا، وللوالدين حقوق، وللجار حق، وللقريب والصديق والضيف والوظيف، ولنفحات الله في أيام دهرنا حقوق: صياما وغسلا وتطيبا وإكراما وتقربا وتكسبا من حلال، وتقللا بتوسط واعتدال، واستقامة على كل حال.
عشر الإدارة الناجحة
يتردد على ألسنة الخبراء في التسيير والتدبير كلمة إدارة، وهي أشمل وأفضل من كلمة ضبط واستغلال واستثمار وتنمية، وما إليها من التسميات الحديثة التي تؤطرعملنا الجماعي المنظم لأنها تنصهر في بوثقتها كل تلك المعاني والخبرات لتقدمها في واحد جامع لذلك المتعدد اسمه إدارة. فإدارة الوقت مثلا تعني ضبطه فلا تسيب واستغلاله فلا فراغ واستثماره في نافع مجد متنام والقيام بكثير في وقت واحد وذلك عن طريق إشراك الآخرين وحسن استغلال قدراتهم وطاقاتهم لإنجاز المشروع بجميع مفاصله وتفاصيله بكامل الرعاية والمسؤولية والإتقان. من هنا تأتي هذه العشر التي أحصاها لنا مرشدنا الطبيب الوالد الحبيب، لتكون معالم في طريق سلوكنا الجماعي الإداري الناظم والمنتظم والمنظم.
أول هذه العشر: الاحترام
وهو معنى شريف ينبغي أن يسود علاقة الإدارة الناجحة أعضائها بعضا تجاه بعض، وخاصة تجاه القيادة التي تمثل من الجسد الرأس، الاحترام ينبغي أن يكون عاما وتاما بين الجميع، لكن الأكبر سنا بنبغي أن يحظى بمزيد، ويزداد الاحترام لمن كان أكبر سرا، إذ البركة في الكبراء، فكبر كبر، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم ، فإذا أخذوه عن أصاغرهم ، وشرارهم هلكوا” [ref]رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله[/ref] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم أيضا: “ليس منا من لم يوقر كبيرنا” [ref]رواه أبو يعلى[/ref] ، وذو الشيبة أولى بالاحترام وأجدر به، هذا الاحترام مما ينزل الناس منازلهم ويحفظ للكبراء هيبتهم ووقارهم ويجعل للرأس سلطة تقديرية على باقي الجسد بأعضائه المختلفة، وينبغي أن يكون للرأس دماغ يفكر بروية وحكمة، وشعر هو مصدر جمال وجلال، وعينان تريان بفراسة ونور، وأذنان تسمعان بتؤدة وصبر وحلم، ولسان ينطق بعلم، ويحسم بقول فصل، وعنق فضل وجلال هيبة ووقار، يمتاز به ويتميز عن باقي الجسد، لا منفصلا عنه ولا متعاليا عليه، على أن لا يكون هذا الاحترام مدعاة لخنوع الجسد وخضوعه، أو الاستخفاف به والنظر إليه بمنبرية فوقية وأستاذية مستعلية، مستغنية طاغية، فيتحول الاحترام إلى دروشة من جهة المرؤوس، وإلى جبروت من جهة الرئيس. ويخجلنا ويحرجنا أيضا أن لا يفهم غيرنا معماريتنا البنائية فينسب ما نكنه من احترام لمن هو فينا بمثابة الرأس إلى معاني التقديس. إما لأن نظرتهم إلى هذا الاحترام تتجاوز حدود الغبطة، أو لأن العلاقات التي تربط بين القيادات والقواعد تنخرط في سلك هذا التقديس بداعي الجهل أو المصلحة أو الذهنية القطيعية الرعوية، أو لأن ذات العلاقة في كثير من الحركات ولا نستثني الإسلامية منها علاقة عادية بين أقران بينهم تنوع واختلاف، وأخذ ورد، يفضيان إلى مساواة وتقارب بين زيد وعمر، لا ضير فيها أن يكون زيد بدل عمر، أو أن يسيء زيد الأدب مع عمر، أو يتجاوزه، وقد يعنف له القول، فليس لأحد فضل على أحد، وهذا لا يعني في شيء الاحترام الذي نقصد ونريد، والذي تتولد عنه اللبنة الثانية من لبنات عشر الإدارة الناجحة، الانسجام.
2. الانسجام:
بعد الاحترام الذي تقوى قيمته وتزداد كلما علا الرأس واقترب منه عضو الجسد، وكلما تباعد، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أولوا الفضل، لابد من أن يتوافر في الإدارة الناجحة عنصر الانسجام الذي يجعل عناصر هذه الإدارة كأسنان المشط سواسية متلاحمين متناغمين متآلفين، متوادين متراحمين، لا يعلو بعضهم على بعض، وإن علا جرح، ولا ينزل أحدهم إلى المستوى الدون فيتعطل دوره ويصبح وجوده كعدمه، هذا المشط هو الذي يزين رأس الجسد ويلمع صورته ويجلي خيره وبركته، والانسجام يتأسس على شورى تفضي إلى حسن الاختيار ووضع المناسب في المكان المناسب، كما تفضي إلى توافق يقصي الأنانيات وحب الظهور الذي يقسم الظهور، والحرص على الرئاسة والشفوف على الأقران وما إليها من الطرق الحزبية الملتوية، المستندة إلى الحسابات الضيقة.
3. الاقتحام:
بعد الاحترام والانسجام، لابد من اقتحام يؤدي إليه الإجماع بل الانجماع على الأمر، مثلما يقع الانجماع للحليب فيرتفع ويفيض ويصبح جاهزا ليكون طعاما يذيقك الله لدته ويبقي فيك قوته بعد أن أذهب عنه أذاه، ولا اقتحام لمحترمين دراويش ولا لمنسجمين قعود، أو يآكل بعضهم بعضا ويشاربه على موائد الغفلة والهذر وهذر الوقت والمزاح البارد، والقول بلا فعل، والأماني المعسولة بلا جهاد، والشيطنة الخرساء سكوتا عن الحق نصيحة ونقدا، وإنهاضا لفعل إيجابي، وردعا عن منكر سلبي، وتحفيزا إلى خير أو بر.
والاقتحام من أبواب المنهاج النبوي التي ندخل منها إلى رحاب الحق والصواب، تجاوزا لعقبات الجاهلية ظنا وحكما وتبرجا وحمية، وعقبات الفتنة عادة جارفة، وأناينة متمتمعة مستعلية، وذهنية قطيعية رعوية، وعقبات الواقع، سلطان فرعونية متألهة، هامانية مستبدة فاسدة، وقارونية انتهازية وصولية مسرفة.
4. التراضي:
يعني أن يفضي التشاور إلى تنازل الأعضاء المكونين للإدارة بعضهم عن بعض حقه لصالح الآخر، كل من جانبه، مثلما يتراضى البائع والمشتري على ثمن وسط، وإلا آل الأمر إلى امتناع أو شطط.
5. التياسر:
وأما التياسر فهو أقوى وأدعى إلى مجاهدة أكبر للنفس وأهوائها، ويعني أن يتنازل الأعضاء بعضهم لبعض عن حقه كله، كأن تتشاور الجماعة في شأن أمرين أو أكثر أيها أفضل فإذا رجحت كفة الأغلبية باختيار معين تنازل أصحاب الرأي المرجوح عن أمرهم المفضول عن طواعية ورضى وقبول، ومضوا إلى تنفيذ الأمر الفاضل بجندية وحسم وحزم.
6. التسامح:
وأما التسامح فأن يعفو بعضهم عن بعض ويصفح، وإن أخطأ في حقه وتجاوز الحد في معاملته، أو توهم الثاني ذلك ظنا خاطئا منه أو غالبا، وأن يجعلها لخصيمه أو غريمه صدقة بتلة لئلا يذهب التنازع بريح الجماعة فيكون الفشل هو المآل.
7. اكتشاف الطاقات:
بعد الاحترام والانسجام والاقتحام، وهي الثلاثية الأساس، والتراضي والتياسر والتسامح، وهي ثلاثية الإحساس النبراس، تأتي ثلاثية المراس: اكتشاف الطاقات، وتحرير المبادرات، وتفويض المسؤوليات.
اكتشاف الطاقات: الطاقة نهاية القدرة، والقدرة إخراج الملكة من مكامنها، ومالك الملك ومن ملك وما ملك الله سبحانه وتعالى، ومن الطاقات كامن نحتاج لاكتشافه إلى وقت ومنها ما يستدعي اكتشافه صبرا ومصابرة واصطبارا، ومنها ما يستوجب اختبارا واستفزازا واستنفارا، ومنها ما يتطلب التحدث بالنعمة تطوعا لا منا واستكثارا وافتخار. طاقات نكتشفها بوسيلة هي أشيروا علي معشر الناس، وأخرى نكتشفها من خلال أسلوب عماده يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، [ref]سورة القصص الآية 26[/ref] وثالثة نكتشفها من طريق “أنت لها يا حذيفة”، ورابعة عدوية نكتشفها من خلال “نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل”، وخامسة من باب اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ، [ref]سورة يوسف الآية 55[/ref] وسادسة من قبيل “سأعطي اللواء رجلا يحبه الله ورسوله”، أو “سيطلع عليكم رجل من أهل الجنة”، أو سابعة أوثامنة أو تاسعة أو عاشرة في القرآن بيانها، وفي السنة مضانها، وفي السيرة خبرها، وفي الواقع البشري تجربتها وخبرتها، و“الحكمة ضالة المؤمن أنا وجدها فهو أحق بها”، لا يمنعها أهلها فيظلمهم، ولا يعطيها غير أهلها فيظلمها.
8. تحرير المبادرات:
بعد اكتشاف الطاقات لزم تحرير المبادرات، وتحرير المبادرة ليس هو المبادرة الحرة، ولا المبادأة المسؤولة إنه في منزلة بين منزليهما، المبادأة المسؤولة أقوى من تحرير المبادرة لأنها عزمة من أمير، وللأمير عزمات، أو تشاور مع أهل الرأي والمشورة الأقرب والأقرب منهم إلى الصواب من أهل الاختصاص والتجارب الناجحة والخبرات الراجحة، والكفاءات العالية، والآراء البكر، أو الثيبات الودود الولود.
والمبادأة أشد إلزاما من تحرير المبادرة، التي لا تعني المبادرة الحرة حيث يكون المبادر مسؤولا عن مبادرته يتحمل تبعاتها لوحده، ويبادر في الحيز المتاح الذي يشغله ويشمله بالرعاية والمسؤولية، فإذا تجاوزت المبادرة حدود هذا المتاح ونطاق هذا الحيز وإطار هذه الرعاية والمسؤولية احتاج إلى من يحرر مبادرته ليتحمل معه تبعاتها، ويدعمها من موقعه وبحسب مستطاعه.
قيامك برحلة مع أسرتك إلى مكان سياحي ما، مبادرة حرة، واستنفارك أسر حيك لرحلة سياحية شأن آخر يحتاج إلى من يحرر لك هذه المبادرة، فيطلق سراحها من سجن الذاتية الضيقة، إلى فضاء الذاتية الجماعية الفسيحة.
9. تفويض المسؤوليات:
أما عن تفويض المسؤوليات فهو من حسن تدبير القيادة المسيرة الميسرة المشركة للناس، لا المشركة بالله تأليا على الخلق واستعبادا لهم، واستغلالا لطاقتهم بما يهدر تلك الطاقة، أو يضعها غير موضعها، أو يصرفها في غير طائل أو يحجمها بما يؤول بها إلى الانكماش، أو يحول بينها وبين الانتعاش. والقائد الجبار كما يخبر عنه المنهاج النبوي في كثير من فقراته وينبه إليه في عديد من تحذيراته، هو من يفعل كل شيء، والقائد المفوض من يفعل كل شيء بمن معه، فيوزع عليهم المهام، بمنطق تشاوري حكيم، توافقي سليم، تساعده على ذلك فراسته، ودراسته، وممارسته، وحراسته للأمر أن يسند لغير أهله أو يحرم منه أهله، أو أن لا يبلغ الأمر أجله.
10. القوة والمحبة:
والخيط الجامع لحبيبات هذا العقد الفريد، والمنته طرفاه إلى الرأس الشاهد الرشيد الذي يمثل واسطة العقد، المزين لجيد الجسد الحميد، عملة صعبة ذات وجهين القوة والمحبة، قوة هذه الإدارة الصلبة التي تمثل القاطرة التي تجر عربات القطار على سكة الجادة السوية، بمضاء عازم حازم حاسم، لا يقبل الانحراف عن القصد الغاية، ولا الانجراف إلى السبل المتشعبة الملتوية، بسرعة تناسب حجم القطار ووقوده، وطبيعة المراحل والمحطات والأهداف المرحلية، وبما يراعي راحة الراكبين، وأريحية الصاعدين والنازلين، ومصالح الواصلين، فلا تأخر ولا تخلف عن الخدمات الضرورية، ولا تخفف من المسؤوليات الراعية، ولا تكلف في تبرير الأخطاء المرتكبة، أو تسويف في تحقيق الوعود المرتقبة، أو تسيب في مراقبة أحوال الراكبين وصيانة الأجهزة، والأخذ على أيدي المتلاعبين والمشاغبين والمخربين.
ومع القوة لابد من محبة، بل المحبة روح القوة ولبها، كما هي الذلة على المؤمنين سابقة على العزة على الكافرين. محبة لله ولرسوله، وبالله وبرسوله، لتكون في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. محبة نستمدها من صحبة المحبوب ولي الله المتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الملهم بالحق والصواب، والحكمة وفصل الخطاب. ومحبة نستمطرها من عبادة الله الذي يحب من أقبل عليه ودعاه، وتقرب إليه بالفرض والنفل حتى يصير وليا محبوبا، يصير الحق سبحانه له -كما يليق بجلاله وعظيم شانه- سمعا وبصرا ويدا ورجلا، يعطى ما سأل، ويستعاذ مما منه استعاذ، كما أخبر عن ذلك الصادق المصدوق في الحديث القدسي المشهور. ومحبة نستذرها من محبة بعضنا لبعض، دستورها التجالس في الله، والتزاور في الله، والتباذل في الله تواصيا بالحق، وتواصيا بالصبر. لهذا كانت المحبة بدأ الخصال العشر، ومبتدأ شعب الإيمان، ولا إيمان لغير المتحابين الذين يفشو بينهم السلام. ومحبة نصونها بالشورى والنصيحة، ونعطي برهانا عليها الطاعة، وننمي رصيدها بالهدية، ابتسامة، وكلمة طيبة، وإماطة أذى، وحتى العيب يهدى، رضي الله عن الفاروق المحدَّث المحدِّث بهذا القول الفصل: رحم الله من أهدى إلي عيوبي). ومحبة نوفي لها المكيال بدعاء الرابطة، نحصي أهلها عددا، ولا نبقي أحدا، نترحم على من مات منهم، وندعو بالحفظ لمن بقي، ونسأل الله أن لا يكون منا أو فينا أو معنا محروم أو شقي. ومحبة هي إرادة الخير للناس كل الناس إلا من لا يرجى منهم خير ولا يؤمن شر فنكله إلى رب الناس، ملك الناس، نستعيذ به من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس.
إنها يا أخي إدارة عقول، وإدارة نفوس، وإدارة رؤوس، وإدارة قلوب، وإدارة أجساد، قبل أن تكون إدارة أوقات وأعمال وأموال، فلا بأس أن تصبر مع الولي المرشد، ليعلمني وإياك كيف ندبر الأمر أحسن تدبير، ونقدر له أحسن تقدير، ليكون البناء بناء تعمير، لا ناطحة سحاب فوق المستنقعات، ولا بناء على غير أساس يؤول إلى خراب، ولا بناء مسقوفا، وسقفه عن السماء ورب السماء -غاية الغايات- حجاب وأي حجاب !
أضف تعليقك (0 )