كيف نهتدي بالقرآن؟
الكون آيات وعلامات، والعقل آلة زائغة فاشلة إن اشتغلت بالأثر عن المؤثر، ووقفت عند مظاهر الخلق، تقبل ببلادة التفسير العقلاني الذي يقول إن كل هذا لا معنى له. فمن يزعزع العقل المتحجر على ماديته من هذه المواقع المحصنة؟
الجواب أن دعوة الرسل وخطاب الله عز وجل عباده في القرآن يعتمدان على إثارة كوامن الإنسان التي خلقها سبحانه قبل العقل ومن وراء العقل وفوق العقل في طيات الكائن البشري حتى يميل المعنى الإنساني المسمى قلبا إلى «سماع» الحق. وكلمة «سمع» في القرآن أساسية. فهي في القرآن مفتاح القلب ومدخل الإيمان. وهي في القرآن كثير. قال الله عز وجل:﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ (الأنعام،36). على العقل أن يجالس القرآن والداعيَ ويتلمذ له و«يسمع». فالسماع بهذا المعنى القرآني هو مصدر العلم. ثم يتسرب الإيمان للقلب، ويتسع القلب ليكون وعاء صالحا لاستيعاب القرآن ورسالة القرآن.
كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: «أوتينا الإيمان قبل القرآن»، يخاطب جيلا لم ينزل القرآن فيهم وإنما نزلوا هم بعد نزول القرآن. فيقول: «وأنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان، فأنتم تنثرونه نثر الدقل». أخرجه وصححه الحاكم رحمه الله. والدقل رديء التمر.
العقل الفطري الذي تفتح فسمع بسماع القلب، وآمن بإيمانه، يَسْبِقُ إليه تعظيم المتكلم بالقرآن، وتصديق المبلغ للقرآن، فيهتدي. أما الذي استعرض صفحات المصحف، أو سمع سماع المتكئ، أو «قرأ» قراءة الفيلسوف المؤرخ، فالقرآن عنده بضاعة كسائر البضائع الكلامية. يستهين به كما عبر الصحابي الجليل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي رحمهم الله. وأثنى الله سبحانه على المحسنين في كتابه فوصفهم بأنه يحبهم، وأن رحمته قريب منهم، وأن لهم عنده الجزاء والأجر، وأنه سبحانه لا يضيع أجرهم، وأن كتاب الله الحكيم هدى ورحمة لهم كما قرأنا أول العنوان من سورة لقمان.
الإحسان درجة فوق الإيمان، والاهتداء بالقرآن والاسترحام به والاستدلال بآياته الحكيمة وآيات الله في الكون لا يحق لنا منه نصيب إلا بمقدار ما معنا من إحسان، أي من تعلق بالله جل جلاله واستماع لكلامه، مستحضرين من يخاطبنا وما يريد منا وما يريد بنا وإلى أي مصير يصيرنا. وبهذا يكون محور حياتنا هذا الموقف الإحساني، وتكون قبلتَنا الله جلت عظمته، ويسارع العقل لإسعاف كياننا العام في عبوديته لله وحده لا شريك له. وبالإقناع الدعَويِّ فقط يمكن للعقل أن ينتقل هذه النقلة لا بالإكراه والمراقبة. الإقناع الدعوي يبدأ بصحبة في الله.
ثم إن القرآن خاطب المؤمنين عامة -والمؤمنون على درجات من الإحسان متفاوتة- بالتكاليف الشرعية. فإذا كان من يقرأ القرآن أو يزعم أنه يحكم بالقرآن وقلبه خاو من الإيمان فلا يعدو زَعْمُه وقراءته أن يكونا ثوبَيْ زور ملفقين على دخائل النفاق والاستهزاء بكتاب الله. القرآن والنبوة، ص 23-25.
أضف تعليقك (0 )