لنكون شهداء بالقسط
بهذه الجائحة العالمية كوفيد 19 – وهي قدر من أقدار الله عز وجل – انكشفت مآسي المجتمعات المعاصرة في ظل هذه الحضارة الاستهلاكية التي تهيمن على العالم، وتغرقه بسلعها ومنتجاتها وبضائعها، وبإعلامها الصاخب، ومشاريعها الثقافية و”الفنية” التي تلعب بهوية الإنسان، ووجوده، وعقله، وروحه.
انكشف وجه الفقر في أحشاء المجتمعات المتقدمة جدا، وظهرت ثغرات العدالة الاجتماعية بل فظاعاتها إذ غطت لعقود متتالية حقيقة جعل ملايين الناس عبيدا في شركات الصناعة والتكنولوجيا والاقتصاد وأسواق المال .. كما انكشف مدى الجشع الذي يملأ الحضارة “العقلانية” فيزدري بالإنسان، ويرتب في درجات متباعدة “مواطني” الشمال و “مواطني” الجنوب، “الإنسان الأبيض” و”الإنسان الملون”.
في ظل هذا الوضع الإنساني المرتبك، نشعر بالحاجة الملحة إلى تجديد مفهوم الشهادة في العقل والوجدان، في الواقع بجميع أبعاده ومجالاته، استجابة للنداء الإلهي الخالد، وتأسيا برسول الرحمة والرفق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ربنا سبحانه في كتابه العزيز: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” (البقرة : 143)
وقال الله تعالى في سورة آل عمران: “إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ” (آل عمران: 140)
إنه لا أحد من الناس يشمله الاستثناء من سنن الله تعالى، التي أجراها على جميع خلقه، سواء أقر بها المؤمنون أو أنكرها الكافرون والملحدون. ومن سننه أن ينزل بالناس القرح والجوع والوباء والمرض وغيرها من الأقدار. ومن سننه مداولة الأيام بين الناس، جميع الناس.
وإن التطلع إلى درجة الشهادة بالقسط بين الناس، والقيام لله، نعمة يمن الله بها على عباده متى هيأ لهم هاديا يهديهم إليه صراطا مستقيما، ويجدد لهم دينهم، بعد طول أمد تقسو فيه القلوب، وتنطمس الفطر، وتتراجع الهمم من الأعالي إلى الأسافل.
وإننا لنحمد الله تعالى الذي أكرمنا في زماننا هذا بثلة من رجال التربية والدعوة، الصادقين، التوابين، المتطهرين، اجتمعوا وتعاونوا على دعوة الناس إلى التوبة وطلب وجه الله تعالى، والقيام له، والشهادة بالقسط، والسعي لإنقاذ الإنسانية مما هي فيه، وترشيد مسيرتها، وتقويم عملها.
ويعد الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله تعالى، علامة مميزة في سلسلة العلماء الشاهدين بالقسط القائمين لله، بما بذله من جهود علمية وتربوية وسياسية، في سياق التكامل مع جهود متنوعة لعلماء الأمة الإسلامية وفضلائها، وبما بثه من معاني التجديد الإيماني والرسالي في حياة هذه الأجيال المباركة التي صارت تتطلع إلى إدراك درجة الشهادة بالقسط، استحضارا للرسول الأسوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولمنهاجه في تربية المؤمنين والمؤمنات، وتنظيم جهودهم، وتعزيز حضورهم الفاعل بين الناس في العالم يومئذ.
لنذكر قول الله تعالى في آيتين من كتاب الله العزيز:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } (النساء: 135)
وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُوا} (المائدة، 8).
يحث القرآن الكريم المؤمنين على تمثل معنيين متكاملين، هما الشهادة والقيام لله. يقول الإمام عبد السلام ياسين: ” أورد الآيتين من سورتي النساء والمائدة الآمرتين بالقيام والشهادة لله بالقسط. ثم ضع الشطر الأول من الأولى قبالة الشطر الأول من الأخرى، واقرأ أن القيام بالقسط يقابل القيام لله، وأن الشهادة لله تقابل الشهادة بالقسط. معناه أن القيام لا يكون لله إلا كان القسط في حق الناس عديله. وأن الشهادة بمعناها القضائي وبكل معنى تحتمله اللفظة، لا تكون لله إن لم يكن القسط بين الناس موازيا لها. ” (عبد السلام ياسين، في الاقتصاد، ص 193)
إن تحقيق معنى الشهادة بالقسط لا يتم بخروج شعوبنا المسلمة من سياق التبعية والضعف الذي يفرضه مستكبرو العالم وينفذه تابعوهم المحليون، إلى أفق بناء نموذج حي ناجح للحياة الإنسانية المتوازنة، علما وعملا وخلقا. نموذج حي ناجح على مستوى الفرد والمجتمع والدولة.
أضف تعليقك (0 )