post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<h2>سلوك الصوفية</h2>
بعد جيل الصحابة رضي الله عنهم الذين جالسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاشروه، اختلف الناس وتداخلت الثقافات الوافدة واختلطت الأفهام، فحصل الغموض في معاني السلوك &#8220;جراء نهوض أسئلة فضولية فلسفية، وتكلم الناس فيما كان من حقه أن يُتلقَّى بالقَبول الفطري، وأظلم طريق السلوك وتعتَم علمه الذي كان مسلَّماً به عند الصحابة. وتعطل العمل السلوكي إلا عند طائفة سماهم التاريخ صوفية&#8221;) [ref]الإحسان، ج 2، ص: 374[/ref] ، فكثُر الكلام وقلَّ العمل، وهذا ما سمَّاه الندوي رحمه الله بـ&#8221;عاصفة عقلية جامحة بعثها علم الكلام&#8221;، واحتاج أمر السلوك –حسب رأي ابن تيمية- إلى &#8220;نظر خاص&#8221;) [ref]ابن تيمية أحمد عبد الحليم، الفتاوي، ج 22، ص: 334[/ref] . وفي صفوف الصوفية وقعت مزالق وأخطاء في طريق التربية، وانشغل القوم بأنفُسهم عن العالم، إضافة إلى أن &#8220;بعض المنتسبين للتصوف انزلقوا في الدروشة والمسكنة، وبعض النصابين باسم التصوف لبَّسوا على الناس بتواضع كاذب&#8221;) [ref]الإحسان، ج: 1، ص: 489[/ref] ، وعمت البدع وتفلسف السلوك حتى وقع بعضهم في الكفر والزندقة والقول بالحلول والاتحاد ناهيك عن الخرافة والسحر والشعوذة. قال الإمام: &#8220;فدخل تحت المرقعة التي كانت شعارا للزهد مرتزقةٌ باسم الطريق. وتبدأ الزاوية أو الخانقاه مدرسة علم وتربية في حياة الرجال المؤسسين، فلا تلبث أحيانا أن يدخلها بعدهم الانحراف&#8221;) [ref]عبد السلام ياسين، رجال القومة والإصلاح، منشورات الصفاء للإنتاج، ط1، 2001م،ص: 94[/ref] . وممن تحدثوا في السلوك وألفوا وحاضروا قومٌ لا تجربة لهم ولا معرفة، واكتفوا باطلاع ونصوص وشروح وتعليق على الشروح فحكموا رأيهم في قضايا خطيرة بالظنون والتخمينات.ومنهم من تحدث عن تجربة وذوق ومعرفة وهم الذين تسموا تاريخيا باسم &#8220;الصوفية&#8221;، ومِن الصوفية مَن جمع بين النظر العلمي والنظر العملي التطبيقي، وقد حافظوا على جوهر السلوك والمحبة والشوق والذكر والولاية والوراثة. وأجمعوا على أن طريق السلوك والمعرفة والولاية يتطلب: &#8211; صحبة شيخ عارف بالله، ومعناها محبة وتلمذة المُريد وجه الله والدار الآخرة لوليٍّ من أولياء الله تعالى عارفٍ بالطريق وما فيها من عقبات وعقابيل. وهي صحبة فردية بين شيخٍ ومريدٍ، في خلوة عن الناس ومعزل عن واقع الأمة الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وعن مصيرها&#8230; &#8211; سير العبد إلى الله وارتقاؤه في مقامات ودرجات وأحوال، دون انقطاع. بالذكر والصبر والخلوة والصوم والسهر&#8230; و&#8220;كلما تمكَّن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم، والواجب عليه منها أكبرَ وأكثرَ من الواجب على من دونه. ولهذا كان الواجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم –بل على جميع الرّسل- أعظم من الواجب على أممهم. والواجب على أولي العزم أعظم من الواجب على من دونهم. والواجب على أولي العلم أعظم من الواجب على من دونهم. وكل أحد بحسب مرتبته&#8221;) [ref]ابن قيم الجوزية عبد الرحمن، مدارج السالكين، ج 1، دار اب الهيثم، القاهرة، 2004م، ص: 78[/ref] . &#8211; تعدُّد طرائق وضوابط السلوك إلى الله بتعدد المدارس الصوفية، وإن كانت بينها آداب وشروط وأشكال مشتركة. وفي هذا التعدد والاختلاف يحصل القرب والبعد من المنهاج النبوي، حتى تشدد بعضهم فضيَّق وُسع السنة الغراء، وتساهل آخرون في الانضباط بسياج الشريعة فترخصوا.
<h2>سلوك مجاهدة وسلوك شكر</h2>
يقول الإمام رحمه الله مميزا بين سلوك المجاهدة الذي غلب في القرون الستة الأولى وسلوك الشكر الذي تجلى منذ الإمام الشاذلي رحمه الله: &#8220;كان سلوك القرون الأولى سلوك مجاهدة ورياضة لها قواعدها ورجالها كما وصف كلَّ ذلك القشيري في رسالته والغزالي في إحيائه. والشيخ في سلوك المجاهدة مُرشد وصاحب في الطريق وخبير بالعلل وبركة وقدوة. بعد أن أظهر الله كبار المشايخ مثل الجيلاني والرفاعي والشاذلي مِن بعدهم أصبح السلوك شيئا فشيئا عن طريق الشكر. )المجاهدة مُكَابَدَةٌ وصبر وصمت وعزلة وصوم وذكر وهم في الخلوات، حتى كان من المشايخ من يمنع مريده من مخالطة أحدٍ عدا شيخه، وطريق الشكر أيسر وأقرب، للشيخ و&#8221;مغناطيسيته&#8221; وبركته فيها الغناء الأول.&#8221;) [ref]الإحسان، ج 1، ص: 216[/ref] ، وقد توارث القوم أقوالا ومقالات تؤسس لطريق المجاهدة وتستخرف غيرها، نذكر منها بعض الأقوال التي أوردها الإمام القشيري رحمه الله في رسالته، منها قوله: &#8220;وأعلم أن من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمة. سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت أبا عثمان المغربي يقول: من ظن أن يفتح له شيء من هذه الطريقة، أو يكشف له عن شيء منها إلا بلزوم المجاهدة فهو في غلط&#8230; سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت محمد بن حامد يقول: سمعت أحمد بن خضروية يقول: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: لن ينال الرجل درجة الصالحين، حتى يجوز ست عقبات:)أولها: أن يغلق باب النعمة، ويفتح باب الشدة.)والثاني: أن يغلق باب العز، ويفتح باب الذلِّ.)والثالث: أن يغلق باب الراحة، ويفتح باب الجهد.)والرابع: أن يغلق باب النوم، ويفتح باب السهر.)والخامس: أن يغلق باب الغنى، ويفتح باب الفقرِ.)والسادس: أن يغلق باب الأمل، ويفتح باب الاستعداد للموت&#8230;)وأعلم أن أصل المجاهدة وملاكها: فطم النفس عن المألوفات، وحملها على خلاف هواها في عموم الأوقات.&#8221;) [ref]القشيري، الرسالة القشيرية، ص: 42-48، بتصرف[/ref] وفي فصل الجهاد من كتاب الإحسان، يميز بين أصحاب سلوك المجاهدة الذين ينتسبون للصوفية ويظهرون الزهادة والإكثار من النوافل و&#8220;لا حظَّ لهم من الإرادة ولا رائحة عندهم مِن طلب وجه الله عز وجل ولا خبر عندهم من رقائق التربية وصفاء الصوفية&#8221;) [ref]الإحسان، ج 2، ص: 453[/ref] ، وبين الصوفية الأولين الصادقين الذين داوموا –في الغالب-على العزلة والسهر والجوع والذكر والصمت، مع تزكية أنفسهم وأخذهم بخناقها. &#8220;فسلكوا إلى الله تعالى وتقدس فُرادى. وكان من مجاهدتهم لأنفسهم وتطويعهم لها آياتٌ للرجولة والفحولة ما أحوجنا للاهتداء بفقهها، لا بشكلها، في هذه الأزمنة التي طغى فيها المتاع الدنيوي، وتألهت فيه الأنانية الفردية، وانصبت فيه الشهوة ووسائل الشهوة انصباب البلاء الواصبِ.&#8221;) [ref]المرجع السابق، ص: 455[/ref] المجاهدة الفردية التي تروم مخالفة النفس ومحاربتها وتتأسس على أنه لا سلوك للعبد و&#8220;لا مفتاح له إلا بالمجاهدة وقمع الشهوات&#8221;) [ref]الغزالي أبو حامد، إحياء علوم الدين، ج 1، ص: 99[/ref] . فقد تثمر سلوكا فرديا يحقق للسالك صلاح حاله ونوال بغيته بِـ&#8220;الخوف والحزن والتفكر والمجاهدة ومراقبة الظاهر والباطن واجتناب دقيق الإثم وجليله والحرص على إدراك خفايا شهوات النفوس ومكايد الشيطان إلى غير ذلك&#8221;) [ref]المرجع السابق، ج 1، ص: 71[/ref] ، بحيث لا يتفاوت الناس إلا &#8220;بحسب درجات المجاهدة ودرجات الباطن في النظافة والطهارة&#8221;) [ref]المرجع السابق، ج 1، ص: 94[/ref] ، لكنها تُقعده عن مقام &#8220;نية الجهاد، وممارسة الجهاد، والصبر على الجهاد&#8221;) كما كان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. أما طريق الشكر فلا تخلو من عملٍ وبذلٍ، وليست كَسَلا وبطالة، وإنما طريق متحررة من &#8220;الانغلاق والانزواء والتقشف&#8221; )يغلب فيها الافتقار والانكسار والشعور بالتقصير والعجز والضعف، وشكر الله تعالى على منِّه وعطائه وكرمه، مع اتخاذ أسباب الكسب والسعي على العيال. وفي طريق الشكر &#8220;يترجح شرط الصحبة، وتحمل همّة الشيخ وإشعاعه الروحي قلوب تلامذته حملاً من مواطن الخطر وكأنه سفينة نوح&#8221;). [ref]الإحسان، ج 2، ص: 461[/ref] يتبع&#8230;
<a href="https://wp.me/p6RfNb-1QK"> في معالم تجديد السلوك إلى الله عند الإمام رحمه الله 3/1</a>
<a href="https://wp.me/p6RfNb-1U8"> في معالم تجديد السلوك إلى الله عند الإمام رحمه الله 3/3 </a>

التزكية والدعوة

في معالم تجديد السلوك إلى الله عند الإمام رحمه الله 3/2

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

الأستاذ أحمد الملاخ ثالث ثلاثة

همُّ الآخرة هو البداية الصحيحة

سيدي محمد العلوي ومفاتيح الصُّحبة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

في الذكرى 50 لرسالة الإسلام أو الطوفان

مقالات ذات صلة